حرب كييف الأخرى: محورية العامل الروسي في سياسة أوكرانيا الأفريقية

  • عقب اندلاع الحرب مع روسيا، حاولت أوكرانيا تدارُك المسافة الواسعة التي تفصلها عن موسكو من حيث الحضور والتأثير في الساحة الأفريقية، وكثَّفت من حراكها الذي يستهدف القارة عبر آليات الحضور الدبلوماسي والعون الغذائي والدعم العسكري والأمني. 
  • وطّدت أوكرانيا دعمها للمجموعات المتمردة المسلحة في منطقة الساحل، حيث تنشط مجموعات فاغنر الروسية الموالية للأنظمة العسكرية في الإقليم. ونتيجة لذلك، أعلنت حكومتا مالي والنيجر قطع علاقاتهما الدبلوماسية مع كييف. 
  • يبدو التنافس الروسي-الأوكراني في الساحة الأفريقية مجرد واجهة للصراع الاستراتيجي بين روسيا والغرب في أوروبا، وعلى الأرجح فإن هذا التنافس سيتراجع بعد نهاية المواجهة الروسية-الأوكرانية.

 

بالتزامن مع بدء وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا جولة جديدة في عدة دول أفريقية، من أجل كسب دعمها في الحرب الدائرة مع روسيا، أعلنت حكومتا مالي والنيجر قطع علاقاتهما الدبلوماسية بأوكرانيا بعد بروز مؤشرات على دعمها للحركات المتمردة المسلحة في شمال مالي، كما أن السنغال استدعت السفير الأوكراني في دكار احتجاجاً على الموقف الأوكراني من النزاع الداخلي المالي. وسلَّطت هذه التطورات الضوء على التحديات التي تواجه السياسة الأوكرانية في أفريقيا، ومحورية العامل الروسي في استراتيجيتها الراهنة تجاه هذه القارة.

 

الاستراتيجية الأوكرانية في أفريقيا 

لم تكن لأوكرانيا منذ استقلالها عن الاتحاد السوفيتي عام 1991 علاقات قوية بالدول الأفريقية، وكان تمثيلها الدبلوماسي في عواصم القارة ضعيفاً. وعندما اندلعت الحرب الأوكرانية-الروسية في 24 فبراير 2022، اختارت معظم الدول الأفريقية خط الحياد في النزاع، وانحاز بعضها علناً إلى روسيا. فمن بين 55 دولة أفريقية، امتنعت 25 دولة أو غابت عن التصويت على القرار الذي اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2 مارس والذي أدان الغزو الروسي لأوكرانيا، بما يضع أفريقيا في الموقع الأول عالمياً من حيث مواقف التجمعات الدولية المحايدة إزاء الصراع الأوكراني-الروسي.

 

ومن أجل تغيير هذه الصورة، عمدت حكومة أوكرانيا إلى توزيع بعض أطنان الحبوب والمواد الغذائية على عدد من البلدان الأفريقية، ودعت بعض الصحافيين الأفارقة إلى زيارة كييف والالتقاء بكبار المسؤولين فيها. وقد تعددت زيارات وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا للدول الأفريقية، معترفاً أن بلاده قصّرت في إهمال الدول الأفريقية، واعداً بشراكة فاعلة وناجعة مع دول القارة على أسس التكنولوجيا والتجارة والطاقة. كما أن الخطاب السياسي الرسمي الأوكراني الموجه إلى القادة الأفارقة يركز على تماثل الاستعمار الروسي لأوكرانيا والاستعمار الأوروبي لدول القارة.

 

لتعزيز حضورها في أفريقيا، عمدت أوكرانيا إلى توزيع أطنان من الحبوب والمواد الغذائية على بعض بلدان القارة (Shutterstock)

 

ومن الناحية العسكرية، ذكرت مصادر مطلعة أن أوكرانيا قدمت بعض العون العسكري لجهات أفريقية، من بينها قوات الجيش السوداني بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، في إطار مواجهة استراتيجية التمدد الروسي في القارة، كما وطّدت دعمها للمجموعات المسلحة في منطقة الساحل حيث تنشط مجموعات فاغنر الروسية الموالية للأنظمة العسكرية في الإقليم. وعلى المستوى الدبلوماسي، عملت أوكرانيا على فتح سفارات جديدة في بعض بلدان القارة، من بينها كوت ديفوار (ساحل العاج) وبوتسوانا والكونغو والموزمبيق وموريتانيا. وفي سنتين زار وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا المنطقة الأفريقية أربع مرات، كانت آخرها في بداية أغسطس 2024، حيث زار ملاوي وزامبيا وموريشيوس.

وكرر وزير الخارجية الأوكراني في خلال الجولة الأخيرة نفس الخطاب الاستقطابي للحكومات الأفريقية، التي يحرص أغلبها على الحياد في الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا.

 

مستجدات العلاقات الأوكرانية-الأفريقية 

أعلنت الحكومة المالية في 4 أغسطس الجاري قطع علاقاتها الدبلوماسية بأوكرانيا بأثر مباشر وفوري، احتجاجاً على اعتراف الناطق باسم وكالة الاستخبارات العسكرية الأوكرانية أندريه يوسوف بتقديم بلاده العون إلى الجماعات المسلحة في شمال مالي في معاركها مع الجيش المالي في آخر يوليو 2024، بما أدى إلى قتل 84 عنصراً من قوات فاغنر الروسية و47 جندياً مالياً. واتهمت السلطات المالية أوكرانيا بدعم الإرهاب، في حين ردت حكومة كييف بأنها تواجه “الإرهاب الروسي” المسؤول عن “جرائم مرتكبة في عدة ساحات أفريقية”.

 

وقد بادرت حكومتا النيجر وبوركينا فاسو إلى إعلان تضامنهما مع مالي بخصوص الدعم الأوكراني للمجموعات المسلحة التي يُعتقد أنها رفعت العلم الأوكراني في المعركة الأخيرة التي جرت قريباً من الحدود المالية-الجزائرية. ولم تمر سوى أيام قليلة حتى أعلن المجلس العسكري في النيجر، في 7 أغسطس، عن قطع العلاقات الدبلوماسية مع أوكرانيا، في “تضامن تام مع حكومة مالي وشعبها”.

 

قطعت مالي علاقتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، مُتهمةً الأخيرة بدعم الجماعات المسلحة في شمال البلاد (Shutterstock)

 

وكانت وزارة الخارجية السنغالية قد استدعت السفير الأوكراني في دكار يوري بيفاروف، في 3 أغسطس، لإبلاغه الاحتجاج الحكومي على تعليقه في موقع “فيسبوك” على انتصارات الحركات المسلحة في شمال مالي على قوات الجيش الحكومي والمجموعات الروسية الموالية لها، بما يشكل بحسب الوزارة خروجاً عن التزامات واجب التحفظ إزاء الملفات الأمنية والسياسية الإقليمية. وكان السفير نفسه قد استدعته وزارة الخارجية السنغالية في مارس 2022 احتجاجاً على نشره لمشروع استدعاء متطوعين ضد الجيش الروسي.

 

آفاق الصراع الروسي-الأوكراني في الساحة الأفريقية

من الواضح أن أوكرانيا تحاول تدارك المسافة الواسعة التي تفصلها عن روسيا من حيث الحضور والتأثير في الساحة الأفريقية. ومن هذا المنظور، يتعين التذكير بالحضور الروسي القديم منذ العهد السوفيتي في دول مؤثرة وأساسية في القارة مثل إثيوبيا وأنغولا والجزائر وجمهورية جنوب أفريقيا (بعد تفكك نظام الفصل العنصري). وقد استفادت روسيا من هذا الرصيد طويل الأمد في أزمتها الحالية مع أوكرانيا. ففي خلال التصويت بالجمعية العامة للأمم المتحدة في 2 مارس 2022 حول القرار الذي يُدين غزو روسيا لأوكرانيا، غابت عن التصويت دول وازنة مثل إثيوبيا وغينيا والمغرب وتوغو والكاميرون، في حين امتنعت عن التصويت دول أخرى مثل الجزائر وجنوب أفريقيا وأوغندا والسنغال وأنغولا وناميبيا. ومع أن جُل هذه الدول ترفع شعار الحياد رسمياً، إلا أنها عملياً تُعد موالية لروسيا. كما أن روسيا استفادت نوعياً من تراجع النفوذ الغربي في وسط أفريقيا وغربها، فطورت علاقاتها الاستراتيجية والعسكرية والاقتصادية مع عدة بلدان، من بينها جمهورية أفريقيا الوسطى ومالي والنيجر وبوركينا فاسو.

 

ولمواجهة الاختراق الروسي القوي للقارة، تحاول أوكرانيا منافسة روسيا في الساحة الأفريقية، من خلال عدة آليات وخطط من بينها:

 

  • رفع التمثيل الدبلوماسي في القارة إلى حدود 20 سفارة مقيمة (فتحت حتى الآن 17 سفارة في عموم أفريقيا).
  • استخدام ورقة العون الغذائي لتعزيز الحضور في أفريقيا، كما ما برز في نوفمبر 2022 عندما قدمت أوكرانيا مساعدات من الحبوب إلى سبع دول أفريقية، من بينها الصومال والكونغو الديمقراطية وإثيوبيا والسودان.
  • دخول معترك الصراعات الداخلية في دول القارة لمواجهة النفوذ الروسي عبر تقديم الأسلحة والاستشارات العسكرية إلى القوى المناهضة للأطراف المدعومة من روسيا (جناح عبد الفتاح البرهان في السودان، والحركات المتمردة في دول الساحل).
  • مواجهة الدعاية الروسية في القارة من طريق بوابة كوت ديفوار التي تُعد دولة مؤثرة ومهمة في غرب أفريقيا، وقد أصبحت بالفعل قاعدة النفوذ الأوكراني الجديد في الإقليم. وبادرت حكومة كوت ديفوار منذ مارس 2022 إلى الوقوف المعلن مع أوكرانيا في حربها مع روسيا، وعبّر رئيسها الحسن واتارا عن هذا الموقف في مناسبات عديدة. وفي هذا السياق، نشير إلى تنامي التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي بين أوكرانيا وكوت ديفوار في كل المجالات.

 

لا يبدو أن أوكرانيا قادرة في الوقت الحاضر على منافسة الدور الروسي في أفريقيا، رغم محدوديته (AFP)

 

ومع الإشارة إلى هذه المعطيات، لا يبدو أن أوكرانيا قادرة في الوقت الحاضر على منافسة الدور الروسي في القارة السمراء، وإن كانت تستفيد بوضوح من الشبكات الغربية الموالية لها. بيد أن الدور الروسي في الساحة الأفريقية، بالمقابل، يظل محدوداً لأسباب اقتصادية جلية، وقد لا يتجاوز في المدى المنظور الحضور العسكري والأمني في مناطق النزاع والتوتر، والحضور التجاري في المناطق الغنية بالمعادن ومصادر الطاقة.

 

والخلاصة، أن التنافس الروسي-الأوكراني في الساحة الأفريقية يبدو مجرد واجهة للصراع الاستراتيجي بين روسيا والغرب في أوروبا، ومن هنا سيتراجع هذا التنافس على الأرجح بعد نهاية المواجهة الروسية-الأوكرانية.

 

المصدر : https://epc.ae/ar/details/brief/harb-kiev-al-ukhra-mihwariat-alamil-alruwsi-fi-siasat-uwkrania-alafriqia

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M