أعلنت الحكومة التركية بدء عملية عسكرية في شرق الفرات تحت مسمى “نبع السلام” تستهدف قوات سوريا الديمقراطية([1])؛ لتأمين الشريط الحدودي التركي السوري، وبدأت الحشود العسكرية التركية ومن يساندها من قوات الجيش الوطني التابع لفصائل المعارضة بشن عمليات قصف تمهيدية لفتح ثغرات للتجهيز لاقتحام المنطقة التي يبلغ طولها بدءًا من شرق الفرات وصولًا إلى مدينة المالكية الحدودية مع العراق حوالي 480 كم([2]).
في حين تأتي هذه العملية بسياق حسابات دولية متداخلة ضمن منطقة شرق الفرات التي تشكل عمقًا استراتيجيًا لتأمين منطقة جنوب الأناضول بالنسبة لتركيا، وكذلك عمقًا هامًا بالنسبة لروسيا لتأمين نفوذها غرب صدع العاصي ومنطقة جنوب غرب الفرات الأقصى، بالإضافة إلى إيران التي ترى شرق الفرات حاجزًا أمنيًا لحماية أنشطة الميليشيات الطائفية والتي تتركز في مدينة البوكمال ودير الزور والشريط الحدودي العراقي السوري.
ولا تقتصر أهمية هذه المنطقة على حسابات الدول الضامنة للوضع في سوريا، بل إن أمريكا اعتبرتها نقطة انطلاق لعملياتها العسكرية والأمنية والرقابية في حربها ضد تنظيم الدولة داعش وأقامت بها قواعد عسكرية، ولا يزال هناك في الوقت الحالي ما يقارب 50 جنديًا أمريكيًا متمركزين في نقطة قرب معمل لافارج إلى جانب قوات فرنسية([3]).
من جهة أخرى، وبالنسبة للّاعبين المحليّين فإن المعارضة تسعى بالدعم التركي إلى إثبات فاعلية على الأرض والسيطرة على المزيد من المساحات الجغرافية التي تكسبها أوراق ضغط في العملية السياسية وخصوصًا على صعيد آليات عمل اللجنة الدستورية. أما النظام السوري فهو يحاول بالتعاون مع الروس تحصيل مكاسب باللعب على المتناقضات بين علاقته بحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وعقد مفاوضات مستمرة معه، وسعيه إلى الاستفادة من العملية التركية أيضًا بالتخلص من عدو مستقبلي محتمل وهو القوات الكردية. في حين أن موقف قوات سوريا الديمقراطية يعد موقفًا حرجًا بعد سحب الولايات المتحدة لمعظم جنودها من شرق الفرات، وانخفاض حجم الضمانات التي كانت تقدمها واشنطن بالتعهد بحمايتهم من أي عملية تركية مرتقبة تستهدف وجودهم.
الخارطة العسكرية والأهداف المحتملة
تبدأ مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية من شرق نهر الفرات في مدينة منبج ثم جنوبًا باتجاه مدينتي الطبقة والرقة ثم شرقًا باتجاه محافظة الحسكة وصولًا إلى المالكية قرب الحدود العراقية ثم جنوبًا مدينة البوكمال ومعبر القائم الحدودي مع العراق. وتوجد في هذه المنطقة خطوط اشتباك ومواجهة مع المعارضة المسلحة من جهة منبج. كما تمتلك قوات سوريا الديمقراطية جيبًا عسكريًا في غرب الفرات في مدينة تل رفعت وما حولها. وتتداخل مناطق سيطرتها أيضًا مع جيوب إدارية مشتركة بين الإدارة الذاتية التابعة لقسد وحكومة النظام السوري في مدينة الحسكة والقامشلي والعريمة.
من جانب آخر، حول مسار العملية العسكرية المتوقع، فإن الجيش التركي على الأرجح سيقوم بتأمين الشريط الحدودي بعمق غير كبير لا يتجاوز 15-20 كم بعد السيطرة الكاملة على مدينة منبج -أرقام إعلامية أخرى تشير إلى أن عمق المنطقة سيتراوح بين (5-16) كم([4])– لأن شن عملية شاملة تستهدف كافة المناطق التي تسيطر عليها قسد والتي تصل إلى عمق ما يزيد عن 260 كم، يتطلب وقتًا زمنيًا أطول لتحقيق أهداف العملية، عدا عن زيادة حجم الإمداد والقوات العسكرية للسيطرة على هذه المناطق، لذلك فإن الهدف التركي الأساسي هو تأمين الشريط الحدودي بعمق معين، ودعم المعارضة المسلحة لوجستيًا لتوسيع نطاق هذا العمق على المدى الطويل أو على الأقل لتهديد ما سيتبقى من مناطق سيطرة قسد والضغط عليها سياسيًا للقبول بتقديم تنازلات في أي مفاوضات محتملة على مستقبلها في سوريا.
عسكريًا تمتلك تركيا أفضلية قتالية خارج حدود المنطقة العملياتية في سوريا، وهي تموضع قواتها في قاعدة بعشيقة غرب الموصل في العراق، والتي تتيح لها محورًا إضافيًا للهجوم الجوي ومراقبة أي عمليات تسلل وانسحاب من مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية باتجاه الحدود العراقية. أما بالنسبة لمحاور الهجوم المحتملة داخل منطقة العمليات فأهمها معابر تل أبيض، ورأس العين، والدرباسية، والمنطقة الحدودية مع العراق بأقصى شرق الفرات في عين ديوار قرب المالكية، بالإضافة إلى أقصى الجهة الغربية من منطقة شرق الفرات بمحاذاة مدينة منبج ومعبر جرابلس. كما لذلك فإن مثلث العمليات يمنح تركيا قدرة عالية في تحقيق مناورة بمحاور الهجوم وتشتيت دفاعات قوات سوريا الديمقراطية على الرغم من أنها تمتلك ميزة القتال في أراضيها، لكن الجيش الوطني التابع لفصائل المعارضة يعتبر من القوات المحلية التي ستكافئ إلى حد ما أفضلية قسد في هذه النقطة.
في حين ستحاول تركيا عدم اقتحام المناطق التي يسيطر عليها النظام إداريًا وهي مدينتي القامشلي والحسكة، وعدم استخدام معبر نصيبين المحاذي للقامشلي كمحور للهجوم، على الرغم من ورود معلومات خاصة تفيد بسقوط عدد كبير من قذائف الهاون على مدينة القامشلي وسقوط ضحايا، لكن ليس من المتوقع أن يتم اقتحام مدينتي الحسكة والقامشلي، من أجل عدم إثارة حفيظة روسيا الداعمة لنظام الحكم في سورية وعرقلة تحقيق أهداف العملية العسكرية. إلا في حال قام النظام بسحب موظفي مؤسساته العاملة في تلك المناطق فحينها ستكون المنطقتان هدفين رئيسيين لعملية “نبع السلام” للسيطرة عليهما.
خريطة رقم (1) توضح مثلّث العمليات
المصدر: موقع Liveumap
خريطة رقم (2) توضح أماكن سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (اللون الأصفر)
المصدر: نورس للدراسات
مواقف الدول الفاعلة في الملف السوري
الولايات المتحدة
في موقفها المعلن لم تؤيد الولايات المتحدة الأمريكية عملية نبع السلام، وحذرت تركيا من القيام بأي تهديد على الجنود والمصالح الأمريكية في المنطقة. لكن عمليًا كان انسحاب معظم القوات الأمريكية من شرق الفرات([5]) تمهيدًا فتح لأنقرة المجال أمام ملء الفراغ العسكري الذي سيسببه الانسحاب الأمريكي، كما أن المباحثات التركية الأمريكية التي سبقت بدء العملية تشير إلى موافقة أمريكية من البيت الأبيض على شنِّها.
ولا يزال الرئيس الأمريكي ترمب إلى الآن يحاول في تصريحاته اللعب على المتناقضات بين تعهد الولايات المتحدة بحماية قوات سوريا الديمقراطية حليفتها المحلية في التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب وبين قبولها عمليًا بنبع السلام، وإظهار عدم تخلي واشنطن عن التزاماتها وتعهداتها. وعليه فإن الموقف الأمريكي سيبقى متأرجحًا بين النقيضين مع الميل نحو النأي بالنفس عن أي تحرك عسكري أو دبلوماسي، إلا في حال تم تشكيل تهديد حقيقي على مصالح الولايات المتحدة في شرق الفرات، وكان الرئيس ترمب واضحًا في ذلك عندما هدد بـ”تدمير اقتصاد تركيا والقضاء عليه إذا ما قامت أنقرة بأي أفعال يعتبرها تتجاوز الحدود” في سوريا”([6]). ولذلك فإن أمريكا قامت بإنشاء مركز تنسيق عمليات مشتركة مع الجانب التركي في ولاية شانلي أورفا شرق تركيا لمراقبة العملية ومساراتها([7]).
روسيا
كان الموقف الروسي دبلوماسيًا وأعلن الكرملين بأنه يتفهم حق أنقرة في حماية حدودها بدون أن تتأثر وحدة الأراضي السورية وجهود العملية السياسية([8])، ويشير هذا الموقف إلى وجود تأييد ضمني روسي أيضًا لعملية نبع السلام؛ على اعتبار أن تركيا دولة ضامنة في الملف السوري ولن تتمكن من القيام بهكذا تحرك بدون تنسيق أو إخطار لبقية الدولة الضامنة وهي روسيا وإيران.
وحول المصالح الروسية من العملية العسكرية، فهي ترى أن سعي أنقرة إلى إضعاف وإنهاك قوات سوريا الديمقراطية سيدفع الأخيرة إلى تقديم تنازلات في أي مفاوضات محتملة مع النظام حليف روسيا حول مستقبل الأكراد في سورية، أي إن إضعاف قوات سورية الديمقراطية سيؤدي إلى خفض سقف تطلعاتها بالمطالبة بإدارة ذاتية غير مركزية للمناطق التي تسيطر عليها في دستور سورية الجديد الذي ستتم صياغته عن طريق اللجنة الدستورية السورية التي شُكلت مؤخرًا([9]). وبالفعل دعا وزير الخارجية سيرغي لافروف بعد انطلاق نبع السلام إلى “عقد حوار بين النظام والإدارة الذاتية” الكردية لحل المشاكل في سورية بين السلطة المركزية في دمشق وممثلين عن الأكراد”([10]).
إيران
رفضت طهران تأييد العملية وكان موقفها واضحًا في معارضتها([11])؛ لأنها تدرك أن قوات سوريا الديمقراطية كانت تشكل حاجزًا أمنيًا لميليشياتها المتمركزة في البوكمال ودير الزور وجزء من الشريط الحدودي العراقي السوري، هذه التمركزات التي تعد البوابة الرئيسية لنقل السلاح والعناصر الطائفية من إيران والعراق باتجاه سورية ولبنان، وعليه فإن العملية التركية ستساهم في إضعاف الحاجز الأمني الذي كانت تؤمنه قسد لتلك الميليشيات، وسوف تزداد بذلك المخاطر المهددة لضمان استمرارية مرور المقاتلين والسلاح على المدى القريب والمتوسط.
من جهة أخرى تخشى إيران من تبعات نبع السلام والتي ستؤدي إلى تدفق عدد من المقاتلين الأكراد عبر جبال قنديل إلى حدود كردستان العراق الشمالية والشمالية الشرقية مع إيران وحدود تركيا الشرقية مع إيران أيضًا، وهو ما سيشكل تهديدًا للأمن القومي الإيراني على المدى البعيد. ولن تستطيع طهران عرقلة سير العملية العسكرية التركية بشكل مباشر بسبب التفاهم الروسي التركي على شنها، لكنها ستحاول في ذات الوقت الضغط على أنقرة للحصول على ضمانات بعدم تعرض الميليشيات التي تتبع لها في شرق الفرات إلى أي تهديد يؤثر على فاعلية تحركاتها داخل العراق وسورية.
الاتحاد الأوروبي
لم يؤيد الاتحاد الأوروبي بأهم دوله بريطانيا وفرنسا وألمانيا العملية العسكرية شرق الفرات([12])، وينطلق الاتحاد من معارضته لنبع السلام، من مخاوفه المتعلقة بملف اللاجئين، حيث إن العمليات العسكرية التي تشهدها المنطقة قد تؤدي إلى موجة نزوح جماعية نحو دول الاتحاد الأوروبي وهو ما سيهدد أمن أوروبا ويحملها مزيدًا من الأعباء الاقتصادية. من جهة أخرى قدم الاتحاد دعمًا إنسانيًا للإدارات الذاتية في شرق الفرات لدعم عمليات إعادة الاستقرار([13])، التي تتيح تأمين الخدمات الأساسية للسكان في تلك المناطق وهو ما يخفف من احتمال نزوحهم وهجرتهم نحو أوروبا، وعليه فإن الأوروبيون سيحاولون تكثيف دعمهم الإنساني للمتضررين والنازحين من العمليات العسكرية على الشريط الحدودي، وقد قامت الدنمارك قبل أيام قليلة من انطلاق العملية العسكرية بتقديم دعم للتحالف الدولي بقيمة 7 ملايين ونصف دولار لإزالة الألغام، وتوفير البنى التحتية اللازمة لشبكتي الكهرباء والماء، شمال شرقي سوريا([14]). ولا تقتصر مخاوف الاتحاد الأوروبي من أزمة اللاجئين فقط، بل إن عملية نبع السلام ستؤدي إلى توسيع عمق الحماية الأمني جنوب الأناضول وشرق الفرات بالنسبة لروسيا التي عقدت مع تركيا صفقة بيع صورايخ S-400 إلى جانب وجود خبراء روس لتشغيلها في ولاية أنقرة وشانلي أروفا القريبة من الحدود السورية والمقابلة لمنطقة شرق الفرات([15])، وهو ما يعتبره الاتحاد تهديدًا لمصالح حلف الناتو الجيو-عسكرية على المدى البعيد.
بالتالي فإن الحسابات والتوازنات الدولية والإقليمية بالنسبة لمنطقة شرق الفرات لا تزال غير مستقرة فهل سيؤثر ذلك على تحقيق الأهداف الكاملة لعملية نبع السلام؟ وهل سيؤدي حجم التباينات أيضًا إلى عرقلة مسار الحل السياسي في سوريا الذي شهد دفعًا للأمام بتشكيل اللجنة الدستورية؟
([1]) “أردوغان يعلن انطلاق عملية نبع السلام بشمال سوريا”. الأناضول، 9-10-2019. https://bit.ly/33leU8W
([2]) “3 في 1.. أهداف العملية التركية المرتقبة شرق الفرات بسوريا”. الأناضول، 7-10-2019. https://bit.ly/2nnu7XQ
([3]) “القوات الأميركية بسوريا.. هذه أهدافها ومواقعها”. الجزيرة نت، 24-4-2018. https://bit.ly/2Vqjkc0
“القوات الفرنسية في سوريا غير قادرة على حماية إرهابيي “ي ب ك”. الأناضول، 26-12-2018. https://bit.ly/2rTe42J
“الأركان الفرنسية تقر بوجود قوات برية لها في سوريا”. الأناضول، 28-12-2018. https://bit.ly/2nt5jh9
([4]) “خريطة “لهيب النار” شمال سوريا.. أردوغان يحشد والأكراد مصممون على المواجهة”. الحرة، 7-10-2019. https://arbne.ws/2M19M41
([5]) “رغم سحب قواته.. البنتاغون ينفي دعم عملية تركية شمال سوريا وترامب يهدد أنقرة”. الجزيرة نت، 7-10-2019. https://bit.ly/2VnkwNd
([6]) “ترمب يهدد تركيا مجددًا: لن نتخلى عن الأكراد بأي شكل”. العربية نت، 8-10-2019. https://bit.ly/2p3KIAH
“ترامب يهدد بـ”تدمير” اقتصاد تركيا والبنتاغون يحذر أنقره”. DW، 7-10-2019. https://bit.ly/2IElMGH
([7]) “وفد عسكري أمريكي يصل إلى شانلي أورفا لتنسيق جهود المنطقة الآمنة”. تي آر تي عربي، 11-9-2019. https://bit.ly/320Qlhq
([8]) “الكرملين: نتفهم إجراءات تركيا لضمان أمنها ونأمل تمسكها بوحدة التراب السوري”. دايلي صباح، 8-10-2019. https://bit.ly/2q0WfkD
([9]) ” الأمم المتحدة تعلن تشكيل اللجنة الدستورية السورية”. فرانس 24، 23-9-2019. https://bit.ly/2IDsEEb
([10]) “موسكو تدعو لحوار بين الأكراد ودمشق.. وقسد تدرس الخيارات”. العربية نت، 9-10-2019. https://bit.ly/2M04m9y
([11]) “إيران ترفض عملية شرق الفرات التركية في سوريا.. وأوغلو: إجراء مؤقت”. سي إن إن، 8-10-2019. https://cnn.it/322m0iL
([12]) “بريطانيا وفرنسا وألمانيا تدعو مجلس الأمن للانعقاد بشأن العدوان التركي”. العين الإخبارية، 9-10-2019. https://bit.ly/2OAmLM4
([13]) “دعم مالي أوروبي للاستقرار شرق الفرات”. الشرق الأوسط، 3-5-2019. https://bit.ly/2VxRlaC
([14]) “الحكومة الدنماركية: سنقدم دعما ماليا للتحالف ضد “داعش”. الأناضول، 6-10-2019. https://bit.ly/321fPex
([15]) “بعد الانتهاء من جدل صفقة إس-400 الروسية.. أين ستنشرها تركيا؟”. يني شفق، 27-5-2019. https://bit.ly/2B0GDzH
“قراءة مغايرة لصفقة “إس 400″ الروسية – التركية”. صحيفة الحياة اللندنية، 18-7-2019. https://bit.ly/310kYTg
رابط المصدر: