د. علي المعموري
نشأ مفهوم النظام الدولي في إطار اتفاقيات وستفاليا (1644-1648)، والتي أنهت فترة طويلة من الحروب الأوروبية، سيما حربي الثلاثين عام وحرب الثمانين عام، والتي من خلالها تم تمزيق أوروبا، من خلال صراعات الإمبراطورية الإسبانية المدعومة من قبل الكنيسة الكاثوليكية الرومانية ودول شمال القارة البروتستانتية والتي تحالفت مع ألمانيا وفرنسا، والتي دخلت للحلف رغم أنها كاثوليكية من أجل تحجيم ودفع التوسع الأسباني. شكلت اتفاقيات وستفاليا البذرة الأولى لظهور أخلاقي قانوني رسمي للدولة القومية، حيث حكمت تلك الاتفاقيات النظام الدولي حتى الحرب العالمية الأولى (1914-1918).
قبل الفترة أعلاه كانت شكل العلاقات بين المجتمعات لا تحمل سوى منطق القوة المفرطة غير المبررة من أجل إثبات وجودها أو حتى فرض هيمنتها بعيداً عن ما يجب أن يتمتع به الإنسان السوي كعضو مؤسس لهذا المجتمع، لذا وجدت حاجة ملحة إلى وجود تنظيمات قانونية وسياسية تحدد سلوكيات الأفراد ضمن تلك المجتمعات المؤسسة لها، ونتيجة محتمة للحرب العالمية الأولى فشلت مقررات معاهدات وستفاليا، وهو الاختبار الأول الذي يفشل فيه المجتمع والنظام الدولي منذ ظهور التنظيم الدولي والدولة القومية، لذا وجد من الضروري إنشاء منظمة عالمية لتنظيم سلوكيات الدول ووضع معايير أخلاقية تتم من خلالها فرض واقع جديد على أساس اتفاق محدد وهو إنشاء عصبة الأمم المتحدة والتي جاءت بعد مقررات معاهدة فرساي 1919.
ومنذ فترة إنتهاء الحرب العالمية الأولى إلى عام 1939، لم تستطع المنظمة أن تحدد وتحجم سلوكيات الدول بشكل يتناسب ونشوء المنظمة وظلت إشكالية المعايير الأخلاقية والقيمية للدول مستمرة حين قيام الحرب العالمية الثانية عام 1939 والتي أوضحت الفشل الثاني في الاختبار الحقيقي للنظام والمجتمع الدولي والذي أوجد حالة ملحة بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية 1945 إلى ضرورة إنشاء منظمة عالمية قوية تفرض أخلاقيات تناسب والمرحلة التي تتطلبها الدول المنتصرة، وجاءت معاهدة سان فرانسيسكو لتضع البذرة الأولى لإنشاء منظمة الأمم المتحدة.
ورغم كل هذا، فإن إنشاء الأمم المتحدة كانت تمثل إرادة الدول المنتصرة في الحرب وهذا يضعنا أما اختبار حقيقي وجدلية أخلاقية أخرى حول المباديء والقيم التي سيتم اعتمادها في مرحلة مابعد الحرب العالمية الثانية.
بغض النظر عن كل ما ذكر، فإن كل ما قدم من مساعي لتثبيت أركان النظام الدولي وأخلاقياته، إلا أن الحرب الحقيقة الوحيدة التي طغت على مجمل العلاقات بين الدول والمنظمات المعنية بذلك وهذه وحدها تجعل أخلاقية النظام والمجتمع الدولي على المحك وشفا حفرة من الانهيار، ورغم كل الدعوات إلى إيقاف الحروب من قبل كثير من الدول والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان ودعاة السلام، إلا أنه لم يتغير سوى شكل الحرب وتأطيره بالقانون الدولي بدعوى الحفاظ على السلم والأمن الدولي، وأصبحت الحروب والنزاعات بين الدول تأخذ شكلاً وطبيعة أخرى، وأصبحت علامة التنافس بين الدول أحد أبعاد الحروب غير المباشرة منها الحروب الإقتصادية، والبكتريولوجية والتي نعيشها اليوم في ظل حرب اللقاحات الناتجة عن تفشي جائحة كورونا العالمي، والتي وسعت من إطار الحروب ذات البعد البكتريولوجي.
لقد أظهرت الأزمة العالمية والمتمثلة بجائحة كورونا الوجه الحقيقي للدول التي تدعي المساواة، وكشفت لنا إشكالية حقيقية في أخلاقيات الأمم، والتي كانت تعاني منها قبل ظهور الدولة القومية وبعدها ومن ثم حين ظهور التنظيم الدولي إلى يومنا هذا، إلا أن الفارق الوحيد أنها كانت الإشكالية الأخلاقية قبل ذلك تعبر عنها من خلال الحرب المباشرة، ومن ثم انتقلت فيما بعد بتأطيرها ضمن إطار قانوني مؤسساتي يفرض واقعاً جديداً.
وبعد كل ذلك جاءت التدخلات والإبادات ضمن ذلك الإطار دون الولوج بحيثيات القيم والمنظومات الأخلاقية، وجاءت الولايات المتحدة لتقود العالم من خلال تلك القيم والتي من المفروض تمثل الرأي العالمي والرأي العام الأمريكي الذي ينظر على أنه المحدد لمجموعة النظم التي تتبعها الولايات المتحدة بقيادتها للعالم، من خلال تطبيق النظام القيمي في سلوكها الدولي سيما وأنها تدعي قيادة العالم الحر، حيث أصبحت دلالات السلوك الإقتصادي للدول والفاعلين الدوليين وعلى رأسهم الولايات المتحدة أحد سمات 20 سنة الماضية، حيث أخذ التنافس العالمي على قيادة العالم يأخذ منحى آخر منذ ظهور الصين كفاعل جيو- إقتصادي مناهض ومزاحم للولايات المتحدة، وكلما انتقلنا من مرحلة إلى مرحلة أخرى من النظام الدولي نجد الفشل يحيط به نتيجة تغليب المصلحة القومية للدول على مجمل أخلاقياته دون الإكتراث للنتائج السلبية المتمخضة عنه.
لقد أظهرت أزمة كورونا طبيعة السلوك العدواني غير الأخلاقي الذي تمتعت به الدول ولا تزال، والتي أظهرت البقاء للأقوى دون الاكتراث لطبيعة العلاقات الدولية التي تأخذ طابعاً سوسيولوجياً تضامنياً في المسؤولية وسياسياً في التوجه، لقد أفرزت تلك الأزمة هوة الانشقاق والتصدع في النظام العالمي والأسس التي من أجلها قامت قيادة العالم، كما أظهرت مدى حدة شكل التنافس وإفرازاته، ظهور التنافس على القيادة بين الولايات المتحدة والصين والبحث عن أدوار أخرى من الممكن إنقاذ ما تم بقاءه من ذلك التصدع.
نتيجة لذلك نجد أن الاختبار الثاني من أزمة كورونا هو عملية تصنيع وتوزيع اللقاحات بشكل متساو وعادل، وهو ما جاء نتيجة إعطاء بعداً جيو- إقتصاديا تنافسياً للأزمة الحالية وصراعاً بكتريولوجيا جديداً للتنافس العالمي ورسم ملامح النظام العالمي الجديد.
جاءت أزمة كورونا لتعطي الملامح الحقيقية لعالم مابعد كورونا وشكل النظام العالمي الجديد والحاجة إلى قيادة جديدة في ظل تنامي وتيرة التنافس اللاأخلاقي التي أتسمت بها مرحلة ما بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 بصورة عامة إلى يومنا هذا.
بدأت حرب اللقاحات، وهي أولى الحروب البكتريولوجية والتي اتسم بها عالم مابعد كورنا، بين الشركات العالمية المصنعة للقاح فيما بينها من أجل الوصول إلى لقاح ناجع للفيروس المنتشر وأصبح الصراع محتدم من أجل سباق الإعلان عن التوصل للقاح، أما من جانب آخر فقامت الكثير من الدول بسباق التصريحات لإعلان عن توصلها لإنتاج اللقاح المفترض دون الخوض في حيثيات وسلبيات النتائج المترتبة على ذلك، وبهذا فحرب اللقاحات ظهرت على صعيدين أو مستويين:-
الصعيد الأول: صراع الشركات العملاقة العالمية للأدوية والتي تحاول فرض سيطرتها على السوق العالمي للقاح وعالم الأدوية المستقبلي بشكل عام.
الصعيد الثاني: صراع الدول الراعية والمصنفة لشركات الأدوية والتي احتدم الصراع فيما بينها على شكلين: الشكل الأول، ضرورة إسراعها في الحصول على اللقاح أولاً دون الدول الباقية يتبعها الشكل الثاني، بقيام تلك الدول تسخير كافة الوسائل القانونية وغير القانونية للحيلولة دون حصول بقية الدول على اللقاح من أجل تغطية النقص الحاصل في اللقاح.
وهذا يثير مرة أخرى الجدلية الأخلاقية للنظام الدولي والتي لا يزال يعاني منها إلى يومنا هذا، سيما وأن الأزمة الحالية هي أزمة صحية إنسانية تجعل المنظومة العالمية بكافة توجهاتها أمام إختبار أخلاقي إنساني حقيقي، وأولى تلك الجدلية و إحداها ما نشرته صحيفة الإندبندنت البريطانية حول أن الإتحاد الأوروبي على استعداد لاستخدام كافة الطرق والوسائل المتاحة القانونية من أجل عرقلة تصدير لقاح فايزر المضاد لفيروس كورونا المستجد إلى بريطانيا وسط النقص الحاصل في ناتج التوريدات وهو ما يعد ذلك ضمن إطار حرب اللقاحات المتداولة اليوم، وهو ما جاء نتيجة قرار شركة آسترازينيكا البريطانية– السويدية حول تأخير توريد لقاحها للإتحاد الأوروبي بعذر ما يسمي بـ(مشاكل في الإنتاج)، إلا أنه في الوقت ذاته يتم توفير اللقاح بالكمية الضرورية لبريطانيا، بالمقابل نظر الاتحاد الأوروبي في إمكانية عرقلة توريد لقاح فايزر الأمريكي إلى بريطانيا، هذا من جانب، ومن جانب آخر جاء ذلك أصلاً نتيجة تصاعد وتيرة حدة الصراع بين الولايات المتحدة والصين حول اللقاحات والتي سبق وأن ذكرت على أنها أحدى الحروب البكترويولوجية المتصاعدة نتيجة التنافس الأمريكي– الصيني على قيادة العالم والتي تمثل إحدى مراحل مابعد إنتشار فيروس كورونا والحاجة الملحة لوجود تمثيل قيادي أخلاقي للعالم نتيجة تخلي الولايات المتحدة عن ريادتها في هذا المجال والذي أطلق عليه الكثيرين بأنها حرب باردة جديدة، إلا أنه يمكن أن نعده بأبعاد ووسائل تختلف عن المتعارف عليها.
بغض النظر عن نجاعة اللقاح من عدمه، أو وجوب حصول الدول على جرعتين من اللقاحات لضمان نجاعته أصلاً، إلا أنه ومن باب التمعن يجدر إشاحة الستار عن إنهيار آخر في أخلاقيات وسلوكيات النظام العالمي في التوفير العادل والمساوي للقاحات، سيما ونجد الكثير من الدول الفقيرة لا يمكنها شراء أو توفير اللقاح لمواطنيها، وهذا ما يعيد إلى أذهاننا بدايات ما قبل تشكيل الدولة القومية والنظام الدولي القائم على أساس فرض قانون الغاب والبقاء للأقوى وهو ما يجعلنا نؤكد على ضرورة ظهور الحاجة إلى قيادة جديدة لعالم مابعد كورونا، تعتمد في فلسفتها طرح سلوكيات من منطلق أخلاقي تجتمع فيها المشتركات الأساسية للدول والمنظمات مجتمعة، وعلى الرغم من أن مثل تلك المطالب مثالية أكثر من كونها واقعية إلا أن تلك المسببات ستكفل على الأقل نوعا من رجوح كفة لصالح الصين من أجل مناكفة الولايات المتحدة ومنافستها في قيادتها للعالم ورجوع ثنائية القطبية، والذي يجعل المقاربة الأخلاقية أرجح من حيث التطبيق في ظل الأخيرة.
رابط المصدر: