عريب الرنتاوي
بين إيران والغرب، الطرق غير سالكة وغير آمنة، في كل المجالات وعلى مختلف المسارات.. العلاقات تزداد تعقيدا، والمخاوف تزداد تفاقما، وجدران “الثقة” تتهاوى، الواحد تلو الآخر.
الملف الأهم في هذه العلاقات، النووي، وضِع على الرف، واشنطن لا تستعجل الاتفاق ولا استئناف المفاوضات، بل لا ترى ضرورة وإلحاحاً لفعل ذلك… أوروبا بدأت تتحدث باللغة ذاتها، أما إسرائيل فتقف على رأس هرمها، قيادة يمينية متطرفة، جعلت من ضرب برنامج إيران النووي، أولى أولوياتها.
في المقابل، لا تبدي أطراف هذا المثلث تسامحاً مع فكرة امتلاك إيران للقنبلة النووية، أو حتى أن تصبح دولة “عتبة نووية”… تُجمع هذه الأطراف على قطع طريق طهران نحو السلاح النووي، وإن كانت تبدي درجات متفاوتة من الحماسة للخيار العسكري، وتحسب أكثر من حساب لخطوة من هذا النوع، سيما في ضوء تورطها الشديد في الحرب الأوكرانية، وتفاقم “شبح الصين” فوق تايوان ومضائقها.
وتدرك هذه الأطراف تمام الإدراك، أن العقوبات على قسوتها، حتى وإن بلغت ضفاف “أقصى العقوبات” والمصطلح لترامب، ليست كفيلة بثني إيران عن أي من خياراتها العسكرية والإقليمية والتخلي عن تطلعات سياستها الخارجية… العقوبات لم تفلح من قبل في ثني إيران عن مبتغاها، والمؤكد أنها ستكون في قادمات الأيام، أقل وطأة على طهران، بوجود قرار استراتيجي روسي–صيني بالانفتاح على إيران، وتخطي خطوط الغرب الحمراء، التي طالما قيدت تعاملات العملاقين، الآسيوي والأوراسي، مع أكثر الدول “إشكالية” في العالم: إيران.
قلنا إن “شهية” هذه الأطراف للخيار العسكري، ليست متماثلة… أوروبا (باستثناء بريطانيا) أقلها شغفاً بهذا الخيار، وخشية من تداعياته الكارثية عليها، وهي الأقرب بحسابات “الجيوبوليتك” إلى إيران والمنطقة… إسرائيل أكثرها حماسة و”نهماً” للمضي على طريق المواجهة، هي تحت قيادة نتنياهو، لم تقبل من قبل باتفاق 2015، وعملت ما بوسعها لإحباطه والحيلولة دون إبرامه، وهي تحت زعامة نتنياهو من بعد، وبوجود بن غفير وسموتريتش، الأكثر حماسة اليوم، لإحباط أي مسعى جدي للعودة إلى مسار فيينا، والأكثر استعجالاً لخيار “الضربة العسكرية” أو سيناريو “يوم القيامة”، وحول هذه النقطة بالذات، ينعقد إجماع قادتها من مختلف المعسكرات، في الحكومة والمعارضة سواء بسواء.
الكرة في ملعب واشنطن، ومفتاح الحرب والسلام في جيب بايدن، فهو وحده القادر على التقرير بشأن مسارات فيينا، والجميع سيتبع، وهو وحده من يمتلك “زر” الضوء الأخضر أو الأحمر لإسرائيل للقيام (أو الامتناع) بعمل عسكري ضد إيران… من دون واشنطن، لا خيار عسكرياً لإسرائيل، ولا أحد غير واشنطن، بمقدوره أن يوفر لإسرائيل المظلة والاقتدار العملي والتقني والسياسي لفعل ما أمرٍ جللٍ كهذا.
إيران في المقابل، لا تجعل مهمة بايدن سهلة أبداً، لا على طريق الحرب ولا على مسار السلام… صحيح أنها باتت تستعجل الاتفاق والعودة إليه، ربما تحت ضغط الاحتجاجات المتأسسة على الضائقة الاقتصادية والمالية، ولكنها في الوقت ذات، تستشعر “فائض قوة” بعلاقاتها المتنامية مع روسيا والصين، وترى أن لدى هاتين الدولتين، ما يغنيها ويعوضها عن خسارة الغرب وصداقته وتعاملاته، لذا رأيناها تذهب بعيداً في تعاونها العسكري مع روسيا، وتزودها بالمسيّرات والذخائر الصاروخية، كما تقول كييف على أقل تقدير، وتتجرأ على طلب “سلالات” جديدة من الأسلحة الروسية المتطورة، التي كانت محظورة عليها حتى ما قبل شباط الفائت، عندما اجتازت أول دبابة روسية الحدود مع أوكرانيا… وإيران سعيدة بصفقة العصر (40 مليار دولار) مع الصين، وهي ترى أن أبواباً عدة ما زالت مفتوحة مع بكين، لتطوير العلاقات والتبادلات الثنائية معها، وفي شتى المجالات.
مثل هذه التطورات، لا تجعل مهمة الانفتاح الغربي (الأميركي بخاصة) على إيران، سهلة أبداً، و”تورط” إيران في الحرب الأوكرانية من البوابة الروسية، بات ملفاً شائكاً في العلاقات الإيرانية–الغربية، وتهديدات الغرب بمحاسبة إيران على “جرائم الحرب” المرتكبة في أوكرانيا، تصب مزيداً الزيت الحار على نار الخلافات المحتدمة والممتدة لأزيد من أربعة عقود، وأية صفقة غربية-إيرانية، سيكون من المتعذر إتمامها اليوم أو غداً، من دون الأخذ بنظر الاعتبار، اتساع شقة الخلاف بين الطرفين في أوكرانيا وحولها.
أضف إلى هذين العاملين، عاملاً ثالثاً ساهم في تعقيد وتأزيم علاقات إيران بواشنطن والغرب، والمتصل بموجة الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت إيران في إعقاب مقتل الشابة مهسا أميني، والطريقة التي أدارت بها السلطات الإيرانية هذا الملف، والرهانات التي عقدها الغرب على هذه الاحتجاجات، إن لم يكن لإنجاز مهمة “تغيير النظام”، فعلى الأقل “تغيير سياساته”… هذا لم يحصل بعد أربعة أشهر من الاحتجاجات التي تكاد تكون قد خبأت وانطفت، فبات ملف “حقوق الانسان” المصاحب لها، مدرجاً بقوة على جدول أعمال العلاقات الإيرانية–الغربية.
تعني هذه الانسدادات الثلاثة، وبالذات على المسار النووي، أن العلاقة بين أطراف المثلث الغربي–الإيراني–الإسرائيلي، دخلت مرحلة بناء “سيناريو حرب رابعة في الخليج”… وأن نذر مواجهة عسكرية كبرى، قد بدأت تتجمع في أفق المنطقة، الملبّد بالأزمات المتراكمة والمتراكبة، حتى أن بعض المراقبين، بدأ يعتقد أن ساعة الرمل آخذة في التخلص مما في جوفها من حبيبات، وأن المسألة مسألة وقت وتوقيت، لا أكثر.
وربما لهذا السبب، أراد القادة العرب المجتمعون في قمة أبو ظبي التشاورية (الأخوية) توجيه رسالة لإيران، تستحثها من جهة على الانخراط بجدية أكبر والتزام أعلى بجهود تفادي سيناريو الحرب الأكثر خطورة على أمن الإقليم برمته، وتطمئنها من جهة ثانية، إلى أن قادة الدول الست، ليسوا طرفاً في أية استعدادات أو “هندسات” لسيناريو الخيار العسكري، وقد فسّر مراقبون كثر، الحضور النادر للسلطان هيثم بن طارق أعمال القمة، بأنه مقصود بذاته، وأن غايته نقل “رسائل الطمأنة” من القادة المجتمعين في أبو ظبي إلى طهران.
سؤال أجاب عليه، رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري السابق، حمد بن جاسم، بتغريدة قال فيها، أننا قد نكون بحاجة لـ”معجزة” لتفادي الانزلاق إلى مثل هذا المستنقع الخطر… وهو إذ رجح سيناريو المواجهة، وحذر من أن الخليج سيكون الخاسر الأكبر فيها، إلا أنه لم يضع المسألة في إطار “الحتميات”، وأبقى الباب مفتوحا لفرصة أخيرة، ربما.
واشنطن غارقة في حربين كونيتين: الأولى مع روسيا، ساخنة ويتوقف عليها مصير “النظام العالمي” و”القيادة الأميركية”… والثانية مع الصين، باردة، وتدور رحاها في مضيق تايوان وفوق المحيطين وعلى شواطئ اليابان وجزرها، ويتوقف عليها كذلك، مصير “النظام العالمي” و”الزعامة الأميركية”، فهل ستكون الولايات المتحدة قادرة على خوض غمار حرب ثالثة، وهي التي بالكاد تنجح في جرجرة أذيال الخيبة في حربين متتاليتين، أفغانستان 2001، والعراق 2003، وبقية القصة معروفة؟
هل تكتفي واشنطن بمنح إسرائيل ضوءاً أخضر، مشفوعاً بالأسلحة والذخائر التي تمكّنها من تنفيذ ضربة عسكرية “جراحية” للمواقع الإيرانية النووية، دونما حاجة لمشاركة أميركية مباشرة؟… مثل هذا السيناريو يبدو محتملاً، وقد يكون مرجحاً، مع أنه سيناريو محفوف بتداعيات يصعب التكهن بماهيتها، سيما لجهة رد الفعل الإيراني، وما قد يستجلبه من انعكاسات قد تطاول نصف دزينة من دول المنطقة على أقل تقدير.
هل يمكن الرهان على “تحالف إسرائيلي عربي” للقيام بهذا الدور، مع “قيادة أمريكية من الخلف” كما كان يقال؟… واشنطن أخفقت منذ ترامب في بناء “ناتو شرق أوسطي” لمواجهة إيران، والدول العربية الحليفة لواشنطن جنحت شرقاً بعد مجيء إدارة بايدن، بدلالة مواقفها من حرب أوكرانيا و”أوبك +”، فيما حكومة اليمين الإسرائيلي الأكثر تطرفا، تجعل حياة “المعتدلين العرب” صعبة للغاية…عن أي تحالف يتحدثون، فيما دول كالسعودية وشقيقاتها الخليجيات لا تكف عن تفتيح قنوات الاتصال والتبادل مع إيران، ولا تتردد عن بعث رسائل الطمأنينة لقادتها؟
هذه بلا شك، عوائق وعراقيل في طريق خيار الحسم العسكري مع برنامج إيران النووي، بيد أنها بحكم طبيعتها، ليست كافية للجزم باستبعاد هذا الخيار، الذي كلما مر مزيد من الوقت، بات أكثر احتمالية، حتى وإن ارتفعت كلفته، وكلما اقتربت إيران من “عتبة القنبلة” كلما ازدادت إلحاحيته… حرب خليج رابعة في أربع عشريات من السنين ليست حتمية، لكنها مرجحة، وقد تكون الأكثر ترجيحاً بين بقية الخيارات.
* نشر المقال على موقع قناة الحرة
.
رابط المصدر: