خلال مهرجان تورونتو السينمائي في سبتمبر/ أيلول الماضي، قررت الحكومة الكندية، في بادرة أولى من نوعها، الطلب من إدارة المهرجان منع فيلم تسجيلي بعنوان “روس في الحرب” Russians at War حققته الروسية أناستاسيا تروفيموفا حول الحرب الأوكرانية. الموضوع الذي اختارته، هو كيف انضمت المخرجة إلى وحدة في الجيش الروسي لنقل الأحداث على أرض الواقع. أثار الفيلم إعجاب النقاد الذين شاهدوه لكن الحكومة رأت أنه ينقل وجهة نظر إيجابية.
في الواقع، ما قامت به المخرجة هو لعب دور الصحافي الذي يقصد نقل الوقائع الجارية في فيلم ريبورتاجي. مهمّة وصفتها المخرجة بأنها خطرة كونها حضرت القتال في الخطوط الأمامية، مما هدّد حياتها بالموت.
مسألة وقت
بحسب الإحصاءات فإن عدد الصحافيين والعاملين في ميادين الإعلام المختلفة الذين قُتلوا خلال العدوان الإسرائيلي على غزة والضفة الغربية ولبنان بلغ، منذ اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 حتى اليوم، زهاء 180 صحافيا كانوا يؤدون واجبهم عندما تقصّدت إسرائيل النيل منهم، وهو عدد غير مسبوق في الحروب العاتية التي شهدها العالم خلال المائة سنة الماضية. أما موقع “لجنة الدفاع عن الصحافيين” (cpj.org) فيشير إلى أن عدد الصحافيين القتلى في العام الحالي وحده بلغ 72 صحافيا بمن فيهم الضحايا الثلاثة الذين سقطوا أخيرا خلال غارة إسرائيلية على منطقة البقاع في لبنان.
الغالب أن الإنتظار لن يدوم طويلا قبل مشاهدة أفلام تسجيلية ووثائقية عربية وغربية عن حرب غزّة تؤرّخ لكل ناحية وجانب من تلك الحرب الضروس، بما فيها الحقائق المريعة حول اغتيال صحافيين عرب وأجانب كانوا يقومون بأدوارهم السامية قبل اصطيادهم.
قتل في العدوان الإسرائيلي على فلسطين ولبنان عدد غير مسبوق في الحروب العاتية التي شهدها العالم خلال المائة سنة الماضية
بيروت يا بيروت
الصحافة والصحافيون مادة مثيرة للاهتمام بالنسبة إلى السينما الغربية عموما والأميركية على وجه التحديد. وهناك نوعان منها: نوع حول صحافيين يغطّون الحروب القائمة، ونوع عن صحافيين يغطون أحداثا في الجبهة الداخلية حيث تتزاحم القضايا المُثارة وتضمن دخولها على خط “نظريات المؤامرة”.
في النوع الأول، تناول ستانلي كيوبريك دور الصحافة في فيلمه الحربي “سترة معدنية كاملة” Full Metal Jacket سنة 1987الذي توزّعت أحداثه في فصلين: الأول داخل معسكر تدريب، وهو قسم لا يتضمن حضور الصحافة، والثاني في غمار الحرب ذاتها. هنا لعب الممثل ماثيو مودين دور الصحافي جوكر الذي يشهد ما يدور، كاشفا عن شكوكه في جدوى تلك الحرب.
فيلم “سترة معدنية كاملة”.
حول فيتنام أيضا، شاهدنا “القيامة الآن” Apocalypse Now في 1979. في هذا الفيلم الذي لا يماثله أي فيلم آخر في رسالته المعادية للحرب كما في جودته والذي حققه فرنسيس فورد كوبولا، صورة مختلفة للصحافي يمثّلها دنيس هوبر الذي انتقل من الحياد المفترض إلى تبنّي انشقاق الكولونيل وولتر (مارلون براندو) عن المؤسسة العسكرية الأميركية. وقد آثر كوبولا عدم انتقاد الصحافة ككل بل توظيف شخصية هوبر لنقد محدّد لشخصية هائمة سقطت في متاهات تلك الحرب.
وكان المخرج الألماني فولكر شلوندروف حقق سنة 1981، فيلمه عن الحرب اللبنانية من وجهة نظر مراسل ألماني (الراحل برونو غانز) في فيلم “دائرة الخداع” Circle of Deceit. بطله ذاك لم يُصب بمقتل لكنه فقد زمام رشده عندما وجد نفسه وسط معمعة لم يعد قادرا على تحمّلها. صورته وهو ينطلق في الشوارع من دون اتجاه، عكس توهانه ذاك وضياع بوصلته.
ألسنة اللهب تندلع بجانب سيارة صحافية بعد قصف إسرائيلي في يارون جنوب لبنان.
المصير ذاته، إلى حد بعيد، قدّمه المخرج الراحل مارون بغدادي في “حروب صغيرة” (1982) حيث لعب نبيل إسماعيل دور المصوّر الصحافي الذي لم يعد قادرا على ممارسة دوره بحياد. وفي العام التالي أنجز روجر سبوتسوود “تحت النار” Under Fire عن ثلاثة صحافيين (نك نولتي وجوانا كاسيدي وجين هاكمن) يتابعون آخر أيام الرئيس النيكاراغوي سوموزا قبل سقوط حكمه. يصوّر الفيلم أخطار العمل وتضارب العواطف بين شخصياته الرئيسة.
في “حروب صغيرة” لمارون بغدادي نرى مصورا صحافيا لم يعد قادراً على ممارسة دوره بحياد
أرض غريبة
في الموضوع ذاته قام المخرج أوليفر ستون بتحقيق “سلفادور” (1986) من بطولة جيمس وودز الذي يجد نفسه وسط حرب ضارية في أحداث تقع سنة 1980 عندما نشبت حرب أهلية بين الحكم الديكتاتوري المدعوم من الولايات المتحدة والمسلحين الثوريين. يجد المصوّر الصحافي بويلز (جيمس وودز) نفسه في ورطة خطرة، فالثوّار يريدون منه إيصال رسالتهم إلى الشعب الأميركي والعسكر يريدونه التجسس لحسابهم.
معظم هذه الأفلام، وهي مجرد عينات، تضع صحافيين في أرض غريبة: ألماني في بيروت، أميركيون في فيتنام ونيكاراغوا والسلفادور، ويمكن ضم فيلم “بث حي من بغداد” Live from Bagdad لميك جاكسون (2002) إلى هذه الفئة حيث يحط الأميركي مايكل كيتون في العراق خلال حرب الخليج.
فيلم “بث حي من بغداد”.
الخط المشترك هو أن الصحافي الأميركي قد يلج البلد الأجنبي بأقل قدر ممكن من معرفة الحقائق. ما يرغب به، هو تأدية دوره كاملا (كما في “دائرة الخداع”) أو إنقاذ مهنته من خلال ما يعتبره سبقا صحافيا (كما الحال في “سلفادور”). ما يخرج به الصحافيون، يختلف من فيلم الى آخر، فالحقيقة ليست غائبة عن “تحت النار” مثلا، لكنها تنتهي في تجربة الصحافي الشخصية التي لن يستفيد منها أحد (“دائرة النار”). في حالات أخرى (مثل “القيامة الآن” و”بث حي من بغداد”)، يكشف الفيلم أن المسألة ليست ذلك الصحافي وما يقوم به بل هي الحرب ذاتها التي تمزّق البلد الذي تقع فيه.
يجب ألاّ نتجاهل “المسافر” The Passenger للإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني (1975) حول ذلك الأميركي (جاك نيكلسون) الذي قرر التخلي عن شخصيته كصحافي لكنه أخطأ في انتقاء الشخصية البديلة.
المصور ديلان كولينز بعد إصابته جراء القصف الإسرائيلي في قرية علما الشعب الحدودية في جنوب لبنان.
إلى جانب “روس في الحرب”، هناك فيلم مهم آخر من نتاج هذه السنة هو “حرب أهلية” Civil War لأليكس غارلاند الذي شهد عروضه التجارية في مطلع هذه السنة. المضمون هنا يختلف: أربعة صحافيين، ثلاثة منهم مخضرمون يحاولون الوصول إلى البيت الأبيض لمقابلة الرئيس وسط حرب أهلية مندلعة يتعرّضون فيها للخطر. ما يختلف في هذا الفيلم، هو أنه يتحدّث عن حرب داخل الولايات المتحدة تبعا لما تردد في العام الماضي، ولا يزال بين حين ةآخر هذا العام، من أن حربا أهلية وشيكة ستقع داخل أميركا. لا يطرح هذا الفيلم نقاشا سياسيا أو يصطف إلى جانب دون آخر بل يوفر كل اهتمامه لتضحية الإعلام في سبيل التقرير الصحيح.
لا يطرح “حرب أهلية” نقاشا سياسيا أو يصطف إلى جانب دون آخر بل يوفر كل اهتمامه لتضحية الإعلام
ما وراء الستار
في الواقع هناك حروب أخرى في الجبهة الداخلية لا تنطوي على حراك عسكري أو مجابهات في الشوارع بين القوى المختلفة، بل تؤلف قسما منفردا، كما سبق القول، حول حكومات خفية ومؤامرات داخلية ضمن بوتقة ما يُعرف بأفلام نظرية المؤامرة. وهي، في مجملها، أفلام استقصائية تتحرى وضعا سياسيا قائما يُراد تغليفه والتستر عليه. أبطالها صحافيون يسعون الى نشر الحقيقة حول ما يدور في الظل. وفي حين أن الأفلام السابقة تقع في رحى الحروب ووسط المعارك، فإن هذه النخبة هي لأفلام يسودها ما يُعرف بالتشويق السياسي.
فيلم “كل رجال الرئيس”.
شيخ هذه الأفلام التي انطلق معظمها في السبعينات، هو “كل رجال الرئيس” All the President’s Men للمخرج ألان ج. باكولا (1976)، عن الصحافيين الفعليين لجريدة “واشنطن بوست” بوب وودورد (أداه روبرت ردفورد) وكارل برنستين (دستِن هوفمن) اللذين يسعيان لكشف اللثام عن سرقة وثائق تتبع الحزب الديمقراطي سنة 1972. كون الأحداث حقيقية، تمتع الفيلم بصدقية محقّة فضلا عن إعجاب نقاد السينما في الغرب.
كان هذا الفيلم الثاني للمخرج باكولا الذي يتعامل مع شخصية صحافي يسعى الى كشف الحقيقة. الفيلم السابق له ورد تحت عنوان “المنظر الموازي” The Parallax View سنة 1974 وفيه حكاية صحافي (وورن بَايتي) في بلدة صغيرة يحقق في سلسلة من جرائم الإغتيال تطاول قضاة ومسؤولين. يقوده التحقيق إلى الزجّ بنفسه في خطر قد يناله شخصيا.
الفيلمان من أهم أفلام هذا النوع من السينما وأفضل ما قام به باكولا من إنجازات.
تلا “المنظر الموازي” فيلم آخر من النوع ذاته بعنوان “ثلاثة أيام للكوندور” Three Days of the Condor الذي أخرجه سيدني بولاك سنة 1975. أدّى روبرت ردفورد هنا دور موظف في فرع ارشيفي للـ”سي آي أيه” ينجو من عملية دهم وقتل كل الموظّفين الآخرين للتغطية على مكيدة سياسية (بطلها كليف روبرتسون). سيجد الموظّف نفسه ملاحقا للقضاء عليه أيضا.
فيلم “روس في الحرب”
في “تحت الضوء” Spotlight لتوم مكارثي (2015) نجد مايكل كيتون، الصحافي في “بوسطن غلوب” وراء قضية اعتداء رهبان الكنائس الكاثوليكية الجنسي على الأطفال. هذا الفيلم قد ينتمي أيضا إلى عداد أفلام وُصفت بأنها معادية للكاثوليكية لأسباب سياسية.
ثم ها هم أهل المهنة الصحافية يلتقون في فيلم ستيفن سبيلبرغ “ذي بوست” (2017) باحثين في الضغط الذي تتعرّض إليه صحيفتهم “واشنطن بوست” حتى لا تنشر وثائق عن حرب فيتنام تتعلق بإخفاء البنتاغون والبيت الأبيض عدد القتلى الحقيقيين خلال سنوات ما بعد الحرب.
ما يختلف فيه كل فيلم عن الآخر هو الحكاية من حيث أنها واقعية في شخصياتها أو تستند إلى الواقع عبر شخصيات وأحداث خيالية
جبهات متعددة
هذه الأفلام التي تلتقي تحت مظلة سعي الصحافة للكشف عن الحقيقة الغائبة في الجبهة الداخلية، تجتمع تحت مظلة أكبر تشمل تلك التي دارت عن الحروب الفعلية. وإلى جانب ما سبق، لا بد من ذكر أفلام مثل “حقول القتل” وهو تسجيلي عن الصحافي في “نيويورك تايمز” سدني شانبيرغ (قام به سام ووترستون) ومسعاه لكشف الحقيقة حول الحرب الكمبودية والمذابح التي راح ضحيتها عدد غير معلوم بدقة من الأبرياء.
الحرب البوسنية نالت بدورها اهتماما لا بأس به خلال العشرية الأولى من القرن الحالي، عندما قام ريتشارد شيبرد بتحقيق “حفلة صيد” Hunting Party عن مواجهة بطله ريتشارد غير تعدد جبهات القتال وتعدد الحقائق والأكاذيب حولها.