رفعت إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، يوم 4 فبراير الجاري عقوباتٍ عن إيران كانت قد فرضتها إدارةُ سلفه دونالد ترامب خلال عامي 2019 و2020. تضمنت هذه العقوبات عدم السماح للشركات الروسية والصينية والأوروبية بتنفيذ عمليات ومشاريع نووية مدنية “لا تتعلق” بالانتشار النووي في المواقع الإيرانية، إذ كانت إدارة ترامب قد ألغت هذه الإعفاءات خلال العامين المُشار إليهما في إطار فرضها لعقوبات شاملة إثر خروجها من الاتفاق النووي مع إيران في مايو 2018.
وتُعد هذه الخطوة أحدث إشارة إيجابية فيما يخص المسار الصعب للمفاوضات النووية الجارية في النمسا والرامية إلى عودة واشنطن وطهران إلى الالتزامات الواردة في النص الأصلي لاتفاق عام 2015. وتدلُ هذه الخطوة على رغبة الولايات المتحدة في إحداث تقدم جدي بشأن المفاوضات النووية مع إيران، في الوقت الذي من المقرر أن يلتقي فيه الطرفان وجهًا لوجه في محادثات مباشرة لأول مرة منذ سنوات.
ولعل هذا الإعفاء الأمريكي يُعد خطوة فنية ضرورية من أجل العودة إلى الاتفاق الأصلي. وإلى جانب الرغبة الأمريكية في استكمال خطوات العودة إلى الاتفاق، تعلن إيران مرارًا عن نيتها العودة هي الأخرى إلى التزاماتها الواردة في اتفاق لوزان النووي لعام 2015؛ للعديد من الأسباب التي يأتي على رأسها ترميم الاقتصاد الإيراني بعد سنواتٍ من التدهور الحاد، خاصة منذ 2018. إننا لا نبالغ إن قلنا إن العودة مرة أخرى إلى الاتفاق النووي الأصلي قد يمثل إنقاذًا للنظام السياسي في طهران، ما يجعل حكومتها مهتمة للغاية بالعودة إليه، على الرغم من العوائق القائمة.
إذًا، فإن المحصلة تصبح أمامنا أن الأمريكيين والإيرانيين والأطراف الأوروبية والصينيين والروس يبذل كلٌ منهم جهوده الخاصة المنوط بها من أجل التوصل إلى إعادة صياغة اتفاق لوزان النووي. والأخير، هو الأمر المرجح حدوثه طالت أم قصرت المدة الزمنية اللازمة، على الرغم من اعتراضات إسرائيل التي وإن كانت غير راضية عن نمط معين للاتفاق الجديد المتوقع، إلا أنها لا تمانع اتفاقًا نوويًا تحت بنود أو شروط خاصة.
ولكن، إذا كانت هذه المسارات والمعادلات النووية الحالية ستقود في الغالب إلى اتفاق جديد أو إعادة صياغة للاتفاق القديم، فكيف إذًا ستتأثر أبرز الملفات الإيرانية الشائكة فيما بعد التوصل إلى هذا الاتفاق؟
الاقتصاد الإيراني والعودة إلى الوراء
إن توقع رفع الولايات المتحدة الأمريكية جميع العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران في الوقت الراهن يُعد افتراضًا لا يمت للواقع بصلة؛ إذ سيصبح من غير الممكن أن تتخلص طهران بعد مفاوضات فيينا من كل هذه العقوبات حتى ولو بعد سنوات من التوصل إلى الاتفاق النووي. فالعقوبات قد شملت أغلب القطاعات الاقتصادية الإيرانية والكثير من المسؤولين، حتى المرشد الأعلى، علي خامنئي، نفسه.
وعلاوة على ذلك، فإن حجم تراكم هذه العقوبات خلال عشرات السنوات، منذ نوفمبر 1979 وحتى الآن، يجعل من العسير التخلص منها. أضف إلى ذلك أن توظيف العقوبات بات استراتيجية تستخدمها قوى عدة في مجال السياسة الخارجية أو العلاقات الدولية بوجه عام. ولذا، يصبح أجلُ العقوبات الزمني مرتبطًا بشكل وثيق بمدى العداء بين إيران والقوى الأخرى، وليس ذا صلة كبيرة بالتوصل إلى اتفاق نووي أم عدم التوصل إليه.
ولا ينفي ذلك في الوقت نفسه أن وتيرة فرض العقوبات على إيران سوف تنخفض مع التوصل إلى اتفاق نووي، ولكنها لن تنتهي تمامًا، وسيظل الاقتصاد الإيراني يخضع لعقوبات جديدة طوال الوقت مع اختلاف تأثيرها أو نطاقها وحجمها؛ لأن هذا القضية ترتبط جذريًا بالسياسة الخارجية الإيرانية وليس بعقد اتفاق أو معاهدة.
هل يتراجع الاقتصاد الإيراني إلى الوراء؟
إن تراجع الاقتصاد الإيراني إلى الوراء يُقصد به أن يعود إلى نشاطه من جديد قبل إعادة وتكثيف فرض العقوبات عليه منذ النصف الثاني من عام 2018، أي بعد إعلان ترامب الخروج من الاتفاق النووي، بمعنى أنها حالة إيجابية. فعقد الاتفاق النووي الإيراني مع القوى الكبرى يتبعه تدفق استثمارات خارجية كبيرة إلى السوق الإيراني وتمكن الأخير من التواصل مع نظرائه عالميًا، وإن قابلته عوائق مثل عدم انضمام طهران إلى مجموعة العمل المالي الدولية المعروفة باسم “FATF”.
ويجيء هذا إلى جانب السيولة المالية الضخمة التي من المرجح للغاية أن تملكها طهران بعد الإفراج عن أموال لها بمليارات الدولارات في الخارج بعيد التوصل إلى الاتفاق النووي. إن مثل هذا الإفراج يُعد أحد أهم الأهداف التي ترمي إليها الحكومة الإيرانية من وراء التوقيع على اتفاق جديد؛ إذ إن اتفاقًا نوويًا جديدًا في فيينا بعد أسابيع أو أشهر قد يقود إلى نمو اقتصادي في إيران حتى ولو كان جزئيًا. أي أنه قد لا يشكل نقلة كبرى للاقتصاد الإيراني، لكنه على أي حال قد “ينقذ النظام الإيراني” من العقبات والأزمات الراهنة.
ولكن على أي حال، يبدو أن إيران تستبق نتائج محادثات فيينا وتحاول إحباط نتائج العقوبات المستقبلية عليها، وذلك من خلال عقد تحالفات اقتصادية واسعة النطاق، مثل تلك الممثلة في اتفاقية الـ25 عامًا مع الصين، أو تلك المحتملة مع روسيا والهند اللتين تحاول إيران إبرام اتفاقات استراتيجية طويلة المدى معهما على غرار ما قامت به مع بكين.
اتجاهات النشاط العسكري الإيراني في المنطقة فيما بعد فيينا
إن النطاق الزمني والمدى الجغرافي للانتشار العسكري الإيراني في إقليم الشرق الأوسط لا يستند بالأساس إلى التوصل إلى اتفاق نووي في فيينا، لأن هذا الانتشار الإيراني ذو أبعاد أخرى استراتيجية وأيديولوجية. وإن كانت هذه الأبعاد تُعد الركيزة الأساسية للنشاط العسكري أو النفوذ السياسي الإيراني، إلا أن التوصل إلى اتفاق نووي يعد عاملًا ولاعبًا في هذه القضية.
فتوافر الأموال سيعطي إيران دفعة للأمام نحو تحقيق المزيد من الانتشار العسكري والنفوذ السياسي. وهنا، نتذكر أن الوكيل الإيراني “حزب الله” اللبناني قد واجه مشكلة كبيرة تتعلق بتوفير المال لعناصره، تفاقمت خلال عام 2019 حينما اضطُر إلى تسريح بعضهم إثر تعرض إيران لعقوبات اقتصادية كبيرة اثّرت على قدراتها المالية.
وعلى أي حال، فإن التحرك العسكري الإيراني على مستوى الإقليم من المتوقع أن يستمر كما هو (على الأقل)، أو أن يتسع طبقًا لما ستوفره البيانات المالية والاقتصادية فيما بعد ترك المفاوضين للعاصمة فيينا والانتهاء من الملف النووي الإيراني، إلى جانب تطورات العلاقات الإيرانية مع مختلف دول الإقليم والولايات المتحدة الأمريكية.
ومع هذا، تدل أغلب المؤشرات مثل:
- الرحيل الأمريكي من المنطقة.
- احتمالات تدفق الأموال إلى إيران بعد اتفاق فيينا.
- تنافس طهران سياسيًا مع بعض اللاعبين الإقليميين مثل تركيا.
- مستقبل إعادة إعمار سوريا.
على أن منحنى التحرك السياسي والعسكري الإيراني داخل الإقليم سيكون صعوديًا. ولكن قد يوازن هذه العمليةَ رغبةُ إيران في تحقيق نمو اقتصادي محلي؛ في ظل سنوات طوال من الركود الاقتصادي تصحبه حالة حادة من القلق السياسي.
مصير “التوجه نحو الشرق” وعلاقات الجوار
ويُقصد بها مستقبل العلاقات الإيرانية مع دول الجوار العربي على وجه التحديد. وبالنسبة لها، فإن كانت مخرجات الاتفاق النووي غير محدِدة لها بشكل واضح، إلا أن سياسة “التوجه نحو الشرق” التي تنتهجها حكومة الرئيس الحالي، إبراهيم رئيسي، قد تشكل إحدى أعمدتها الرئيسة. فقد قالت هذه الحكومة منذ اليوم الأول لها وحتى قبل تنصيب “رئيسي” إنها سوف تسعى إلى التهدئة مع الجيران، ومن بينهم دول الخليج العربية.
وقد بدأت بالفعل بعضُ الخطوات في هذا المسار، إلا أنها لم تكتمل حتى الآن. وفي هذا الصدد، يمكن القول إن مستقبل العلاقات الإيرانية مع دول الجوار العربي خلال الفترة المقبلة “قصيرة المدى”، بافتراض التوصل إلى اتفاق نووي في فيينا، سيقوم على محددين رئيسين:
- طبيعة التحرك الإيراني الإقليمي في مرحلة ما بعد التوصل إلى اتفاق نووي في العاصمة فيينا بما يشمله أيضًا من تطورات العلاقات الإيرانية مع دول الإقليم والعالم.
- وأيضًا على مدى استمرارية وثبات نهج سياسة “التوجه نحو الشرق” التي تتبعها الحكومة الحالية في طهران.
وعليه، فلا يمكن تحديد أفق هذه العلاقات بناءً على التوصل إلى اتفاق نووي، بل إن عدم التوصل إليه قد يعطينا احتمالات أكثر وضوحًا حول شكل وطبيعة هذه العلاقات المستقبلية.
ملفات التصنيع النووي والعسكري
لقد وصلت إيران بحسب تقارير دولية، وإيرانية أيضًا، إلى مستوى مرتفع من تخصيب اليورانيوم. فقد قالت طهران إنها خصبت كميات من اليورانيوم بنسبة 60%، ما سبب قلقًا متزايدًا لدى المجتمع الدولي.
ولكن، إذا نظرنا إلى الاتفاق النووي، سنجد أنه يسعى في جوهره إلى إلزام إيران بعدم تصنيع سلاح نووي وخفض نسبة تخصيب اليورانيوم التي كانت 3.67% طبقًا لاتفاق 2015. ويعني هذا أن الأنشطة النووية ستظل قائمة في إيران ما بعد محادثات النمسا، ولكنها ستخضع لرقابة دقيقة، بحيث لا تستطيع طهران معها تصنيع سلاح نووي أو تخطي النسبة المحددة للتخصيب، ما يعني أن الأخير لن ينتهي في إيران.
أما الملف الصاروخي، فإن طهران ترفض بشكل علني وصريح طرحه للنقاش أو وضع قيود عليه؛ إذ إنه يشكل أحد الأعمدة الفقرية للجيش والحرس الثوري الإيرانيين في ظل افتقاد طهران لعنصر التحديث الصناعي للقوات الجوية. إذًا، يُعتقد أن يظل الملف الصاروخي يشكل موضوعًا شائكًا بين إيران والقوى المعنية خلال مرحلة ما بعد التوصل إلى اتفاق جديد. هذا في الوقت الذي قد تتمكن فيه الدول المشاركة في مفاوضات فيينا من إقناع إيران بوضع بعض القيود على هذه الصناعة مقابل امتيازات جديدة.
ومن ناحية أخرى، قد تعمل إيران خلال الفترة المقبلة على تكثيف صناعة بعض الأسلحة أو المعدات العسكرية وأبرزها الطائرات المسيرة من دون طيار (درونز) وبيعها للخارج من أجل أن تتحول إلى مركز صناعة وتوزيع لها، وهو ما تشير إليه صراحة تصريحات بعض مسؤوليها أو توظيفها وتجربتها لها في عدد من الأحداث التي وقعت بالإقليم مؤخرًا.
وقد تساعد الأموال، التي قد يُفرَج عنها بموجب الاتفاق النووي وتحصل عليها إيران، في هذه الصناعة، خاصة أنه وعلى غرار الملف الصاروخي، لا يلوح في الأفق أي قبول إيراني لفرض قيود عليها، بل إن هناك من يطرح في إيران فكرة أن تكون مصدرًا للدخل إلى جانب النفط.
الخلاصة
بفرض التوصل إلى اتفاق نووي في النمسا بعد أسابيع أو أشهر من الآن، فإن القطاع الاقتصادي الإيراني سيكون المستفيد الأكبر من مخرجات فيينا، وهو ما قد يلقي بظلاله على الحالة السياسية في الداخل الإيراني.
ومع ذلك، فإن ملفات مثل العلاقات مع دول الجوار العربي لا يمكن تحديد مسارها المستقبلي مع فرض التوصل إلى اتفاق نووي. إلا أنه ومع احتمالية عدم وضع الملف الصاروخي أو التسليحي الإيراني محل التفاوض، فإن هذا القطاع قد يشهد ضخ المزيد من الأموال به، بفعل حصول إيران على المزيد منها بعد التوصل إلى اتفاق.
.
رابط المصدر: