حرب الموارد: قاع البحار ساحة جديدة للتنافس الجيوسياسي العالمي

انتقل التنافس الجيوسياسي والجيواقتصادي العالمي من كونه صراعًا على الموارد التقليدية كالنفط والغاز الطبيعي، إلى التنافس على أبعاد جديدة كالمعادن النادرة، والموانئ، وتكنولوجيا الفضاء المدنية والعسكرية، وأخيرًا، ظهرت الرواسب المعدنية في قاع البحار كمسرح جديد للتنافس بين القوى الدولية المختلفة، نظرًا لأهميتها في صناعات البناء، والإلكترونيات، والسيارات الكهربائية، ومعدات الطاقة المتجددة، والبطاريات، والمعدات والأسلحة العسكرية. وفي هذا السياق، يتناول المقال استعراضًا لخريطة استكشاف الرواسب المعدنية في قاع البحار، وأبرز مظاهر التنافس الدولي على المعادن البحرية وخاصة بين أكبر اقتصادين في العالم، مع تحليل دوافع التنافس والهيمنة على الرواسب المعدنية، وأبرز التحديات الناتجة عنه.

يحتوي قاع البحار على ثلاثة أنواع رئيسية من الرواسب المعدنية؛ قشور المنجنيز الحديدي الغنية بالكوبالت (Cobalt-rich ferromanganese crusts- CFC)، والكبريتيدات متعددة الفلزات (polymetallic sulfides- PMS)، والعقيدات متعددة المعادن (polymetallic nodules- PMN)، والتي تحتوي على الكوبالت والمنجنيز والنحاس والنيكل، والتيلوريوم، والإيتريوم.

ويخضع استكشاف وتعدين المعادن البحرية للسلطة الدولية لقاع البحار (International Seabed Authority) في إطار اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار التي تم توقيعها عام 1982 ودخلت حيز النفاذ عام 1994، لترتكز على توفير إطار قانوني متكامل لآلية الانتفاع بمياه البحار والمحيطات في العالم، وتضمن الحفاظ على الموارد البيئية والبحرية وكذلك الانتفاع العادل بتلك الموارد، كما تعالج المسائل المتعلقة بسيادة الدول على البحار والمحيطات وحق الانتفاع في المناطق البحرية والحقوق المتعلقة بالملاحة.

وقد أسهمت الاتفاقية في حل عدد من القضايا المهمة المتعلقة باستخدام المحيطات والسيادة، منها؛ تأسيس حقوق حرية الملاحة، وتعيين الحدود البحرية الإقليمية 12 ميلًا بحريًا من الشاطئ، وتعيين المناطق الاقتصادية الخالصة إلى 200 ميل بحري من الشاطئ، وتعيين قواعد لتوسيع نطاق حقوق الجرف القاري والتي تصل إلى 350 ميلًا بحريًا من الشاطئ، إلى جانب إنشاء سلطة دولية لقاع البحار مع وضع آليات أخرى لحل النزاعات.

واستمرت المفاوضات الهادفة لتنظيم التعدين في قاع البحار حتى وافقت الأمم المتحدة في مارس 2023 على أول معاهدة لأعالي البحار التي تُعد إطارًا محدثًا لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، وتستهدف جعل 30% من المياه الدولية مناطق محمية، إلى جانب وضع التنوع البيولوجي في أعالي البحار تحت الحماية الدولية الملزمة. وتوضح الخريطة الآتية توزيع الرواسب المعدنية في قاع البحار حول العالم:

وبحسب المعلومات التي نشرتها الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA)، فإن كمية العقيدات المتعددة المعادن، التي تحتوي عادة على الكوبالت والمنجنيز والنحاس والنيكل، في المياه الدولية قد تصل إلى تريليوني طن. ويُعد المنجنيز من بين العناصر الأكثر وفرة في أعماق البحار بحوالي 227 مليار طن، يليه الحديد بكمية تبلغ 219 مليار طن، ثم المغنيسيوم بنحو 16.9 مليار طن، كما يُبين الشكل الآتي:

الشكل 1- تقديرات المعادن البحرية تحت أعماق البحار

Source- Congressional Research Service, Sea Mining.

وبحكم الاتفاقيات الأممية والقانون الدولي، فإن الدول التي تمتلك رواسب معدنية ضمن منطقتها الاقتصادية الخالصة الممتدة على مسافة 200 ميل بحري من سواحلها مسموح لها باستخراج تلك الرواسب مع ضمان الامتثال للوائح البيئية ذات الصلة، إلا أن تلك المناطق لا تحتوي سوى على الكبريتيدات متعددة الفلزات، وقشور المنجنيز الحديدي الغنية بالكوبالت، في المقابل، ترتكز العقيدات متعددة المعادن الغنية بالرواسب النادرة في المياه الدولية خاصة في منطقة ” كلاريون كليبرتون “، الموضحة في الخريطة أعلاه، والتي تمتد لمسافة 5000 كيلومتر (3100 ميل) عبر وسط المحيط الهادئ، على أعماق تتراوح بين 4000 و5500 متر (12000 و18000 قدم).

وتُعد منطقة ” كلاريون كليبرتون “من النقاط الساخنة في سباق التنافس الدولي على قاع البحار، حيث تقدر السلطة الدولية لقاع البحار أن هناك أكثر من 21 مليار طن من العقيدات متعددة المعادن بداخلها، تحتوي على حوالي 5.95 مليارات طن من المنجنيز، و0.27 مليار طن من النيكل، و0.23 مليار طن من النحاس، و0.05 مليار طن من الكوبالت. وتلعب هذه العناصر دورًا محوريًا في العديد من الصناعات عالية التقنية، وتبرز بشكل بارز في إنتاج بطاريات الليثيوم أيون والمركبات الكهربائية. مما يضع المنطقة كلاعب أساسي في المشهد الاقتصادي العالمي.

في ظل تصاعد الأزمات الاقتصادية العالمية التي تلقي بظلالها على كافة الدول حول العالم وتزيد من ضبابية وعدم يقين المشهد الاقتصادي، تشهد الساحة الدولية بما يُعرف بـ “حرب الموارد”، التي لا تقتصر على موارد الطاقة التقليدية، أو المعادن الأرضية النادرة فحسب، بل تشمل أيضًا المعادن والرواسب المعدنية في أعماق البحار، وتتجلى مظاهر التنافس الدولي في النقاط الآتية:

• نهم صيني: جعلت الحكومة الصينية هدف “التعدين في أعماق البحار” أولوية أمنية واقتصادية كجزء من خطتها واسعة النطاق للهيمنة على سلاسل توريد المعادن بكافة أنواعها، حيث حفزت المنظمات والشركات المملوكة للدولة على تطوير أساليب استخراج جديدة من قاع البحار، والاستثمار بكثافة في الغواصات غير المأهولة من أجل رسم خريطة الرواسب الأرضية المعدنية والنادرة بأعماق البحار، كما أطلقت سفنًا وغواصات متطورة في المياه القريب كبحر الصين الجنوبي، إلى جانب تشييد العديد من الجامعات ومراكز الأبحاث المنوطة بهذا الشأن كجامعة داليان البحرية، وجامعة المحيط الصينية، ومعهد علوم وهندسة أعماق البحار بالأكاديمية الصينية للعلوم.

إلى جانب ذلك، استطاعت الصين أن تتميز في صناعة معالجة المعادن، مما جعل البلاد وجهة أساسية للمعادن قبل دخولها إلى السلع النهائية، واستنادًا إلى بيانات وكالة الطاقة الدولية، فإن الصين تعالج نحو 42% من النحاس، و56% من النيكل، و65% من الليثيوم، و74% من الكوبالت، و90% من العناصر الأرضية النادرة، و100% من الجرافيت على مستوى العالم.

وبناءً على ذلك، تمكنت الصين من تأمين خمس تراخيص استكشاف قاع البحار بالمياه الدولية من إجمالي 30 ترخيصًا أصدرتها السلطة الدولية لقاع البحار حتى أوائل عام 2024 استعدادًا لبدء التعدين في أعماق البحار بحلول عام 2025، وبهذا تمتلك الصين حقوق استكشاف 92 ألف ميل مربع من المياه الدولية أو 17% من إجمالي المساحة المرخصة حاليًا من قبل الهيئة الدولية لقاع البحار، وهو ما يُبينه الشكل الآتي:

الشكل 2- عدد تراخيص استكشاف قاع البحار

Source- Baron, Deep-Sea Minerals: The Next Arena of U.S.-China Competition.

وتتوزع تراخيص اكتشاف قاع البحار على المحيط الهادي والهندي والأطلسي بعدد 17 ترخيصًا، و7 تراخيص، و5 تراخيص على الترتيب، ليرتكز السبعة عشر ترخيصًا في منطقة ” كلاريون كليبرتون “، حيث تتكالب الدول على استكشاف العقيدات متعددة المعادن بشكل أوسع من الكبريتيدات متعددة الفلزات، وقشور المنجنيز الحديدي الغنية بالكوبالت.

• طموح أمريكي: تدرك الولايات المتحدة المخاطر الأمنية المصاحبة لهيمنة الصين على تعدين الموارد البحرية، ولهذا قامت الإدارة الوطنية لدراسة المحيطات والغلاف الجوي التابعة لوزارة التجارة الأمريكية بإصدار استراتيجية “NOMEC” في يونيو 2020 لتنسيق أنشطة رسم الخرائط والاستكشاف، وتحدد الاستراتيجية مجموعة طموحة من الأهداف لرسم خريطة كاملة لقاع البحر داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة للولايات المتحدة واستكشاف وتوصيف المناطق ذات الأولوية داخل المحيط. وتحتوي الاستراتيجية على 5 أهداف أساسية، وهي؛ استكشاف وتوصيف المنطقة الاقتصادية الخالصة للولايات المتحدة، رسم خريطة للمنطقة الاقتصادية الخالصة، واستكشاف وتوصيف المناطق ذات الأولوية في المنطقة الاقتصادية الخالصة، وتطوير وتنمية العلوم والتكنولوجيات الجديدة والناشئة، إلى جانب بناء شراكات عامة وخاصة لاستكشاف أعماق البحار. وحتى الآن، نجحت الإدارة الوطنية لدراسة المحيطات والغلاف الجوي في رسم خرائط لـ 48% فقط من قاع البحار داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة للولايات المتحدة، ولكن لم يتم استكشاف سوى جزء ضئيل منها لأغراض محددة.

وفي أحدث خطواتها لمواجهة الهيمنة الصينية ولحماية إمدادات المعادن الأساسية، قرر الكونجرس الأمريكي مايو 2024 تمويل دراسة للبنتاجون بقيمة 2 مليون دولار حول التعدين في أعماق البحار، لتطالب بعدها الولايات المتحدة بضم حوالي مليون كيلومتر مربع إلى جرفها القاري في بحر بيرنغ والمحيط الهادئ والمحيط الأطلسي وخليج المكسيك، إلا أن هذه المطالب قد واجهها عدد من المشكلات التي تتمثل في المعارضة الروسية والصينية، وعدم مصادقة الولايات المتحدة على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، ولهذا، فإن موسكو وبكين تؤكدان عدم وجود أي أساس قانوني لمطالبة الولايات المتحدة بضم المزيد من المناطق لجرفها القاري.

• التنافس على جزر المحيط الهادي: لا يُمكن فصل جزر المحيط الهادئ عن المشهد التنافسي المهيمن على موارد قاع البحار، حيث تتنافس القوى العظمى على بسط نفوذها على تلك الجزر في محاولة لتسهيل الحصول على المعادن والرواسب البحرية. وفي هذا الشأن، تسعى الصين لزيادة بصمتها في تلك المنطقة لتأمين مصالحها الدبلوماسية والاستراتيجية، وتقليص المساحة الدولية لتايوان، والحصول على إمكانية الوصول إلى المواد الخام والموارد الطبيعية، وذلك من خلال زيادة مشروعات البنية الأساسية تحت إطار مبادرة الحزام والطريق، وعقد اتفاقيات أمنية واقتصادية، وزيادة المساعدات الاقتصادية والتنموية، واتباع دبلوماسية الزيارات كزيارة رئيسي وزراء فانواتو، وجزر سليمان إلى الصين في يوليو 2024، فضلًا عن تعزيز التعاون الأمني والدفاعي، حيث أقامت بكين العلاقات الدبلوماسية بين الصين وناورو في يناير 2024 وذلك عقب إعلان الأخيرة قطع علاقاتها الدبلوماسية مع تايوان.

إلى جانب ذلك، أطلقت الإدارة الأمريكية تحت رئاسة “جو بايدن” في سبتمبر 2022 أول استراتيجية للشراكة الأمريكية مع جزر المحيط الهادي وذلك خلال قمة أمريكية دعت فيها البلاد اثني عشر من قادة الجزر وتعهدت خلالها بإنشاء صندوق مساعدات جديد بقيمة 810 ملايين دولار لجزر المنطقة. كما تعهدت واشنطن بتعزيز حضورها الدبلوماسي في المنطقة، من خلال تعيين مبعوث للمحيط الهادي لأول مرة؛ للمشاركة في منتدى جزر المحيط الهادي، كما قررت تمويل مبادرة كابل إنترنت تحت البحر لدول المنطقة بالتعاون مع أستراليا، ووقعت في مايو 2023 اتفاقية تعاون دفاعي مع بابوا غينيا الجديدة، للأفراد العسكريين الأمريكيين بالوصول غير المحدود إلى ستة من الموانئ الرئيسية في البلاد.

ولم يخلُ المشهد التنافسي من اليابان، التي اتجهت خلال السنوات القليلة الماضية إلى توسيع التعاون الأمني والدفاعي مع دول جزر المحيط الهادي، بهدف تعزيز قدرات المراقبة البحرية لهذه الدول، وكذلك قدرتها على مواجهة المخاطر المناخية والجيوسياسية، وتبادل الرؤى بشأن القضايا والتحديات الأمنية المشتركة.

• محاولات فردية: إلى جانب التنافس الدولي على التعدين البحري، تبرز محاولات فردية من الدول للاستفادة من المعادن البحرية في منطقتها الاقتصادية الخالصة، ففي يونيو 2023، أعلنت النرويج اعتزامها فتح أجزاء من جرفها القاري أمام التعدين، كما طرحت مناطق في بحر جرينلاند وبحر النرويج وبحر بارنتس تغطي مساحة 280 ألف كيلومتر مربع للشركات للتقدم بطلب للحصول على تراخيص للتعدين بقاع البحار، ولهذا صوت البرلمان النرويجي في أوائل عام 2024 بالموافقة على اقتراح حكومي لفتح منطقة محيطية شاسعة للتعدين في أعماق البحار على نطاق تجاري، وهكذا، أصبحت النرويج أول دولة في العالم تسمح بالتعدين في أعماق البحار، بهدف كسر هيمنة الصين على سلاسل توريد المعادن النادرة.

• دعوات مضادة: تتزامن الخطوات الدولية الهادفة للتنقيب عن المعادن البحرية مع صعود دعوات تُنادي بتعليق أو حظر التعدين التجاري في أعماق البحار بسبب المخاطر البيئية الناجمة عن تلك العلمية، وتأتي ألمانيا وفرنسا وإسبانيا ونيوزيلندا وكوستاريكا وتشيلي وبنما وبالاو وفيجي وولايات ميكرونيزيا الموحدة على رأس الدول المعارضة للنشاط الدولي للتعدين البحري. في المقابل، تشترط المملكة المتحدة وجود دليل علمي كافٍ حول التأثير المحتمل في النظم البيئية في أعماق البحار قبل الشروع في رعاية أو دعم إصدار أي تراخيص للتعدين البحري. فيما تؤيد الولايات المتحدة والنرويج واليابان وكوريا الجنوبية استغلال معادن قاع البحار كونها عنصرًا أساسيًا في مجال الطاقة والأمن القومي.

يُعود التنافس الدولي الشرس على التعدين البحري والسيطرة على المعادن والرواسب البحرية إلى عدد من الدوافع الكامنة جميعها في تزايد أهمية المعادن النادرة في العديد من القطاعات الاقتصادية خلال الفترات الأخيرة، وهو ما يتبين من النقاط الآتية:

• السباق الدولي نحو تحول الطاقة: ساعد التركز الجغرافي لاحتياطيات النفط والغاز الطبيعي بعض الدول على حماية مصالحها الوطنية وتعظيم نفوذها الاقتصادي والسياسي حيث استمدت قوتها كلاعب فاعل في النظام الدولي عبر التحكم في صادرات الطاقة ونطاقها السعري واستخدامها كسلاح جيوسياسي، وبالمثل، يُمكن أن يتكرر المشهد من جديد مع الدول الساعية للسيطرة على سلاسل توريد المعادن النادرة، التي تُعد عنصرًا محوريًا في توليد الطاقة المتجددة، ولهذا من المتوقع أن تتحكم الدول التي تسيطر على المعادن النادرة في مشهد الطاقة المستقبلي خاصة في ظل تصاعد الدعوات الدولية لمجابهة التغيرات المناخية والحد من أضرارها الاقتصادية، مما أسهم في توسع الطلب على مصادر الطاقة المتجددة خلال عامي 2023 و2024، مع توقعات بارتفاع حصتها من إمدادات الكهرباء العالمية من 30% في عام 2023 إلى 35% في عام 2025، كما أنه من المتوقع أن تتخطى نسبة الكهرباء المولدة من مصادر الطاقة المتجددة في مزيج الطاقة العالمي خلال عام 2025 نسبة نظيرتها المُولدة من الفحم لأول مرة في التاريخ.

كما تتوقع وكالة الطاقة الدولية ارتفاع استهلاك المعادن بشكل حاد بحلول عام 2040، حيث ستشكل تكنولوجيا الطاقة المتجددة أكثر من 40% من الطلب على النحاس، و60% من الطلب على الكوبالت، و70% و90% من الطلب على النيكل والليثيوم على الترتيب. فيما تشير توقعات البنك الدولي إلى أهمية تزايد عملية استخراج هذه المعادن خمس أضعاف بحلول عام 2050 لتلبية الطلب على الطاقة المتجددة.

• احتدام المنافسة حول تصنيع السيارات الكهربائية: إن الصراع على المعادن ليس هدفًا في حد ذاته وإنما وسيلة لتحقيق غاية، فعلى سبيل المثال تُعد المعادن عمودًا فقريًا في صناعة البطاريات والسيارات الكهربائية التي يتطلب إنتاجها استخدام معادن بكمية أكبر بنحو ستة أضعاف من نظيرتها التي تعمل بالوقود الأحفوري، ونظرًا للتوقعات التي تشير إلى ارتفاع مبيعات السيارات الكهربائية خلال السنوات القادمة، فمن المُرجح أن تزداد المنافسة على المعادن الموجودة في قاع البحر كونها تساعد في تلبية احتياجات تلك الصناعة التي ستبلغ مبيعاتها نحو 17 مليون سيارة بحلول نهاية عام 2024، بزيادة تبلغ 20% على أساس سنوي. هذا، وقد أعلنت الحكومات الأوروبية والآسيوية عن أهداف مبيعات طموحة لمبيعات السيارات الكهربائية مع تبني إجراءات تستهدف الابتعاد عن المركبات التي تعمل بالوقود الأحفوري، كوضع حوافز مالية للمستهلكين، ونشر محطات الشحن على نطاق واسع، وتوفير إعانات مالية للشركات المصنعة مع جذب المزيد من الشركات الأجنبية العاملة بالمجال، إلى جانب تعزيز إنتاج البطاريات والحد من هيمنة الصين على صناعة البطاريات، حيث يتم تصنيع أكثر من 80% من مكوناتها في البلاد، ولهذا تراجعت تكلفة البطاريات في الصين لتصل إلى 126 دولارًا لكل كيلوواط/ساعة على أساس متوسط الحجم، مقارنة بارتفاع تكلفتها بنسبة 11% في الولايات المتحدة، و20% في أوروبا.

• تحقيق أغراض عسكرية: لا يُمكن إغفال العلاقة الترابطية بين المعادن والأمن القومي، حيث يُمكن استخدامها لتصنيع المعدات والأسلحة العسكرية، وتصنيع المركبات والطائرات، والغواصات، كما يُمكن استغلالها لبناء المعدات الخاصة بمهام الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، ولهذا، فمن الممكن أن تساعد الإمدادات المعدنية في دعم القوة العسكرية، وفي هذا الشأن تستخدم وزارة الدفاع الأمريكية نحو 750 ألف طن من المعادن سنويًا لبناء التقنيات التي تعمل على تعزيز الأمن الوطني. ونتيجة لذلك، أطلق باحثون في البنتاجون مشروعًا يستهدف استخراج المعادن النادرة ذات الأهمية الحيوية للتقنيات العسكرية من مصادر محلية باستخدام مُعدات متناهية الصغر، كما ساعد البنتاجون في تمويل سلسلة من المشروعات الهادفة لتطوير عمليات معالجة المعادن في الولايات المتحدة، كما وقع الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” قرارًا تنفيذيًا يهدف إلى زيادة الإنتاج المحلي من المعادن النادرة. وخلال عام 2018، أضافت الحكومة التربة النادرة إلى قائمة المعادن التي تعتبر ضرورية للاقتصاد الأمريكي والأمن القومي.

وبالتزامن، أضاف الاتحاد الأوروبي العناصر الأرضية النادرة إلى قائمة المواد الحيوية التي يستوجب عليه تقليص الاعتماد على وارداتها عن طريق تعزيز الإنتاج المحلي، كما أطلق استراتيجية خاصة لضمان الوصول إلى المواد الخام، وأطلق مشروع “EURARE” بهدف تطوير صناعة تنقيب وتنقية الرواسب المعدنية، كما أسس شبكة الخبرة الأوروبية للعناصر الأرضية النادرة “ERECON” بهدف وضع خطط لتجاوز التحديات التي تواجه صناعة المعادن النادرة، وتحديد أهم المناطق الأوروبية الصالحة لاستغلالها في تلك الصناعة.

• النمو السكاني والتنمية الاقتصادية: تشير توقعات الأمم المتحدة إلى استمرار تغير حجم وتركيبة سكان العالم خلال العقود القادمة، ليصل عدد سكان العالم إلى 8.5 مليارات نسمة بحلول عام 2030، ونحو 9.7 مليارات نسمة خلال عام 2050، و10.4 مليارات نسمة بحلول عام 2100، بدعم من الزيادة التدريجية في متوسط ​​العمر المتوقع للإنسان، وزيادة التحضر، وتسريع الهجرة. كما أنه من المتوقع أن ترتفع وتيرة التحضر مع زيادة عدد المدن الكبرى التي يزيد عدد سكانها عن 10 ملايين نسمة، مما سيسهم في زيادة الطلب على الطاقة والموارد الطبيعية. إلى جانب ذلك، يُحفز النمو الاقتصادي والصناعي المتسارع في الدول المتقدمة الطلب على الطاقة بشقيها الأحفوري والنظيف، وهو ما يدفع تلك الدول للتنافس الشديد على تأمين المعادن النادرة من أجل الحفاظ على استدامة معدلات النمو والتنمية الاقتصادية.

مخاوف صينية: تنظر بكين إلى المعادن البحرية باعتبارها خطة بديلة في حالة حدوث اضطرابات في مصادرها للمعادن الأرضية من أفريقيا، لا سيما في ظل انخفاض القروض الصينية للدول الأفريقية بشكل حاد من ذروة بلغت نحو 28 مليار دولار في عام 2016 إلى أقل من مليار دولار في عام 2022، حيث تشكل القروض عنصرًا متزايد الأهمية في العلاقات الاقتصادية للصين مع أفريقيا، وقد يؤدي تراجع بصمة الصين ونفوذها بالقارة الأفريقية إلى تآكل قدرتها على استغلال المعادن، وهو ما يقوض من مكانتها العالمية في صناعة المعادن النادرة. كما تتخوف الصين من احتمالية عدم كفاية التعدين الأرضي والمعادن الأرضية النادرة لتلبية الطلب المرتفع على الطاقة المتجددة وتصنيع البطاريات، ولهذا فإنها تسعى لإيجاد مصدر بديل للتعدين الأرضي حتى تحافظ على هيمنتها على سلاسل الإمداد والتوريد.

رغم الفوائد الاقتصادية المرتبطة بالتعدين البحري، فإنه ينطوي على عدد من التحديات والمخاطر البيئية والاقتصادية والمالية، التي يُمكن استعراضها تاليًا:

• الإضرار بالنظم البيئية البحرية: ينطوي التعدين البحري على مخاطر جمة نتيجة لتصاعد الرواسب المليئة بالغازات السامة المرتبطة بعملية التعدين، مما قد يزيد احتمالية الإضرار بالتنوع البيولوجي وتلويث سلاسل الغذاء البحرية، واستنزاف أعداد الأسماك والثدييات البحرية، علاوة على فقدان الشعاب المرجانية التي تدعم أكثر من 25% من التنوع البيولوجي البحري، وتستضيف أكثر من 1300 نوع مختلف من الحيوانات البحرية، حيث ترتبط عملية التعدين بإزالة طبقة سميكة من الرواسب في قاع البحار، مما قد يؤدي إلى حدوث انقراض محتمل للكائنات البحرية التي تعيش بداخلها.

واتصالًا بذلك، كشفت دراسة يابانية نشرتها المجلة العلمية “Current Biology” أن آثار عملية التعدين في أعماق البحار التي تستغرق ساعتين فقط، من الممكن أن تستمر حتى بعد مرور عام، حيث أظهرت نتائجها أنه بعد عام واحد من اختبار التعدين في بعض المناطق البحرية لوحظ انخفاض في كثافة الأسماك والروبيان بنسبة 43% في المناطق المتأثرة بشكل مباشر بتلوث الرواسب، وبنسبة 56% في المناطق المحيطة.

• تعطيل جهود مكافحة التغيرات المناخية: يُسهم التعدين البحري في تفاقم حدة ظاهرة التغيرات المناخية كون صناعة التعدين صناعة كثيفة الطاقة ينتج عنها زيادة كبيرة في الانبعاثات الحرارية، ويُقدر التأثير المناخي لإنتاج النحاس والنيكل والكوبالت والمنجنيز من 1 كيلو جرام من العقيدات متعددة المعادن بما يتراوح بين 1.371 كجم مكافئ ثاني أكسيد الكربون إلى 2.03 كجم مكافئ ثاني أكسيد الكربون، وينتج حوالي 80% إلى 85% من التأثير المناخي للتعدين في أعماق البحار من عملية المعالجة المعدنية التي تستهلك كميات ضخمة من الطاقة والوقود الأحفوري، وذلك وفقًا لدراسة صادرة عن منظمة “Planet Trakker” .

إلى جانب ذلك، تسفر عملية التعدين البحري عن الإضرار بعملية احتجاز وعزل الكربون في قاع المحيطات، حيث تساعد المحيطات في امتصاص 30% من ثاني أكسيد الكربون، و90% من الحرارة الإضافية المرتبطة بارتفاع انبعاثات الغازات الدفيئة الناجمة عن الأنشطة البشرية في العقود الأخيرة، كما يُمكن للأعشاب البحرية وأشجار المانجروف عزل ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي بمعدلات تصل إلى أربعة أضعاف مقارنة بالغابات البرية، لذا فإن عمليات التعدين تهدد بإطلاق الكربون مرة أخرى في المحيط والغلاف الجوي.

وتدلل هذه البيانات على مساهمة صناعة التعدين البحري في إعاقة عملية تحول الطاقة مثلما تسهم في تصنيع السيارات الكهربائية ومعدات الطاقة المتجددة الضرورية لعملية التحول من الوقود الأحفوري إلى الطاقة المتجددة، وهو ما يؤكد أن هدف التنافس الدولي على المعادن البحري هو هدف جيوسياسي بالأساس وليس هدفًا بيئيًا.

• زيادة الضبابية وعدم اليقين: تعد أعماق البحار البيئة الأقل استكشافًا على كوكب الأرض، كما تظل الفائدة الاقتصادية المادية للتعدين في أعماق البحار غير مؤكدة بسبب العديد من الصعوبات الفنية في عملية الاستخراج، وبالتالي، فإن هناك حاجة إلى تكثيف عملية البحث العلمي الهادف لتقييم وإدارة الاستغلال المستدام لموارد أعماق البحار. ولهذا، لا يزال التعدين في أعماق البحار في مرحلة تجريبية حتى وقتنا الحالي.

• ارتفاع التكلفة الاقتصادية: لا تزال تكلفة الاستثمار في البحث والتنقيب عن المعادن مرتفعة، بسبب صعوبة الحصول على التراخيص وطول مدة إجراء تقييمات الأثر البيئي، حيث يُمكن أن تستغرق عملية الحصول على تصريحات التنقيب والاستكشاف من 8 إلى 12 عامًا. كما ارتفعت تكلفة بناء المعدات البحرية بنسبة 18%، وتكلفة تأجير منصات الحفر البحرية بنسبة تزيد عن 200% منذ عام 2021، كما أن عملية جمع البيانات البحرية تستغرق وقتُا طويلًا وتعتبر مكلفة أيضًا. إلى جانب ذلك، تتراوح تكلفة استعادة النظم الإيكولوجية في أعماق البحار ومعالجة الأضرار الناجمة عن التعدين بين 5.3 ملايين دولار إلى 5.7 ملايين دولار للكيلومتر المربع، وهو ما قد يضاعف من تكلفة التعدين نفسها البالغة 2.7 مليون دولار للكيلومتر المربع.

حاصل ما سبق أن هناك ارتباطًا واضحًا بين معضلة علم الاقتصاد التاريخية التي تُعرف بـ “ندرة الموارد”، أو عدم كفاية الموارد المتاحة لتلبية الاحتياجات المتزايدة باضطراد، وبين التنافس الجيوسياسي المحتدم بين القوى العظمى فيما يتعلق بتأمين المعادن النادرة من قاع البحار، والحفاظ على سلاسل الإمداد والتوريد اللازمة لصناعة الطاقة المتجددة، والصناعات العسكرية والإلكترونية التي تزداد أهميتها عامًا تلو الآخر، ولهذا، تسعى الدول لتأمين حصة في سوق المعادن من أجل الحفاظ على بصمتها في النظام الاقتصادي العالمي، ولكن من ناحية أخرى، تتصاعد التحديات البيئية والاقتصادية المرتبطة بصناعة التعدين البحري؛ الأمر الذي يستلزم إجراء دراسات وافية لحساب التكلفة والعائد ووضع حلول وسياسات مقترحة لمواجهة المخاطر البيئية الناتجة عن التعدين البحري.

 

المصدر : https://ecss.com.eg/47790/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M