ديفيد شينكر
أمام تعاظم المطالب الإقليمية وقلة الموارد، ينبغي على واشنطن أن تكون أكثر حكمةً في التزاماتها وأكثر اتساقاً في متابعتها، وإلا لن تكون ضماناتها باعثة على الاطمئنان.
على غرار القادة والمسؤولين في مختلف أنحاء العالم، يتكيف قادة الشرق الأوسط مع الحقبة الجيوسياسية الجديدة التي أطلقتها أكبر حرب في أوروبا منذ عام 1945. وبينما تحتدم المعركة على كييف، تتوجه أنظار العديد من حكومات الخليج العربي إلى ما يحدث على بُعد 800 ميل غرباً – إلى فيينا حيث تقترب المفاوضات بشأن إحياء الاتفاق النووي الإيراني من نهايتها. وبالنسبة لإدارة بايدن، سيكون التوصل إلى اتفاق في فيينا هذا الأسبوع بمثابة تتويج لإنجاز دبلوماسي – ويبدو أن واشنطن في عجلة من أمرها لإنهاء العقوبات المفروضة على إيران على أمل باطل بأن يُطرَح النفط الإيراني للبيع في الأسواق ويساعد على خفض الأسعار التي ارتفعت بصورة حادة بسبب النزاع. لذلك، بدأت حرب روسيا في أوكرانيا تمتد أساساً إلى الشرق الأوسط.
ولن يغفل على شركاء واشنطن في المنطقة أن الولايات المتحدة أعطت ضمانات أمنية لأوكرانيا في عام 1994 – مقابل تخلّي أوكرانيا عن الأسلحة النووية التي ورثتها عن الاتحاد السوفيتي. ومنذ فترة وجيزة تعود إلى كانون الثاني/يناير الماضي، أعطى البيت الأبيض في عهد الرئيس جو بايدن ضمانات مماثلة للإمارات بعد تعرّضها لهجوم بالصواريخ والطائرات المسيرة من مليشيا الحوثي المدعومة من إيران في اليمن. ورداً على الهجمات، أكد مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان للإمارات التزام الولايات المتحدة “الثابت”، وتعهَّدَ بأن واشنطن “ستقف إلى جانب شركائها الإماراتيين ضد جميع التهديدات لأراضيها”.
فضلاً عن ذلك، قدّمت واشنطن التزامات أمنية صريحة أو ضمنية للعديد من شركائها الآخرين القدامى في الشرق الأوسط، بما فيها المملكة العربية السعودية وقطر ومصر وإسرائيل – والبلدان الثلاثة الأخيرة كشريكة رئيسية من خارج حلف “الناتو”. وتأكيداً على هذا الكلام، جدّد وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن التزام واشنطن “الصارم” و الدائم تجاه إسرائيل خلال زيارة قام بها للمنطقة في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي.
وفي حين التزمت إدارة بايدن بضماناتها الأمنية الأخيرة من خلال نشر طائرات مقاتلة من طراز “أف-22” وإرسال مدمرة صاروخية إلى الإمارات، يبدو أن أبوظبي تشكك في التزامات الولايات المتحدة، فمنذ ذلك الحين، أعلنت الإمارات عن شراء 12 طائرة تدريب مقاتلة صينية من طراز “إل-15″، مع إمكانية شراء 36 طائرة أخرى. وجاء هذا الإعلان بعد أشهر قليلة من كشف صحيفة “وول ستريت جورنال” عن قيام الصين ببناء منشأة عسكرية في ميناء شمال العاصمة الإماراتية. وبعد وقت قصير من ذلك الكشف، في كانون الأول/ديسمبر 2021، علّقت أبوظبي مفاوضاتها مع واشنطن لشراء 50 طائرة من طراز “أف-35” بقيمة 23 مليار دولار.
والجدير بالذكر أن تحوّط الإمارات ليس استثنائياً على الإطلاق. فقد تعلّمت السعودية أيضاً عدم الاعتماد على الولايات المتحدة. فبعد الهجوم الإيراني بصواريخ كروز الذي تعرّضت له منشأة بقيق لمعالجة النفط التابعة لشركة “أرامكو” السعودية عام 2019، أرسلت إدارة ترامب ما يقرب من 3000 جندي أمريكي وسربين من المقاتلات وبطاريات الدفاع الجوي لطمأنة السعودية، غير أن العلاقات فترت في عهد بايدن، حتى مع بقاء واشنطن ظاهرياً “ملتزمة” بتوفير “المعدات والتدريب والمتابعة اللازمة لحماية السعودية والمنطقة من آثار الإرهاب المزعزعة للاستقرار، ومكافحة النفوذ الإيراني، والتهديدات الأخرى”. لكن بعد أن تعلّمت السعودية بأن الالتزامات الأمريكية قد تكون متقلبة، يبدو أنها تتعاون مع الصين لبناء ترسانتها الخاصة من الصواريخ الباليستية، وفقاً لصور الأقمار الصناعية.
كما رفضت الرياض طلبات إدارة بايدن لزيادة إنتاج النفط للمساعدة في تخفيف الارتفاع الحاد في الأسعار العالمية الذي تفاقم بسبب حرب روسيا على أوكرانيا. وبدلاً من ذلك، مع اقتراب سعر النفط من 120 دولاراً للبرميل الواحد، ستلتزم السعودية بالحصص المنصوص عليها في اتفاقها المبرم مع روسيا في إطار “أوبك بلس”. وبالإضافة إلى إحجام السعودية عن التخلي عن استراتيجيتها النفطية، تشير الرياض إلى أن ذلك يمثل تقلباً آخر في واشنطن: فقبل عامين فقط، كان الرئيس آنذاك دونالد ترامب يتوسل بالسعوديين للقيام بعكس ذلك وخفض الإنتاج.
وبطبيعة الحال، تبقى إيران الشاغل الرئيسي الذي يوحّد شركاء واشنطن في الشرق الأوسط، وهو تهديد تتوقّع دول الخليج وإسرائيل أن يتعاظم متى وإذا عادت إدارة بايدن الدخول في اتفاق نووي مع إيران. إذ لا تزال التجربة المريرة لما حدث بعد اتفاق عام 2015 حاضرة في ذاكرة المنطقة، حين استفاد «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني من وفرة الأموال ليعيث فساداً في جميع أنحاء الشرق الأوسط، ويموّل بصورة أفضل ميليشياته التي تعمل بالوكالة عنه وتزعزع الاستقرار في العراق واليمن ولبنان، في الوقت الذي يعمل فيه «الحرس الثوري» على تطوير صواريخ باليسيتة متقدمة. وخوفاً من تعريض الاتفاق النووي للخطر، لم تفعل إدارة أوباما سوى القليل جداً لكبح طموحات طهران الإقليمية.
ويقيناً، أن الأطراف التي تتلقى الضمانات الأمنية الأمريكية في الشرق الأوسط ليس لديها أوهام بأن روسيا أو الصين ستسدّ الفراغ. لكن ما يسمّى بتحوّل واشنطن نحو آسيا، مقروناً بالانسحاب الفوضوي من أفغانستان، والتردد الواضح في استخدام القوة العسكرية، والاعتماد المتزايد على العقوبات الاقتصادية، دفع العديد من قدامى الشركاء الأمنيين للولايات المتحدة في الشرق الأوسط إلى تنويع علاقاتهم. وقد تكون مصر أبرز مثال على هذه الظاهرة حيث تستعد لاستلام مقاتلات روسية الصنع من طراز “سو-35” – وهي عملية شراء قد تؤدي إلى فرض عقوبات عليها من قبل الكونغرس الأمريكي. ومع ذلك، فباستثناء إسرائيل، يشهد اللجوء إلى روسيا والصين للحصول على الأسلحة اتجاهاً نحو الازدياد المستمر.
وإذا كان شركاء الولايات المتحدة يزدادون قلقاً من الاعتماد عليها لتكون مورّدهم الأساسي للأسلحة الدفاعية، فلهذا التحول نحو الأسلحة الروسية والصينية أسبابٌ أخرى أيضاً. فالقيود المفروضة على استخدام هذه الأسلحة ليست صعبة بقدر تلك التي تفرضها الولايات المتحدة، بل هي في الواقع غير موجودة. كما أن التحول إلى مورّدين آخرين يعكس حقيقة الواقع في عالم متعدد الأقطاب بشكل متزايد أصبحت فيه روسيا جهة فاعلة في سوريا وليبيا، ومن المرجح أن تبقى كذلك حتى بعد حرب أوكرانيا. وتتمتع كل من روسيا والصين أيضاً بعلاقات اقتصادية مهمة تتعلق بالطاقة في منطقة الخليج. فالصين، على سبيل المثال، استوردت ما يقرب من ثلاثة أضعاف ما استوردته الولايات المتحدة من النفط الخام من الشرق الأوسط في عام 2021.
وفي الواقع، لا تؤثر هذه الحقائق الجديدة على العلاقات الدفاعية فحسب، بل على المبادرات الدبلوماسية الأمريكية أيضاً. فخلال إدارتَي ترامب وبايدن، ورغم الطلبات الأمريكية العديدة من مسؤولين رفيعي المستوى، لم تقم أي دولة خليجية بإدانة الصين لارتكابها إبادة جماعية بحق الأويغور المسلمين. كما لم يندد أي شريك للولايات المتحدة في الخليج – باستثناء الكويت بشكل ملحوظ – بغزو روسيا لأوكرانيا في الأيام الأولى من الحرب. وحتى الأردن، أحد المتلقّين الرئيسيين للمساعدات العسكرية الأمريكية، التزم الصمت. وبعد رفض الإمارات إدانة روسيا في مجلس الأمن الدولي قبل أكثر من 10 أيام، لم تقُم دول الخليج سوى بتوجيه اللوم إلى موسكو في تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة في الثاني من آذار/مارس.
وبينما انتقدت إسرائيل الصين بشأن قضية الأويغور وكذلك الهجوم الروسي على أوكرانيا، أفادت بعض التقارير أنها استخدمت حق النقض ضد بيع نظام “القبة الحديدية” الدفاعي المضاد للصواريخ – الذي طورته إسرائيل والولايات المتحدة بصورة مشتركة – لأوكرانيا. ويبدو أن الإسرائيليين يخشون من أن يؤدي نقل هذا النظام إلى إثارة غضب الروس، مما يعقد عملية التنسيق المداري الصعبة بالفعل لعمليات “سلاح الجو الإسرائيلي” ضد أهداف عسكرية إيرانية في سوريا، حيث تقوم بطاريات موسكو المتطورة المضادة للطائرات بحراسة المجال الجوي.
وعلى الرغم من التحول نحو آسيا، لا تزال الولايات المتحدة تتمتع بحضور دبلوماسي وعسكري كبير في الشرق الأوسط. لكن تضاؤل ثقة المنطقة في واشنطن يقوّض جهود الولايات المتحدة للرد على النفوذ الإقليمي المتنامي للصين وروسيا. وإزاء تزايد المطالب ومحدودية الموارد في المرحلة المقبلة، سيتعين على واشنطن التصرف بحكمة أكبر في التزاماتها وباتساق أكبر في متابعة هذه الالتزامات، خشية أن تكون ضماناتها غير مطمئنة. وعلى المدى القريب، سواء عاد بايدن إلى الاتفاق النووي مع إيران أم لا، لا يوجد التزام أمريكي في المنطقة أكثر أهمية من التعهد بمساعدة الشركاء بوجه التهديد الإيراني المتزايد، حتى لو لم يصل هذا التهديد إلى مستوى السلاح النووي، خاصة وأن ارتفاع أسعار النفط يمدّ المزيد من الأموال إلى خزائن إيران. ومهما كانت الصفة التي يطلقها المسؤولون الأمريكيون على التزامهم – “حازماً” أو “ثابتاً” أو “صارماً” أو أي مصطلح دبلوماسي آخر من هذا القبيل – فإن وقوف واشنطن إلى جانب شركائها القدامى هو أفضل طريقة للحفاظ على المصداقية وردع الخصوم.
ديفيد شينكر هو “زميل أقدم في برنامج توب” ومدير “برنامج السياسة العربية” في معهد واشنطن. وشغل سابقاً منصب مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى خلال إدارة ترامب. وقد نُشر هذا المقال في الأصل على موقع “فورين بوليسي” وأعيد نشره هنا تحت رعاية “برنامج مؤسسة دايين وغيلفورد غليزر” التابع للمعهد حول “منافسة القوى العظمى والشرق الأوسط”.
.
رابط المصدر: