حرب غزة والنظام الإقليمي في الشرق الأوسط

شهدت الأشهر العشرة الماضية تحولات جوهرية في مسارات السياسة الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط. وما ستؤول إليه تطورات الصراع في الأسابيع المقبلة سيحمل في طياته عواقب لا يمكن التنبؤ بها.

قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كانت المنطقة تتميز بعدة خصائص محددة. إذ كانت واحدة من المناطق القليلة في العالم التي تفتقر إلى بنية إقليمية شاملة لإدارة الصراع وتعزيز التعاون الإقليمي. كما كانت المنطقة موطنا لصراعين طويلي الأمد لم يجر التوصل إلى حلول لهما: الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، والصراع المستمر بين إيران وعدة دول في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، شهدت المنطقة أربع حروب أهلية ما زالت مستمرة حتى الآن في اليمن وسوريا والسودان وليبيا، إلى جانب وجود عشرات الجهات الفاعلة المسلحة غير الحكومية.

 

بالنسبة إلى الفلسطينيين، لا شك أن الحرب الإسرائيلية على غزة تمثل دمارا تاريخيا يوازي في شدته نكبة عام 1948. وفتحت هذه الحرب شهية اليمين الإسرائيلي لتكثيف استخدام القوة والاحتلال

 

 

وعلى صعيد أكثر إيجابية، شهدت المنطقة أيضا نوعا من التهدئة، أولا من خلال “اتفاقات أبراهام” التي أبرمت بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، وثانيا من خلال الاتفاق التاريخي بين السعودية وإيران، الذي جرى بوساطة صينية، في مارس/آذار 2023.
عشية السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كان تركيز المنطقة موجها نحو إمكانية التوصل إلى اتفاق بين الولايات المتحدة والسعودية، ثم إسرائيل، وهو ما من شأنه أن يعزز الشراكة الاستراتيجية بين أميركا والسعودية على المدى البعيد، ويعزز اندماج إسرائيل في العالم العربي بشكل أكبر.

حسابات استراتيجية

بعد مرور عشرة أشهر على أحداث السابع من أكتوبر، ودمار غزة، واتساع رقعة الصراع ليشمل الضفة الغربية ولبنان واليمن وسوريا والعراق وإيران، كيف أسهم هذا الصراع في إعادة تشكيل الحسابات الاستراتيجية لدى اللاعبين الرئيسين، وتغيير مسارات العلاقات الإقليمية والدولية في منطقة الشرق الأوسط؟

 

أ ف ب أ ف ب

فتى يمشي عبر بركة من مياه الصرف الصحي بجوار أكوام من القمامة والأنقاض على طول شارع في مخيم جباليا للاجئين الفلسطينيين في شمال قطاع غزة في 14 أغسطس 

بالنسبة لإسرائيل، شكلت هجمات السابع من أكتوبر أكبر خرق لأمنها الاستراتيجي منذ حرب عام 1973. وعلى عكس ما حدث في تلك الحرب، لم تتمكن إسرائيل بعد مرور عشرة أشهر من استعادة قوة الردع الفعالة أو تعزيز دفاعاتها بشكل كامل. ورغم أنها استطاعت إفقاد “حماس” جزءا من نفوذها، فإن الوضع الاستراتيجي لإسرائيل ما زال هشا أمام هجمات إيران ووكلائها. فهي تعاني من انقسامات داخلية عميقة ولم تتوصل بعد إلى مسار استراتيجي واضح للمضي قدما. فالسياسة التي تتبعها حكومة بنيامين نتنياهو- من إعادة احتلال غزة بشكل غير محدد، وزيادة القمع في الضفة الغربية، والتصعيد المفتوح مع إيران ووكلائها- تبدو غير مستدامة ولا توفر مسارا واضحا لإعادة بناء الأمن الإسرائيلي.
أما بالنسبة إلى الفلسطينيين، فلا شك أن الحرب الإسرائيلية على غزة تمثل دمارا تاريخيا يوازي في شدته نكبة عام 1948. وفتحت هذه الحرب شهية اليمين الإسرائيلي لتكثيف استخدام القوة والاحتلال، مما سيترتب عليه عواقب وخيمة على الفلسطينيين في الضفة الغربية أيضا. ورغم أن “حماس” نجحت في إعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة بعد تهميشها في ظل سلسلة “اتفاقات أبراهام”، فإنه لم يتبق الكثير من فلسطين لإنقاذه، وفرص تحقيق “حل الدولتين” تبدو أقل احتمالا في المستقبل القريب.

 

بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فقد كانت للصراع عواقب وخيمة للغاية. إذ أدى إلى تعطيل مشروعها الأساسي المتمثل في إبرام صفقة تاريخية بين الولايات المتحدة والسعودية، يشمل إسرائيل، قبل الانتخابات

 

 

وبالنسبة لإيران، كانت الحرب مزيجا من الجوانب المتناقضة. فمن جهة، نجح أحد حلفائها/وكلائها المسلحين في توجيه أقوى ضربة لإسرائيل في تاريخها الحديث، واستمر في القتال ضدها لمدة عشرة أشهر– ولا يزال مستمرا. كما أن حليفها الرئيس، “حزب الله”، تمكن من إدارة حرب محدودة ضد إسرائيل على طول جبهتها الشمالية. وبهذا المعنى، فإن نموذج الحرب غير المتكافئة الذي تتبناه إيران أثبت فعاليته، مما وضع إسرائيل في مأزق استراتيجي عميق نتيجة شبكة النفوذ التي نسجتها إيران في المنطقة.

في قلب الصراع

ومن جهة أخرى، ربما وضع هذا التصعيد إيران في موقع استراتيجي جديد قد تندم عليه لاحقا. فالتبادل المباشر لإطلاق النار بين إيران وإسرائيل في أبريل/نيسان، إلى جانب اغتيال رئيس المكتب السياسي لـ”حماس” إسماعيل هنية في طهران، والرد المتوقع من إيران على إسرائيل، دفع إيران نفسها إلى قلب الصراع المسلح بشكل مباشر.
وعلى مدار السنوات الخمس والثلاثين الماضية، وخاصة منذ نهاية الحرب الإيرانية-العراقية في أواخر الثمانينات، اعتمدت إيران على وكلائها كخط دفاع أمامي. وقبلت إسرائيل (والولايات المتحدة) بـ”قواعد اللعبة” التي فرضتها إيران، والتي تقضي بأن الرد على عمليات وكلاء إيران سيكون موجها إليهم وليس إلى إيران ذاتها. اليوم، يبدو أن هذه القواعد قد تتغير، مما سيجعل إيران نفسها هدفا مباشرا في هذا الصراع.
وبالنسبة إلى المملكة العربية السعودية ودول الخليج، فيبدو أن استراتيجيتها في “نزع فتيل الصراع المزدوج” مع كل من إيران وإسرائيل أثمرت بشكل ملحوظ. فعلى مدار الأشهر العشرة الماضية، ومع احتمالات التصعيد في الأسابيع المقبلة، تمكنت دول الخليج من البقاء بعيدة عن الصراع، والحفاظ على أمنها، والاستمرار في تحقيق أجنداتها الاقتصادية والتنموية. ويمكن قول الأمر نفسه عن تركيا، التي بقيت إلى حد كبير غير متأثرة بالصراع حتى الآن.
أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فقد كانت للصراع عواقب وخيمة للغاية. إذ أدى إلى تعطيل مشروعها الأساسي المتمثل في إبرام صفقة تاريخية بين الولايات المتحدة والسعودية، يشمل إسرائيل، قبل الانتخابات. كما ألحق أضرارا بمصداقية الولايات المتحدة ومكانتها الأخلاقية، حيث وجدت نفسها عاجزة إلى حد كبير عن التأثير على إصرار نتنياهو على مواصلة حربه المدمرة ضد غزة وسكانها.

 

لنأمل أن تسهم جهود الدبلوماسيين الدوليين والقادة الرئيسين في المنطقة في وضع حد للصراع الحالي وفتح فصل جديد مليء بالفرص

 

 

إضافة إلى ذلك، جر الصراع الجيش الأميركي إلى خطر الانخراط في حرب على جبهتين مع “حزب الله” وإيران، وهو ما تحاول الولايات المتحدة بوضوح تجنبه. وعلاوة على ذلك، ساهم نتنياهو في تقويض مصداقية أميركا من خلال إظهار أنه هو، وليس بايدن، من يمتلك القدرة على التحكم في الكونغرس الأميركي وتوجيه مسار السياسة الأميركية بشكل فعّال في قضايا الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، والإسرائيلي-الإيراني.
ومع ذلك، لم يُغيّر الصراع من حقيقة أن الولايات المتحدة تظل– بشكل إيجابي أو سلبي– اللاعب العالمي الأكثر أهمية في المنطقة. إذ كانت الشريك العسكري الرئيس لإسرائيل، وفي الوقت نفسه الرادع العسكري الأساسي لإيران ومحاولاتها تصعيد الأوضاع في المنطقة. كما تبقى الولايات المتحدة الفاعل الدبلوماسي العالمي الأبرز في محاولات إنهاء حرب غزة ودفع الجهود نحو “حل الدولتين”. ورغم أن الصين لعبت دورا مفيدا في محاولة تقريب وجهات النظر بين “فتح” و”حماس”، فإنها، كما روسيا، تفتقر إلى القدرة أو المصلحة للعب دور رئيس في هذا الصراع المعقد والخطير.

سيناريوهان في المنطقة

مع ترقب المنطقة للخطوات القادمة من إيران وإسرائيل، هناك سيناريوهان محتملان يمكن أن يتكشفا:
في السيناريو الأول، يجري التعامل مع الضربات والهجمات المضادة بشكل منظم إلى حد ما، كما حدث في أبريل/نيسان، مما يساهم في تجنب التصعيد الكبير. في هذا السيناريو، سيكون القرار الرئيس في يد نتنياهو والحكومة الإسرائيلية: هل سيوافقون على وقف إطلاق النار في غزة، ثم في لبنان، مما يتيح للمنطقة فرصة التحرك نحو إعادة إعمار غزة وحوكمتها بعد الحرب؟ أم إن نتنياهو سيتابع في مسار الصراع المستمر، إلى حد كبير لتجنب نهاية حياته السياسية؟

 

أ ف ب أ ف ب

المارة ورجال الإطفاء ينظرون بينما تلتهم النيران سيارة استهدفتها غارة إسرائيلية في مدينة صيدا بجنوب لبنان في 9 أغسطس 2024 

في السيناريو الثاني، تتطور الضربات والهجمات المضادة إلى تصعيد واسع النطاق. وقد يتضمن هذا التصعيد حربا شاملة تشمل غزوا للبنان، فضلا عن مواجهة مباشرة بين إسرائيل وإيران (بمشاركة الولايات المتحدة إلى جانب إسرائيل)، حيث تسعى إسرائيل لتدمير أكبر قدر ممكن من البنية التحتية النووية الإيرانية، بينما تحاول إيران إلحاق أكبر ضرر ممكن بإسرائيل. في هذا السيناريو، يرتفع الخطر إلى مستويات قد تؤثر على دول الخليج ومجلس التعاون الخليجي، وعلى أسواق الطاقة العالمية والاقتصاد العالمي أيضا.
لنأمل أن تسهم جهود الدبلوماسيين الدوليين والقادة الرئيسين في المنطقة في تحقيق السيناريو الأول، مما يضع حدا للصراع الحالي ويفتح فصلا جديدا مليئا بالفرص، ليس فقط للفلسطينيين الذين يعانون من أسوأ نكسة منذ عقود، بل وأيضا للمنطقة بأسرها.

 

المصدر : https://www.majalla.com/node/321893/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D8%BA%D8%B2%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%82%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%B3%D8%B7

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M