لا يزال المشهد السوداني يفتقد لحالة من الاختراق والحلحلة بعدما اتخذ الصراع مسارًا ممتدًا وانتقال ساحات الاقتتال إلى خارج العاصمة الخرطوم واتساع نطاق المواجهات والعنف القبلي، في الوقت الذي تتعثر فيه المبادرات الإقليمية والدولية وتتفاقم فيه الأوضاع الإنسانية، على نحوٍ يثير المخاوف من استمرار الصراع وتحوله إلى حرب أهلية واستمرار تفاقم الأوضاع الإنسانية، بما يلقي بأعباء إقليمية في ظل محدودية الاستجابة الإنسانية.
أولًا: انتقال ساحة المواجهة خارج الخرطوم
تشتد المواجهة بين الجيش والدعم السريع في مدن الخرطوم الثلاث خلال الأسابيع الأخيرة؛ إذ شهدت مدينة أم درمان غرب الخرطوم معارك مكثفة في إطار خطة للقوات المسلحة لتكثيف الضغط على الدعم السريع، في ضوء أهمية أم درمان بوصفها القاعدة التي تلتقي فيها خطوط الإمداد والعتاد القادمة من دارفور، فضلًا عن أنها تحتضن القاعدة الجوية ومنطقتي كرري العسكرية وسلاح المهندسين والمدفعية والصواريخ أرض أرض التابعة للجيش.
ومع اشتداد المعارك في أقصى جنوب الخرطوم، يبدو أن الدعم السريع تسعى إلى توسيع نطاق المعارك خارج الخرطوم لولايات دارفور وإلى شمال وشرق السودان. ومنذ سيطرة الدعم السريع على معسكر الاحتياط المركزي لقوات شرطية جنوبي الخرطوم وكميات كبيرة من الأسلحة والذخائر أواخر الشهر الماضي، أخذ الصراع منحى جديدًا، وارتفعت حدة القتال بين الطرفين، ودخلت أسلحة جديدة على خط المواجهة خاصة الطائرات المسيرة.
وكانت الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور مسرحًا للاشتباكات إلى جانب نيالا في الجنوب وزالنجي في الوسط وكتم والفاشر في الشمال رغم المبادرات المجتمعية لبسط الأمن، مما جعل دارفور تتصدر المناطق التي تشهد تصاعد أعداد القتلى والنازحين خاصة إلى تشاد في ظل ظروف إنسانية صعبة.
وفي منطقة النيل الأزرق، هناك معارك قبلية بين “الهوسا” و”النوبة” منذ العام الماضي على امتلاك الأرض. وفي الشرق، كانت هناك مطالب من “البجا” بتسليحهم لمواجهة الدعم السريع، بينما في جنوب كردفان عادت الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة عبد العزيز الحلو للدخول على خط المواجهة مع القوات المسلحة والسيطرة على أربعة مناطق بالولاية، رغم اتفاق وقف إطلاق النار الذي وقعته الحركة مع الحكومة السودانية منذ ثلاث سنوات.
ومنذ أبريل والقتال متجدد بين القبائل في ولايات دارفور، إلى جانب دخول الدعم السريع على خط المواجهة؛ إذ شنت هجومًا على مدينة كتم الواقعة غرب الفاشر عاصمة شمال دارفور، تمكنت خلاله من بسط سيطرتها على القاعدة العسكرية بالمحلية، فضلًا عما سببه القتال من جرحى وقتلى ونازحين، مما أدى في النهاية إلى إعلان حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي دارفور بوصفها مدينة منكوبة مطالبًا بتكثيف المساعدات الإنسانية إليها.
وقد أدت جبهات القتال الآخذة في التمدد إلى تعالي الأصوات المنادية بالتدخل الدولي تحت نطاق الفصل السابع، واستمرار وجود المتمردين داخل المرافق الحكومية والمدنية والمنازل، خاصة مع فشل الهدن المعلن عنها لوقف إطلاق النار وتعثر المباحثات بين الطرفين في جدة، ورفض مبادرة الإيجاد، مما يفتح الباب أمام صراع ممتد لا حسم له في الأجيل القصير.
ثانيًا: دخول الميليشيات والقبائل على خط المواجهة
بدأت الأوضاع الميدانية في التعقيد مع إشراك المدنيين في القتال، واصطفاف القبائل إلى جانب أي من طرفي القتال، على نحوٍ يتطلب معه الحل خارطة طريق مجتمعية تضمن حل ومعالجة جذور الأزمات والمظالم التاريخية وفق ما كان يحاول اتفاق جوبا للسلام معالجتها. ويثير دخول الميليشيات على خط الصراع مخاوف دخول البلاد في حرب أهلية؛ إذ توجد محفزات لانخراط قبلي على نطاق الولايات للاصطفاف إلى جانب أي من الطرفين.
وهناك دعوات متكررة من الجيش للقبائل والشباب للانضمام إلى المعارك لإسناد القوات المسلحة، مما يثير مخاوف تسليح القبائل. وفي هذا السياق، تخرج المسيرات الداعمة للجيش في الولايات المختلفة، ومؤخرًا أعلن والي الجزيرة المكلف إسماعيل عوض الله العاقب عن فتح معسكرات جديدة لتجنيد 20 ألف شاب مقاتل لإسناد القوات المسلحة، وتجاوزت التبرعات المالية لإنقاذ القوات المسلحة 25 مليون جنيه.
وعلى مدار الشهرين الماضيين، تعرضت ولايات دارفور لآثار مدمرة لانتقال المواجهة بين الجيش والدعم السريع إلى دارفور، علاوة على عودة المواجهات بين القبائل مع تصاعد الانحياز لأحد طرفي الصراع. وفي السابع من يوليو الجاري، أعلنت سبع قبائل عربية منها: “المسيرية” و”الرزيقات” و”الهبانية” في ولاية جنوب دارفور عن دعمها للدعم السريع، مما يثير المخاوف من الصراع العرقي بين القبائل العربية والميليشيات المسلحة المنتمية للقبائل الإفريقية كما كان الحال في عهد البشير.
وقد كشفت الأحداث الأخيرة عن ارتكاب الدعم السريع انتهاكات واسعة ضد قبيلة “المساليت” في مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور، على نحوٍ يثير الخشية من تحول الصراع إلى صراع عرقي في ولاية جنوب دارفور، خصوصًا مع سقوط أغلب الولاية بيد الدعم السريع، مما يثير مخاوف سيطرة الدعم السريع على الولاية وحدوث انشقاق في الوقت الذي أعلنت فيه القبائل المسلحة في بداية الصراع عن حيادها في المعركة. وقد أعلنت الدعم السريع تصديها للقوات المسلحة في منطقة كأس بجنوب دارفور في اتجاه نيالا، مقابل السيطرة للجيش في شرق ووسط دارفور.
ويعد العنف القبلي أحد محركات الصراع الاجتماعي الذي يغذي الصراع المسلح الدائر؛ إذ عادت الاشتباكات بين “المساليت” والقبائل العربية، واخترقت اتفاقات وقف العدائيات، والأمر نفسه تكرر بين قبيلتي “المعاليا” و”المسيرية” في ولاية غرب كردفان.
وفي نهاية أبريل الماضي، أعلنت أربع حركات مسلحة موقعة على اتفاق جوبا للسلام وهي: تحرير السودان، والعدل والمساواة، وتجمع قوى تحرير السودان، والتحالف السوداني، عن نشر قوات مشتركة لتأمين ولايات دارفور، رغم إعلان أغلب قادة الحركات المسلحة حيادها منذ اندلاع الصراع ومساعيهم للوساطة والتهدئة بين الطرفين.
ثالثًا: البحث عن حلول سياسية وتأزم الأوضاع الإنسانية
منذ اليوم الأول لاندلاع الصراع، أجمعت القوى الإقليمية والدولية كافة على ضرورة الحل السياسي والعودة للمسار الانتقالي المتعثر، وهو الموقف الذي انحازت له القوى المدنية بعد أن حافظت على صمتها وحيادها لفترة. وتبلورت المواقف من تسوية الصراع في شكل مبادرات مقترحة لتسوية الأزمة، بداية من مبادرة جدة لوقف إطلاق النار وتيسير وصول المساعدات الإنسانية كخطوة أولى نحو إطلاق عملية سياسية وتسوية شاملة.
وقد سعت دول “الإيجاد” إلى طرح مبادرة للتسوية السياسية تبدأ بعقد لقاء مباشر بين رئيس مجلس السيادة وقائد الدعم السريع، على أن تنطلق عملية سياسية شاملة بإشراك القوى المدنية، لكن لاقت هذه المبادرة تحفظًا من القوات المسلحة. وبالمثل تسعى دول الجوار الأفريقي وعلى رأسها مصر إلى طرح مبادرة جديدة لصياغة رؤية مشتركة لدول الجوار المُباشر للسودان، واتخاذ خطوات لحل الأزمة وحقن دماء الشعب السوداني، وذلك من خلال قمة دول جوار السودان التي تستضيفها القاهرة يوم 13 يوليو الجاري.
في المقابل، وبعد فترة من اندلاع الصراع بدأت القوى السودانية في تكثيف التواصل مع الخارج لتوضيح المواقف وما يجري بالداخل، فمنذ تعيينه نائبًا لرئيس مجلس السيادة السوداني، أجرى مالك عقار عددًا من الجولات الخارجية بدأها بدول الجوار بداية من جنوب السودان وكينيا ومصر وإثيوبيا وأخيرًا أجرى زيارة إلى روسيا في إطار مساعي تحييد الدعم المقدم من “فاجنر” للدعم السريع.
وقد أجرى يوسف عزت مستشار قائد الدعم السريع حميدتي جولة أوروبية في السابع والعشرين من مايو الماضي، سبقتها جولة إلى دول الجوار الإفريقي، بدأها من المملكة العربية السعودية مرورًا بمصر والمغرب ودول غرب إفريقيا، علاوة على جنوب السودان وإثيوبيا حيث اختتم جولته الإفريقية متوجهًا إلى إثيوبيا في 25 مايو وسبقتها أوغندا في 18 مايو؛ في محاولة لحشد الدعم والتأييد لرؤية الدعم السريع.
على الجانب الآخر، تسعى القوى المدنية إلى إيجاد حل سياسي للأزمة، من خلال مبادرات تعلن عنها الأحزاب والقوى المختلفة، خاصة بعد أن تعالت أصوات القوى الدولية بضرورة إشراك القوى المدنية في أية تسوية سياسية مقبلة. وقد بدأ وفد من القوى السياسية والمدنية جولة إقليمية ضم كلًا من: نائب رئيس حزب المؤتمر السوداني خالد عمر يوسف، والقيادي في الحزب الاتحادي الديمقراطي – الأصل إبراهيم الميرغني، ورئيس الحركة الشعبية – التيار الثوري الديمقراطي ياسر عرمان، والقيادي في التجمع الاتحادي وعضو مجلس السيادة السابق محمد الفكي سليمان، ووزير العدل السابق نصر الدين عبد الباري، وعضو المجلس السيادي السابق محمد حسن التعايشي، ورئيس تجمع قوى تحرير السودان الطاهر حجر، ورئيس الجبهة الثورية الهادي إدريس، وممثل تجمع المهنيين طه إسحاق.
شملت هذه الجولة كلًا من: أوغندا حيث التقى الوفد الرئيس الأوغندي في 3 يوليو لتوضيح ما يجري في السودان وأهمية إيقاف الحرب وإيجاد حل سياسي شامل و جيش قومي ومهني وحكم ديمقراطي وسلام مستدام، بالإضافة إلى تشاد، ومصر، وجنوب السودان، والسعودية، حيث توجه وفد إلى السعودية بينما الآخر إلى تشاد لحثها على تفعيل المبادرة الإفريقية والتدخل لحل الأزمة، على أن يلتقي الطرفان في جوبا ومنها إلى القاهرة.
وظلت هذه القوى التي وقع أغلبها على الاتفاق الإطاري على الحياد حتى اشتد القتال، فبدأت تبحث عن دور في حل الأزمة وممارسة ضغوط على الخارج، خاصة مع الانتقادات التي تعرضت لها جراء صمتها، إلى جانب أهمية أن يكون هناك صوت آخر تسمعه القوى المؤثرة إقليميًا بعيدًا عن طرفي الصراع، وإشراك القوى المدنية في الحلول حتى لا يتم عسكرة المجال العام. وقد دعا حاكم إقليم دارفور إلى تجميع المبادرات الوطنية في مبادرة واحدة تبدأ بوقف إطلاق النار وتشكيل حكومة تصريف أعمال، على أن تتزامن المفاوضات بين طرفي الصراع مع العملية السياسية الدستورية، وهو جزء من المواقف التي تتبناها القوى المدنية والمسلحة كافة لاستعادة الاستقرار في البلاد.
وفق آخر تقديرات الأمم المتحدة للأوضاع الإنسانية، أوضح مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في السودان“أوتشا” تسبب القتال في نزوح نحو 2.8 مليون شخص، منهم 2.2 مليون نازح داخلي بينما نزح إلى الجوار الإقليمي 651 ألف، وينتمي معظم النازحين إلى الخرطوم حيث فر منها 1.5 مليون شخص، فيما نزح من ولاية غرب دارفور 256 ألف شخص، ومن إقليم دارفور ككل 670 ألف شخص. وتأتي هذه الأعداد في ظل وجود 3.7 ملايين نازح كان منهم 2.5 مليون في دارفور قبل اندلاع الصراع الأخير.
وقد قُتل 15 شخصًا من العاملين في المجال الإنساني، فيما جرى نهب 44 مستودعًا و76 مكتبًا وسرقة 188 مركبة من المنظمات الإنسانية، ووفق تقديرات الأمم المتحدة فإن هناك 24.7 مليون شخص –نصف عدد السكان- بحاجة إلى المساعدات الإنسانية، وهناك خطط لتقديم مساعدات لحوالي 18.1 مليون شخص هذا العام. وتظهر التقديرات أزمة غذاء حادة يتعرض لها السودان، في ظل المخاوف من فشل الموسم الزراعي وتراجع الدعم لعملية الإنتاج الزراعي، مع تعرض مناطق الزراعة لمواجهات حادة، فضلًا عن تصاعد الاشتباكات بين الرعاة والمزارعين، مع تراجع مستويات التعايش السلمي بين القبائل. في الأخير، يبدو استمرار طرفي الصراع في معركة الاستنزاف لقدرات الآخر بما يعيد صياغة المعادلة وموازين القوى على الأرض على نحوٍ يعيد ترتيب أوراق المشهد ويفرض رؤية الطرف المتقدم ميدانيًا على طاولة التفاوض. وفي ظل هذه الرؤية المتبناة من الطرفين، تصاغ كافة التفاعلات السياسية والمجتمعية، إذ بات العنف القلبي والاستقطاب السياسي أحد الأدوات التي يوظفها طرفا الصراع لإعادة صياغة المعادلة.
.
رابط المصدر: