بقلم : د. منصور أبو كريم – باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
خرجت حركة فتح من أزمة الانتخابات التشريعية المؤجلة بوضع ليس في أفضل حالٍ، فالحركة متهمة من قبل القوى السياسية الأخرى بالتذرع بقضية القدس للهروب من الاستحقاق الانتخابي في ظل ما تعانيه من أزمات داخلية ساهمت بإيجاد مبررات لدى القوى السياسية الأخرى باتهامها بالتهرب من الاستحقاق الانتخابي.
صحيح إن قضية القدس تمثل جوهر مشروع حركة فتح القائم على دولة فلسطينية في حدود عام 1967 على أساس قرارات الشرعية الدولية مبدأ حل الدولتين، ما يجعل قضية القدس بالنسبة للحركة من المحظورات الوطنية والخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها؛ إلا إن ما صاحب الإعلان عن تأجيل الانتخابات من ظروف فتحاوية داخلية سمح للقوى المناوئة للحركة بهذه المساحة الكبيرة من الهجوم السياسي عليها.
التقييم الموضوعي لتجربة الانتخابات المؤجلة يؤكد ثمة عدة عوامل ساهمت جميعهاً في وصول حركة فتح لهذا المأزق السياسي، كان من أهم هذه العوامل هو سوء تقدير الوضع الدولي والإقليمي والداخلي الفلسطيني على المستوى الوطني والفتحاوي، سوء التقدير هذا سمح لحركة حماس المنافس الأكبر للحركة على زعامة الشعب الفلسطيني أن تغرر بجزء من حركة فتح في إسطنبول وتغرر بجزء آخر في القاهرة، فكعادة حركات الإسلام السياسي التي تتصف بالبرغماتية والقدرة العالية على التكتيكات الانتخابية بهدف تحقيق أكبر مكاسب انتخابية تعزز من جودها السياسي.
في هذه الورقة سوف نسعى لتقييم الأوضاع الداخلية الفلسطينية والفتحاوية والدولية والإقليمية، والدروس المستفادة من هذه التجربة، في ظل ما تعانيه الجبهة الداخلية الفلسطينية من تحديات في ضوء تأجيل الانتخابات التشريعية.
أولاً: تقييم الوضع الداخلي.. الفتحاوي والوطني
في سياق البحث عن تقييم موضوعي للوضع الداخلي الفلسطيني على المستوى الوطني والفتحاوي، يتبادر للذهن السؤال المهم والجوهري: كيف غررت حماس بفتح في إسطنبول وبجماعة دحلان في القاهرة؟
لقد عملت حركة حماس وفق نظرية فرق تسدّ، بهدف إضعاف حركة فتح كتيار رئيسي في الساحة الفلسطينية من خلال عقد اتفاقيات متناقضة بين فرقاء الحركة مستغلة حاجة الأطراف الفتحاوية لها في الحصول على نتائج إيجابية، فقد أوهمت حماس جزء من فتح في إسطنبول أن مسار الانتخابات التسريعية هو مسار متفق عليه، يؤدي إلى إجراء انتخابات تشريعية بقائمة مشتركة في حسن الأحوال أو بقوائم منفصلة تحوز على أغلبية مقاعد المجلس التشريعي؛ وانتخابات رئاسية بمرشح واحد متفق عليه هو الرئيس محمود عباس، هذا المسار الذي ولد الديناميات الدافعة باتجاه اصدار مراسم الانتخابات التي لم تلتزم بها الحركة، بل عملت على خلق مسارات أخرى موازية تهدف إلى إرباك حركة فتح وعدم تحقيقها نتائج إيجابية.
في مقابل مسار إسطنبول اتفقت الحركة مع جماعة دحلان في القاهرة على منح الجماعة مساحة كبيرة وواسعة من التحرك واستقبلت قيادات من تيار دحلان كانت تضع عليهم فيتو في السابق مقابل امتيازات مادية دفعها التيار مضطر، ومكاسب سياسية تجعل من ورقة دحلان وتياره ورقة ضغط على الرئيس عباس وحركة فتح من أجل ضمان التوصل لحكومة وحدة وطنية بدون التخلي عن ورقة غزة بصورة كلية، خاصة في حالة عدم تحقيق الحركة مكاسب انتخابية كبيرة، بما يؤدي لتثبيت الوضع القائم في إطار تقاسم وظيفي تسعى إليه الحركة منذ فترة عبر جعل حكومة السلطة الفلسطينية مجرد ” صراف آلي”، وهدفت الحركة من التنسيق مع تيار دحلان عدم تحقيق حركة فتح مكاسب انتخابية كبيرة في العملية الانتخابية في حالة إجراءها، كما استفادت الحركة من تأجيل الانتخابات التشريعية عبر الظهور بمظهر المدافع عن الممارسة الديمقراطية عبر ادانة إلغاء الانتخابات التشريعية رغم إن إلغاءها يفيد الحركة أكثر من استكمالها في هذه اللحظة العصيبة.
سوء التقدير الذي صاحب إجراء الانتخابات التشريعية امتد للجسم التنظيمي للحركة الكبيرة، وأظهر قوة تماسك حركة فتح الداخلي في ظل بروز تيارات كثيرة تسعى لحجز مكانها في النظام السياسي استعدادًا للمرحلة المقبلة، ظهر ذلك بشكل واضح بعد قرار الدكتور ناصر القدوة تشكيل قائمة منفردة بعدم من عضو اللجنة المركزية الأسير مروان البرغوثي. هذا الأمر انعكس على أداء الهيكل التنظيمي المترهل الذي بدأ البحث بكامله عن مكان في القوائم المحسوبة على الحركة في ظل غياب المعايير الواضحة لاختيار قائمة الحركة لخوض الانتخابات التشريعية.
سوء التقدير الداخلي لم توقف عند العلاقة المتلبسة مع حركة حماس وبناء تحالفات انتخابية معها، ولم يتوقف أيضاً عند سوء تقدير الوضع التنظيمي للحركة بل امتد لكي يصل لسوء تقدير للمزاج العام للشعب الفلسطيني، وحالة تعطش الشعب الفلسطيني لإجراء الانتخابات بعد سنوات الانقسام، سوء التقدير هذا كان سوف تدفع ثمنه الحركة من خلال عملية تشتيت منظمة ومرتبة للأصوات من أجل دفع الحركة لعدم الحصول على الكم الأكبر من كتلتها التصويتية عبر خلق كيانات وقوائم شبابية وعائلية بهدف تشتيت الأصوات، كما أن تشتت قوى اليسار الفلسطيني بعد نزول معظم هذه القوى بقوائم منفردة كان كفيل بغياب شبه كامل لهذه القوى عن الساحة السياسية، ما يجعل حالة الاستقطاب الثنائي هو سيد الموقف.
التقييم الموضوعي لعلاقة حركة حماس الملتبسة بحركة فتح وتياراتها يؤكد أن الحركة غررت بجزء من فتح في اسطنبول وغررت على جزء آخر في القاهرة وخرجت من أزمة الانتخابات المؤجلة بأكبر انتصار سياسي! فالحركة التي منعت الممارسة الديمقراطية طول فترة الانقسام لاعتبارات حزبية وجدت في القبول بالانتخابات التشريعية والرئاسية في هذه المرحلة مكسب سياسي يساهم في مزيد من تفتيت الحركة وانقسامها ويرفع الحرج عن حكم الحركة المتعثر للقطاع. لذلك عملت الحركة بكل جهد على إظهار صورة غير صحيحة أنها مع التجربة الديمقراطية لتحقيق مكسب سياسي إضافي يساهم في تثبيت اركان حكمها لغزة تحت شعار إن الحركة كانت ومازالت مع الانتخابات والتجربة الديمقراطية وإن التعطيل ليس منها؛ وما المسيرات والمؤتمرات الصحفية الدعاية لعقد الانتخابات بأي شكل لخير دليل على هذا الوعي الزائف!
ثانياً: تقيم الوضع الدولي.. الأمريكي والأوروبي
تقييم البيئة الدولية على المستوى الأمريكي والأوروبي لم يكن أفضل حالاً من البيئة المحلية، فثمة عدة عوامل أخرى تؤكد عدم قراءاه موقف إدارة بايدن من المسار الديمقراطي بشكل جيد، كون أن إدارة بايدن مازالت منشغلة في قضية الملف النووي الإيراني من جانب ولم تحدد تصور واضج وجلي للتحرك في المسألة الفلسطينية من جانب آخر، كما أنها متخوفة من نتائج الانتخابات التشريعية في هذا التوقيت، خاصة أن كل المؤشرات تؤكد هذه الانتخابات قد تعيد انتاج نفس مشهد العام 2006، وهو الأمر الذي تخشى منه الولايات المتحدة في الوقت الحالي، لذلك طلبت إدارة بايدن على خجل تأجيل الانتخابات التشريعية ولم تمارس أي ضغوط على إسرائيل لتمريرها في القدس الشرقية.
في حين اكتفت الولايات بدور الناصح للقيادة الفلسطينية بضرورة عدم الاستعجال في الذهاب لانتخابات تشريعية غير معروفة النتائج وقفت أوروبا عاجزة عن فعل شيء ذو جدوى في دفع إسرائيل بالالتزام بإجراء الانتخابات التشريعية الفلسطينية في القدس كما جرت العادة في المرات السابقة، مما سهل على حكومة اليمين المتطرف الحاكمة في إسرائيل من التهرب من إعطاء رد واضح وصريح من قضية الانتخابات لعلمها بحساسية قضية الانتخابات بالنسبة للعالم، السلوك الإسرائيلي من قضية الانتخابات حاول وزن قضية الانتخابات بميزان الذهب، فمن جانب سعت إسرائيل لعدم الظهور بمظهر المانع والمعطل للتجربة الديمقراطية الفلسطينية، ومن جانب آخر عملت على دفع القيادة الفلسطينية وحركة فتح لإجراء الانتخابات بدون القدس وهو الامر الذي يثبت قرار ترامب باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل.
لقد وقف العالم يتفرج على بعث إسرائيل بالمسار الديمقراطي الفلسطيني، فلم ترغب إدارة بايدن الضغط على إسرائيل منذ اللحظة الأولى، ولم تكن أوروبا قادرة على فعل شيء، ولم تقوم روسيا أو الصين بأي دور يساهم إجراء الانتخابات التشريعية في القدس.
ثالثاً: تقييم الوضع الإقليمي
أما على المستوى الإقليمي فالانتخابات التشريعية الفلسطينية جاءت في ظل تأزم الوضع الأمني والسياسي للإقليم، في ظل اشتداد أزمة سد النهضة الأثيوبي وانشغال مصر بهذه القضية الجوهرية على المستوى الاستراتيجي، كون أن قضية هذا السّد تشكل تهديد خطير للأمن القومي المصري، كما أنها جاءت في فترة يشهد فيها الأردن أزمة داخلية مع تصاعد حدة الجدل السياسي داخل المتجمع الأردني بعد قضية محاولة الانقلاب الفاشلة، فالجهود الأردنية منصبة في الوقت على الخروج من هذه الأزمة بأقل ضرر ممكن، ومواجهة محاولات إسرائيل العبث بالرعاية الدينية على الحرم القدسي في القدس في ظل بروز ملامح التوتر في العلاقة مع إسرائيل منذ فترة.
لم يكن الوضع الإقليمي أفضل حالاً من البيئة الدولية التي تقدم أي دعم حقيقي لمسار الانتخابات التشريعية، لأسباب راجعة إما لتخوفات من نتائجها أو انشغالات داخلية للقوى الإقليمية، هذا الأمر ساهم في جعل الفلسطينيين يقفون لوحدهم في مواجهة إسرائيل ومنح الأخيرة القدرة على التلاعب بالرد حول قضية القدس.
رابعاً: الدروس المستفادة من تجربة الانتخابات المؤجلة
ربما من حسنات هذه الانتخابات أنها حركت المياه الراكدة وإعادة النظر في شكل وبنية النظام السياسي الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال، وطرحت العديد من التساؤلات حول مستقبل النظام السياسي الفلسطيني في ضوء استمرار الانقسام وصعوبة إجراء الانتخابات كمدخل لإنهاء الانقسام، كما انها كشفت عن حالة التشكيك والصراع داخل فتح وخارجها على حجز مكانة داخل مؤسسات نظام اوسلو المتعثر!
على الرغم من رغم صعوبة المرحلة التي أعقبت الإعلان عن تأجيل الانتخابات التشريعية في ظل اشتداد حالة التجاذبات السياسية وحرب المؤتمرات والصريحات المنددة بتأجيل الانتخابات؛ إلا أن ذلك لا يمنع من الخروج بمجموعة من الدروس المهمة، فثمة عدة دورس وعبر يمكن لحركة فتح وباق القوى السياسية الاستفادة منها إن أرادوا ذلك:
أول هذه الدروس: لا يجب النظر لمؤسسات نظام السلطة الفلسطيني على أنها تمثل الكيانية الفلسطينية، فلابد إعادة الاعتبار لمنظمة التحرير ومؤسساتها باعتبارها الممثل والمعبر عن الكيانية الفلسطينية، وهنا يجب إعادة الاعتبار للمجلس الوطني والمجلس المركزي والدفع باتجاه منحهم الدور الأكبر في مناقشة القضايا الرئيسية على اعتبار أنهم يمثلوا برلمان الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج.
لا يجب الاستمرار في تصوير مؤسسات السلطة الفلسطينية على أنها تمثل كل مؤسسات النظام السياسي الفلسطيني، صحيح مؤسسات السلطة الفلسطينية جزء مهم من مؤسسات النظام السياسي، وبناءً عليه لأبد من دعوة المجلس الوطني والمجلس المركزي للانعقاد في دورة مفتوحة لمناقشة كل التحديات والتطورات.
ثاني هذه الدروس: يجب النظر بصورة مختلفة للوضع الداخلي الفلسطيني، على المستوى الوطني والمستوى الفتحاوي، وتقييم تجربة تحالف حركة فتح مع حركة حماس على المستوى الرسمي والغير رسمي في ظل تحقيق الحركة لانتصارات سياسية مستغلة الخلافات الفتحاوية الداخلية؛ كما يتوجب على الحركة الاستفادة من هذه التجربة في إعادة النظر في الجسم والهيكل التنظيمي للحركة، والتحضير لعقد المؤتمر الثامن بصورة مختلفة تضمن تثيل حقيقي لقواعد الحركة وأطرها من خلال العمل بنظام المؤتمرات الفرعية، أي إقرار العمل بنظام مؤتمرات فرعية مركزية للضفة الغربية وقطاع والشتات، تنتخب من خلالها قيادة الفرع واللجان الرقابية وممثلين الفرع في المؤتمر العام، كما يتوجب على حركة فتح إنشاء مراكز دراسات خاصة بالحركة للمساعدة في تقديم تصورات حول طبيعة كل مرحلة وتقديم حلول للأزمات والإشكاليات التي تعني منها الحركة، فخلال فترة التحضير لهذه الانتخابات ظهرت هشاشة الوضع الداخلي الفلسطيني والوضع الفتحاوي، مما سهل على إسرائيل منع إجراء الانتخابات في القدس بالاعتماد على خلافات الفلسطينيين.
الدرس الأخر الذي يجب تعلمه من أزمة الانتخابات هو عدم التعويل على أوروبا في إجبار إسرائيل على الالتزام بالاتفاقيات الموقعة! فالتجربة أكدت أن إجراء الانتخابات في القدس لا يمكن أن يحدث في ظل غياب الضغط الأمريكي، كون أن الولايات المتحدة لاعب محوري في أي جهود دولية تهدف إلى دفع إسرائيل بالالتزام بالاتفاقيات الموقعة.
خاتمة:
الانتخابات التشريعية المؤجلة كشفت مأزق مؤسسات نظام أوسلو في ظل استمرار الاحتلال وسيطرته على الأوضاع في الاراضي الفلسطينية بطرق مختلفة، كما كشفت عن ترهل الوضع الداخلي الفلسطيني والفتحاوي، كما كشفت عن الحجم الذي يمكن أن تلعبه أوروبا في العملية السلمية بدون الولايات المتحدة الأمريكية، فكل ذلك ساهم بصور مختلفة بالتعجيل بقرار التأجيل أو الإلغاء لحين توفر ظروف وأوضاع دولية ومحلية مختلفة.
ربما الظروف الدولية والإقليمية والمحلية لم تخدم قضية الانتخابات، فهي لم تجد الدعم الدولي والإقليمي القادر على انجاحها، لكن ذلك لا يعني أن هذه التجربة كانت سوية من حيث التحضير على المستوى الوطني والفتحاوي، فالتجربة كشفت عن العديد من الإشكاليات الداخلية الفلسطينية والفتحاوية، وكشفت أيضا عن مستويات الصراع داخلي فتح وخارجها على حجز مكانة متقدمة النظام السياسي على المستوى الشخصي والحزبي استعدادًا للمرحلة المقبلة.
رابط المصدر: