حسن زنيند
الرد الألماني ومعه الغربي، على الغزو الروسي لأوكرانيا جاء كاسحا وغير متوقع في حجمه وأشكاله من خلال حزمة عقوبات اقتصادية ودبلوماسية وثقافية وحتى رياضية بشكل لم يسبق له مثيل. وسيبقى يوم الأحد (27 فبراير/ شباط 2022) بلا شك نقطة تحول تاريخية في سياسة ألمانيا الخارجية والدفاعية.
فخلال جلسة برلمانية استثنائية بكل المقاييس، أكد المستشار أولاف شولتس أن الغزو الروسي لأوكرانيا أجبر ألمانياعلى الدخول في “حقبة جديدة”. كلمات شولتس كانت مفاجئة للرأي العام الألماني، وفق عدد من المعلقين الألمان، خصوصا وأن المستشار اتهم منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية بالتباطؤ وكبح كل المبادرات الغربية لجهة تشديد العقوبات ضد روسيا. تهور الرئيس فلاديمير بوتين دفع ألمانيا لهذه الخطوة وهي التي خرجت من الحرب العالمية الثانية مثقلة بمشاعر الذنب بسبب مسؤوليتها عن فظائع حرب عانت من تداعياتها أوروبا والعالم. لكل هذه الاعتبارات تبنت ألمانيا عقيدة هادئة على الساحة الدولية تقوم على الدبلوماسية كأداة لحل النزاعات.
صحيفة “نويه تسوريخر تسايتونغ” الصادرة في سويسرا (28 فبراير/ شباط 2022) كتبت بهذا الشأن معلقة “لم تكن برلين تولي أهمية كبرى لما تعنيه إعادة تسلح روسيا بالنسبة لأوروبا. هذا الفشل يحمل عنوانا جذابا: نورد ستريم (…) تعاني ألمانيا، بصفتها أكبر مستورد للغاز الروسي، من مشكلة الطاقة. فقبل بضعة أسابيع، كانت برلين لا تزال تعتقد أنها ستتمكن قريبًا من التخلص التدريجي من الفحم والطاقة النووية وتحديد مسار انتقال في مجال الطاقة بأقصى سرعة. الآن يتعين عليها بحث مخاوف الناس من التكاليف المرتفعة للتدفئة في الشتاء المقبل”.
الموقف الألماني الجديد لا يعني، مع ذلك البحث عن التصعيد العسكري. فقد استبعد المستشار شولتس تدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) العسكري في الأزمة الأوكرانية، وقال (الثاني من مارس/ آذار 2022) خلال زيارته الأولى لإسرائيل “لن نتدخل عسكريا. هذا ينطبق على الناتو، فهو لن يفعل ذلك … سيكون ذلك خطأ في ظل هذا الوضع… ما نقوم به هو الدعم”. وذكر شولتس على وجه التحديد المساعدات المالية وإمدادات الإغاثة. واستطرد موضحا “هذا ما يمكننا القيام به”، مشيرا إلى أن العقوبات حققت تأثيرا بالفعل، مضيفا أن هذا يدل على صحة الموقف بين الحزم والحذر اللازم، وقال “أعتقد أن هذه هي القرارات الصحيحة”. صحيفة أوغسبورغر ألغماينه” الألمانية (28 فبراير/
شباط) حاورت كارلو مازالا، الخبير الأمني في جامعة “بوندسفير” (الجيش الألماني) حول إعادة تنظيم السياسة الخارجية، واعتبر أنه “يجب إعطاء إشارات مبكرة إلى أن هناك حدودًا معينة لا يجب تجاوزها، وأننا أقوياء بما يكفي (..) هناك عملية إعادة تنظيم لسياستنا نراها جارية الآن. هذا لا يعني أن العالم سيصبح أفضل وأكثر سلاما. لكن هذا يضعنا في موقع لا يسمح بأن نصبح ضحية لتطورات غير متوقعة”.
ألمانيا ـ قطيعةمع ثوابت ما بعد الحرب العالمية
أجمعت النخب السياسية والإعلامية في ألمانيا على وصف جلسة يوم الأحد في البوندستاغ بالمنعطف التاريخي. قرار الحكومة كان مفاجئا، لأنه ولآخر لحظة قاومت برلين ضغوطات حلفائها الغربيين كما مطالب الحكومة الأوكرانية، مستبعدة تسليم الأسلحة لأوكرانيا. وقد دعا أندريه ميلنيك، السفير الأوكراني في ألمانيا مرارا إلى تسليم بلاده أسلحة دفاعية وفعل ذلك أحيانًا بلغة غير دبلوماسية. غير أنه تم استقباله الأحد في البرلمان من قبل النواب الألمان (باستثناء نواب حزب البديل الشعوبي) بالوقوف والتصفيق تضامنا مع الشعب الأوكراني. الضغط كان قويا أيضا من قبل شركاء ألمانيا في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. تحول موقف برلين تمت ترجمته فورا برفع حظر تصدير الأسلحة الفتاكة إلى أوكرانيا. وهكذا تم الإعلان عن تسليم أوكرانيا ألف صاروخ مضاد للدبابات و500 صاروخ أرض-جو من نوع “ستينغر” من مخزون الجيش الألماني. ألمانيا ستعمل أيضا على تعزيز قواتها في شرق أوروبا ضمن حلف الناتو، لا سيّما في سلوفاكيا.
التحول الثاني الذي تضمنه إعلان المستشار شولتس يتعلق برصد استثمارات دفاعية خلال العام الجاري قدرها مائة مليار يورو والعمل على تخصيص 2 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي لقطاع الدفاع خلال السنوات المقبلة، وهو السقف الأدنى الذي يفرضه حلف شمال الأطلسي على الدول الأعضاء، وهو ما لم تكن برلين تلتزم به، وكان مصدر خلافات دائمة مع واشنطن خصوصا خلال فترة ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب.
وإلى جانب ألمانيا، أجمعت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي وحتى الأمانة العامة للأمم المتحدة، على أن غزو روسيا لجارتها الشرقية، خرق صارخ لمبادئ النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية. صحيفة “واشنطن بوست” (28 فبراير/ شباط) كتبت أن خطاب شولتس كان “دراماتيكيا أمام البرلمان (..) تغييرات غير عادية في السياسة الخارجية والأمنية لألمانيا بعد الحرب العالمية. شولتس أوضح بشكل جريء أن حرب بوتين كانت “حدثًا فاصلاً” يجب على ألمانيا أن تتكيف معه بسرعة. التصفيق الذي أعقب كلمات شولتس تعبير عن ديمقراطية ناضجة لأكبر وأغنى قوة في أوروبا، إنها هزيمة استراتيجية لجهود الكرملين التي استمرت عقودًا لاستمالة (ألمانيا)”.
بعد طول صبر شولتس يقلب الطاولة على بوتين
تحت عنوان “خضوع ألمانيا” لروسيا كتبت صحيفة “فيلت” (27 فبراير/ شباط 2022) معلقة على هذا “الزلزال” السياسي والأمني الذي ضرب أوروبا وموقع ألمانيا فيه وقالت “السماح بسلوك استبدادي وعدواني لروسيا في أوروبا لفترة طويلة له علاقة أيضًا بسياسة ألمانيا. من ينظر إلى الأعوام الخمسة عشر الماضية، فلن يجد دولة أخرى تسامحت مع بوتين بالقدر الذي فعلته ألمانيا. إنها قصة فشل تاريخي. فحين خاضت موسكو الحرب على جورجيا في خريف عام 2008، اجتمعت النخبة السياسية والاقتصادية الألمانية في السفارة الروسية في برلين لحضور حفل فخم قدم فيه الكافيار والشمبانيا على أنغام الموسيقى. حينها علق أحد الزوار قائلا: ليس لدى روسيا ما تخشاه من برلين. إنه حفل لم يتوقف في الواقع أبدا بالنسبة لألمانيا”.
صحيفة “تاغس-أنتسايغر” الصادرة في زيورخ كتبت (الأول من مارس / آذار) أن المستشار أولاف شولتس “قلب السياسة الخارجية والأمنية الألمانية بأكملها رأساً على عقب (..) بات الأمر يتعلق الآن بالدفاع عن السلام والديمقراطية في أوروبا (..) ألمانيا تستعد لتحمل المزيد من المسؤولية في العالم بما فيها المسؤولية العسكرية. غير أن مشاكل شولتس لا تزال في بدايتها، فمن المرجح أن تضر العقوبات الصارمة ضد روسيا بألمانيا أيضا، خصوصا من حيث حاجتها لإمدادات الغاز الروسي وإرسال الجيش الألماني إلى شرق أوروبا ودول البلطيق، إضافة إلى ضرورة التكيف مع مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين. كما أن التحول في مجال الطاقة أصبح أكثر صعوبة (..) ولا ننسى أن المستشار شولتس تولى منصبه منذ 83 يوما فقط “.
حزب الخضر ـ صدمة أوكرانيا تكرس الواقعية السياسية
من المثير جدا أن التحول السياسي المعلن عنه في برلين جاء في ظل حكومة “إشارة المرور” التي يشكل فيها حزب الخضر ركيزة أساسية. حزب الخضر ناهض على الدوام وبشراسة تصدير الأسلحة. وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك المنتمية للحزب أوضحت أن ألمانيا ربما ستكون مضطرة إلى “التخلي عن نوع خاص وفريد من ضبط النفس على صعيد السياستين الخارجية والأمنية (..) إذا تغيّر عالمنا يجب أن تتغيّر سياستنا”. فحتى الخضر فهموا أن سياسة ألمانيا الخارجية خلال العقود الماضية تشبه إلى حد بعيد سياسة “سويسرا كبرى” محايدة تنأى بنفسها عن النزاعات أو تحاول المساهمة في حلها بالوسائل الدبلوماسية. نهج يبدو اليوم أنه لا يخلو من السذاجة أمام تصميم بوتين العدواني وفق العديد من المعلقين الألمان.
“فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ” (الأول من مارس / آذار 2022) سألت رئيسة الكتلة البرلمانية لحزب الخضر إيرينه ميهاليتش التي اعتبرت أن الأزمة الأوكرانية لها دينامية تتغير باستمرار وكان على الحكومة التحرك بحزم، قالت “أعتقد أنها فعلت ذلك بطريقة مثيرة للإعجاب. لقد كان واضحًا للكثيرين منا أن الأشياء يجب أن تتغير، وأنه لا يمكن الآن التمسك بالمعتقدات القديمة، وأن السياسة يجب أن تتغير أيضًا. كثير من الناس مستاؤون جدا من الأحداث في أوكرانيا. ومع ذلك، فإن حزب الخضر سيواصل مناقشة القضايا العسكرية بشكل نقدي”.
تسليح أوكرانيا ـ كيف وحد بوتين الأوروبيين
خطوة بوتين الجنونية، دفعت الأوروبيين بشكل علني ومفتوح لتسليم كميات كبيرة ونوعية من الأسلحة لأوكرانيا. فقد أعلنت غالبية الدول الأوروبية توفير أسلحة لأوكرانيا لصدّ الهجوم الروسي، بعد مطالب من مسؤولين في كييف بهذا الشأن. وأجازت ألمانيا بدورها تسليم ألف قاذفة صواريخ مضادة للدبابات ومئات الصواريخ من طراز ستينغر (أرض / جو). كما قررت فرنسا تسليم مزيد من المعدات العسكرية، وأكدت بلجيكا إمداد الجيش الأوكراني بألفي رشاش و3800 طن من الوقود.
وأفادت هولندا أنها “أرسلت قسما من المعدات الموعودة ولا سيما بنادق فائقة الدقة وخوذات”، وتعهدت بتأمين “مئتي صاروخ أرض-جو ستينغر”. وصادقت الجمهورية التشيكية على منح كييف أربعة آلاف قذيفة مدفعية، وسترسل آلاف البنادق والذخائر. كما أكد مسؤولون أوروبيون أن هناك دينامية أوروبية لبلورة سياسة دفاعية مشتركة تطمح لأن توفر لأوروبا مستقبلا إمكانية الدفاع عن نفسها.
موقع “بيزنس إنتسايدر” الاقتصادي الألماني (28 فبراير/ شباط) كتب بهذا الشأن موضحا “بينما تواصل روسيا حربها العدوانية على أوكرانيا، ضاعف الاتحاد الأوروبي من ضغوطه العسكرية والاقتصادية على موسكو. وسيتم دعم القوات المسلحة الأوكرانية بنصف مليار يورو لتزويدها بالأسلحة والمعدات. وسيتم نقل المواد والمعدات العسكرية إلى أوكرانيا عبر قاعدة لوجستية في بولندا”. فخلال أقل من أسبوع، ألقى الغزو الروسي لأوكرانيا بتبعاته ليس فقط على ألمانيا ولكن أيضا على مجمل النظام العالمي، ما أعاد خلط أوراق الخارطة الجيوسياسية العالمية، وجعل روسيا- بوتين منبوذة دوليا.
.
رابط المصدر: