أحمد نظيف
في 26 يناير 2023، أعلنت فرنسا عن استدعاء سفيرها من بوركينا فاسو على خلفية إعلان اعتزامها سحب قواتها من الدولة الواقعة في غرب أفريقيا في غضون شهر. قبل ذلك بيومين قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الفرنسية إن باريس تلقت إخطاراً رسمياً من حكومة واغادوغو بإنهاء اتفاق عام 2018 بشأن وجود القوات المسلحة الفرنسية في هذه الدولة. جاءت هذه الخطوة في سياق اهتراء متسارع للنفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا، بعد حضور مديد تجاوز قرن من الزمان، حيث تعاني باريس من انحسار تاريخي لوجودها في منطقة كثيراً ما اعتبرتها “ساحةً خلفيةً” للسلطة والثروة.
لكن الانحسار الفرنسي، لا يترك مكانه للفراغ، بقدر ما يُشكِّل حافز تمدد لنفوذ روسي أخذ في التعاظم على نحو سريع وغير معهود، في نوع من صراع موازٍ تخوضه موسكو ضد خصومها الغربيين (بمن فيهم فرنسا)، وهو صراعٌ لا يقل أهميةً عن النزاع الدائر حالياً شرق أوروبا.
تسعى هذه الورقة إلى تحليل العلاقة بين تراجع النفوذ الفرنسي وتمدد النفوذ الروسي، غرب أفريقيا، ومحاولة استشراف مسارات الصراع المستقبلية وتأثيراتها على القارة الأفريقية.
انحسار النفوذ الفرنسي
سبقت الخطوة التي اتخذتها بوركينا فاسو، في اتجاه إخلاء البلاد من القوات الفرنسية، خطوات عديدة، تؤشر على تنامي مشاعر العداء السياسي والمجتمعي تجاه فرنسا في منطقة غرب أفريقيا. ففي أكتوبر 2022 تعرَّضت السفارة الفرنسية في واغادوغو، والمعهد الفرنسي في بوبو ديولاسو البوركينابية، إلى هجوم من محتجين غاضبين، وفي الوقت نفسه شهدت كل من مالي والنيجر مظاهرات منتظمة ضد الوجود الفرنسي، ونهباً للمتاجر الفرنسية في العاصمة السنغالية داكار في مارس 2021.
كان القاسم المشترك في هذه الاحتجاجات شعور شعبي مُتنام مناهض للفرنسيين، ويرفض الوجود الفرنسي في غرب أفريقيا بجميع أشكاله؛ العسكرية، في المقام الأول، وأيضاً الدبلوماسية والاقتصادية. وهذه المشاعر لم تعد مُقتصرةً على المزاج الشعبي العام، بل أضحت راسخةً داخل قطاع من النخب الأفريقية الحاكمة، لاسيما ضمن المؤسسة العسكرية، وبدا واضحاً أن التحولات التي طالت العلاقات الفرنسية ببعض بلدان المنطقة التي شهدت انقلابات عسكرية خلال الآونة الأخيرة، مثل مالي وبوركينا فاسو، تؤكد هذا التوجه؛ إذ استفادت هذه الانقلابات من عدائها لفرنسا كي تجد لها حواضن شعبية وقاعدة اجتماعية داعمة.
لكن ما الذي حوَّل وجود فرنسي راسخ، بروافد اقتصادية وثقافية وتاريخية متينة، إلى وجود هشّ، يفقد كل يوم مربعات أساسية ضمن مساحته الجيوسياسية؟ تقوم الرواية الفرنسية لتفسير هذا الانحسار، على نوع من “الإنكار”، إذ ربطت الخارجية الفرنسية تصاعد المشاعر المعادية لفرنسا في بعض دول غرب أفريقيا “بحملات التضليل التي ينظمها بعض المنافسين الاستراتيجيين وأدواتهم المحلية، وأيضاً بعض الطُّغَم العسكرية”. لكن الواقع أكثر تعقيداً من هذا التبسيط، حيث يمكن إرجاع أسباب تنامي هذا العداء إلى ثلاثة عوامل أساسية، أخذت تتفاعل فيما بينها لتنتج هذا الانحسار الفرنسي على الصعيد الأفريقي:
1. العامل التاريخي: يتصل هذا العامل أساساً بالمزاج الشعبي في غرب أفريقيا؛ فالعلاقة بين دول المنطقة وفرنسا ليست علاقة طبيعية بين قوة كبيرة وبلدان ناهضة، بل لها خلفيات تاريخية استعمارية سماتها الأساسية في الذهنية الأفريقية: العبودية، والاستغلال، والعنصرية. لهذا، فإن الاستدعاء التاريخي للحاضر يعد عنصراً حاكماً في علاقة الأفارقة عموماً، وخاصة دول الغرب والشمال الأفريقيين، بفرنسا. إن ماضي باريس الاستعماري، على الرغم محاولات الاعتذار، والعمل الأكاديمي والتذكاري المستمر بشأنه، لا يزال يُقدِّمها في غرب أفريقيا بأنها القوة الإمبريالية الأولى. وقد استهدف هذا التأطير بشكل متزايد منذ ظهور حركة الفكر المضاد للكولونيالية في بداية القرن الحالي، بهدف دراسة الموروثات طويلة المدى للاستعمار في جميع المجالات (السياسية، والاقتصادية، إلخ) وانهاء الحالة الاستعمارية القائمة، حيث يجد النشطاء السياسيون في المنطقة أرضية مناسبة لنقد فرنسا وسياساتها.
المكون الثاني في هذا العامل التاريخي، هو ما يعرف بــ “سياسة فرنسا الأفريقية” في حقبة ما بعد الاستعمار، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، والتي قامت على استغلال موارد المنطقة الطبيعية دون مقابل يُذكَر، والتحكم في الأنظمة السياسية وتنفيذ انقلابات عسكرية للحفاظ على سيطرتها على القارة؛ فهذه السياسة اعتبرت استمراراً للاستعمار في صور وأنماط أخرى، ومنذ نهاية القرن العشرين أخذت تلقى نقداً واسعاً من النخب الأفريقية.
2. العامل العسكري: فرضت السياقات الجيوسياسية الجديدة في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل، وما تخللها من بروز للتحدي الجهادي وتنامي خطر الجماعات الإرهابية، عودةً عسكرية فرنسية مباشرة إلى المنطقة، عبر مجموعة من التحالفات الأمنية والعسكرية مع الأنظمة. لكن هذا الوجود العسكري أصبح محل انتقاد واسع من الجمهور الأفريقي الواسع، ومن النخب السياسية والفكرية، بوصفه عنصر تأزيم للمنطقة لا عاملاً من عوامل استقرارها.
بدأت فرنسا في وجودها العسكري الجديد الأوسع منذ مطلع عام 2013 مع عملية سرفال، التي كانت تهدف إلى منع وهزيمة الميليشيات الإسلامية المتمردة في شمال مالي، التي بدأت بالاندفاع نحو وسط البلاد، من خلال نشر حوالي خمسة آلاف جندي فرنسي في المنطقة. لاحقاً، وبالتحديد في أغسطس 2014، تحولت عملية سيرفال إلى عملية برخان، وهي مهمة إقليمية تتركز في منطقة الساحل، قوامها 4000 رجل، وثماني طائرات مقاتلة، و300 عربة مدرعة، و300 مركبة لوجستية، و17 مروحية وطائرات نقل، وخمس طائرات من دون طيار، وقد شكلت حينذاك أكبر انتشار للقوات الفرنسية في الخارج، حتى تاريخ الانسحاب في أغسطس 2022.
3. العامل الخارجي: وهو الذي تقوم عليه جميع التفسيرات الفرنسية، حيث تلعب القوى المنافسة لفرنسا في الغرب الأفريقي، ومن بينها الصين وروسيا، بوجه خاص، دوراً واضحاً في استغلال العوامل التاريخية والعسكرية لتأجيج مشاعر العداء تجاه فرنسا. ويعتقد الفرنسيون أن الروس بصورة أساسية يخوضون حرب معلومات منظمة تقوم على استغلال شبكات التواصل الاجتماعي في ترويج سرديات تتعلق بالماضي الاستعماري لفرنسا وسياستها الاقتصادية في دول غرب أفريقيا، وترسيخها. كما يعتمدون على شبكات موالية لهم في المنطقة مكونة من نخب عسكرية وثقافية وإعلامية.
تمدُّد النفوذ الروسي
لا يترك النفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا مكانه للفراغ؛ فعلى نفس النسق من التراجع الفرنسي السريع، نشهد تمدداً روسياً أسرع. ترتكز سياسة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ وصوله السلطة في العام 2000 على إعادة نفوذ روسيا في المناطق التي كان الاتحاد السوفيتي حاضراً فيها بقوة، ومن بينها مناطق واسعة من أفريقيا ودولها، التي كانت تحكمها حكومات اشتراكية وشيوعية، خلال حقبة ما بعد الاستعمار. وفي ضوء هذا النهج الاستعادي للقوة استغلت موسكو الجائحة الصحية التي ضربت العالم على نحو كبير في دعم نفوذها الأفريقي. ومنذ أن أعلنت عن لقاحها الخاص “سبوتنيك 5” شرعت في حملة لتوزيع اللقاحات المجانية على دول أفريقيا، ولاسيما غربها، كما وافق صندوق الاستثمار المباشر الروسي على منح امتياز تصنيع اللقاح في 15 دولة أفريقية. في الوقت نفسه، كانت الدول الغربية، لاسيما فرنسا، تُدير ظهرها لانتشار الوباء في غرب أفريقيا، غارقةً في أوضاعها المحلية. وشكلت دبلوماسية اللقاحات أرضيةً جيدةً لموسكو لبناء سردية لدى شعوب غرب أفريقيا تُقدِّمها على أنها “قوة عظمى إيجابية”، تساعد الأفارقة في مواجهة “قوة عظمة سلبية”، تستغل ثرواتهم ولا تُقدِّم لهم شئياً.
يُعيد بوتين استغلال التراكم الذي حققه الاتحاد السوفياتي في أفريقيا بعد قطيعة تسعينيات القرن الماضي، إذ تستفيد روسيا من العلاقات التي أقيمت طيلة عقود من خلال المساعدة التي قدمها الاتحاد السوفيتي للعديد من القادة الأفارقة المناهضين للاستعمار. وبحلول الوقت الذي انحلّ فيه الاتحاد السوفيتي رسمياً في عام 1991، كان أكثر من خمسين ألف أفريقي قد درسوا في الجامعات السوفيتية والمعاهد العسكرية والتقنية، وكان ما لا يقل عن مائتي ألف أفريقي آخرين قد تلقوا تدريبات سوفيتية على الأراضي الأفريقية. في الوقت نفسه، يشتغل الروس بشكل علمي مكثف حول أفريقيا من أجل صياغة سياساتهم بشكل أفضل، فمثلاً يتكون معهد الدراسات الأفريقية داخل الأكاديمية الروسية للعلوم من ثلاثة عشر وحدة بحثية، ومجموعة عمل، ومركز معلومات، يعمل بها ما مجموعه أكثر من 100 عضو هيئة باحث وأكاديمي.
إلى جانب القوة الناعمة، يتجلى نفوذ موسكو في غرب أفريقيا من خلال قوتها الصلبة، كما يظهر في حالة الشركة العسكرية الروسية الخاصة “فاغنر”، التي تستخدم جمهورية أفريقيا الوسطى ومالي خدماتها لضبط مجاليهما الجغرافي. بدأت فاغنر العمل في جمهورية أفريقيا الوسطى في عام 2018. وعلى الرغم من الاتهامات العديدة للمجموعة بانتهاكها حقوق الإنسان في وقت مبكر من عام 2019، كان يُنظر إليها عموماً على أنها تؤدي دوراً إيجابياً. فقد ساعدت “فاغنر” بالفعل في منع تحالف الوطنيين، بقيادة الرئيس السابق فرانسوا بوزيزي، من الإطاحة بالرئيس فوستان-آرشانج تواديرا. ومع ذلك، ساعدت المجموعة لاحقاً في إخضاع المدنيين في المناطق التي كان يسيطر عليها المتمردون سابقاً. كما أن “فاغنر” تعمل في مالي منذ أواخر عام 2021، عندما ابتعدت الدولة عن شركائها الأمنيين التقليديين، مثل فرنسا. وتزامن ذلك مع تكثيف العمليات العسكرية ضد المقاتلين الإسلاميين. لذلك تبدو أنشطة المجموعة الروسية متركزة على حماية الأنظمة السياسية الحليفة، وهو ما يزيد من ترسيخ من نفوذ موسكو في غرب أفريقيا.
وعلى نحو أكثر شمولاً يبدو النهج الروسي في استخدام الشركات العسكرية الخاصة في السنوات الأخيرة، عاكساً للدروس المستفادة من عمليات الانتشار السابقة، وللسياسات التوسعية المتنامية، والرغبة في تحقيق مكاسب اقتصادية وجيوسياسية وعسكرية. فقد شكلت أوكرانيا في عام 2014 المختبر الأول لهذه التجربة. ثم صقل الروس النموذج، بفعل عمل هذه المجموعات الخاصة مع القوات المحلية في بلدان مثل سوريا وليبيا. ومع مرور الوقت، وسَّعت موسكو من استخدام شركاتها العسكرية الخاصة ليشمل أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وأمريكا اللاتينية، ومناطق وبلدان أخرى، بما في ذلك السودان، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وموزمبيق، ومدغشقر، وفنزويلا. ويتمثَّل دورها الأساسي في تقويض نفوذ القوى الغربية، لاسيما فرنسا.
مستقبل المواجهة الفرنسية-الروسية
تفترض أي محاولة لرسم الملامح المستقبلية للصراع الروسي-الفرنسي في غرب أفريقيا، الانطلاق من واقع جيوسياسي مستقر إلى حدٍّ ما. لذا فإن الحرب الدائرة اليوم في أوكرانيا، تزيد من ضبابية المشهد المستقبلي، وتجعل أي عملية توقع صعبة المنال، بوصف الروس طرفاً رئيساً ومباشراً في الحرب، والفرنسيين طرفاً غير مباشر. وعليه، فإن نتيجة الحرب – التي يبدو أنها لن تنتهي قريباً – ستكون عنصراً محدداً في تحديد الطرف الذي سيحسم الصراع في غرب أفريقيا. لكن حرب اليوم وعلى أهميتها، ليست المحدد الوحيد لتوقُّع مستقبل الغرب الأفريقي في ظل صراع النفوذ المحتدم بين باريس وموسكو.
إن أحد المسارات المتوقعة هو تراجع نفوذ الطرفين؛ ففرنسا تبدو اليوم، ولأسباب أشرنا إليها سالفاً، عاجزةً عن إعادة إنتاج هيمنتها التاريخية على غرب أفريقيا، وهي واعية بذلك، وبالكاد تريد الحفاظ على مصالح اقتصادية ووجود ثقافي من خلال اللغة والروابط الثقافية الفرنكوفونية. أما روسيا فيمكن أن يتراجع نفوذها لأسباب تتعلق بمجريات الحرب الأوكرانية؛ فحتى إن فرضنا جدلاً أن روسيا حققت أو ستحقق مكاسباً في هذا الجانب، فإن العقوبات الغربية الواسعة المفروضة على موسكو ستجعل دول غرب أفريقيا تنأى بنفسها عن شراكات أوسع مع الروس خوفاً من أن تطالها العقوبات الغربية. ومع ذلك يظل بإمكان روسيا أن توسِّع مجال حضورها في غرب القارة، من خلال مجموعاتها العسكرية الخاصة، لاسيما في الكاميرون بعد توقيع ياوندي وموسكو اتفاقية تعاون عسكري، خلال زيارة وزير الدفاع الكاميروني، جوزيف بيتي أسومو، إلى روسيا العام الماضي. وكذلك في بوركينا فاسو، حيث تشكل المشاعر المعادية للفرنسيين، والوضع الأمني، والانقلاب الأخير أرضاً خصبة للتمدد الروسي.
وفي نهج آخر تعمل عليه إدارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يمكن أن تتجه فرنسا إلى إعادة بناء سياسة جديدة تجاه أفريقيا، تمثِّل قطيعة تامة مع الماضي، من خلال بناء شراكات مع المجتمع المدني ومجتمع الأعمال والشباب، والاستثمار أكثر في التعليم والثقافة، لكسب النخب الجديدة في غرب القارة، عبر سياسات تأشيرات أكثر انفتاحاً، وتمويل الشركات الصغرى والتكنولوجية. وهو توجه شرع فيه ماكرون منذ خريف العام الماضي خلال القمة الأفريقية الفرنسية الثامنة والعشرين في مونبلييه، حيث لم يُدعَ أي رئيس دولة أفريقية، بل قامت القمة على الحوار مع الشباب الأفريقي، والشتات، لمناقشة مواضيع مختلفة، من بينها: المشاركة المدنية والديمقراطية، والابتكار وريادة الأعمال، والبحث والتعليم العالي، والثقافة والتراث، والصناعات الثقافية والإبداعية، وأخيراً الرياضة والتنمية.
أما المسار الأكثر وجاهةً، والأقل ضرراً، مُستقبلاً، فيتمثَّل في خروج غرب أفريقيا من منطق النفوذ الأحادي أو صراع النفوذ الثنائي إلى نهج أكثر انفتاحاً على وجود قوى عظمى وصاعدة متنوعة في المنطقة (بشكل أساسي: الصين، واليابان، وتركيا، إلى جانب فرنسا وروسيا)، بوصفها مجالاً جغرافياً استراتيجياً من حيث المواد الطبيعية، ومن حيث القدرات البشرية (شباب ذوي تعليم جيد، وسوق عمل أقل كلفة)، لاسيما في قطاعات التقنية.
.
رابط المصدر: