ليس من السابق لأوانه التفكير في اليوم التالي للحرب الجارية في قطاع غزة، خصوصًا في ظل غياب السيناريوهات الواقعية الذي ينتج بدوره العديد من السيناريوهات غير الواقعية. وحسب مفاهيم القيادة الاستراتيجية، فإن تطوير أفكار تتصف بالشمولية والضخامة حول الوضع الحالي هي وحدها القادرة على عكس قدر من الفهم والتعامل الذكي مع جوانب الصراع “المطول” على الساحة الفلسطينية- الإسرائيلية. صحيح أن حركة حماس استطاعت تسجيل حدث ضخم باسمها في التاريخ بطوفان بدأته إلا أن العواقب والمآلات ليست مضمونة حتى الآن للطرفين على حد سواء بل وليست مضمونة لجميع الأطراف ذات الصلة بما يدور في غزة. وعليه تسعى هذه الورقة لتصور سيناريوهات اليوم التالي للحرب لأبرز أطراف الصراع بشكل مباشر أو غير مباشر.
أولاً) مستقبل “نتنياهو”
تركز إسرائيل في الوقت الحالي على سحق حماس ليقين استقر لديها بأنه من السابق لأوانه الحديث عن مرحلة ما بعد حماس لأن هذه الحسابات سوف تستغرق وقتًا، ولكن على أي حال فإنه لا يمكن إنكار أن السيناريوهات الواقعية بالنسبة لإسرائيل تتأرجح بين السيئ والأسوأ؛ إذ إن حالة الفراغ التي قد تنشأ في غزة بعد القضاء على حماس إذا ما كان هذا ممكنًا سيكون لها تأثيرات سلبية بعيدة المدى على إطلاق العنان لموجة من الفوضى وعدم الاستقرار، لأن القضاء على حماس لا يعني القضاء على باقي الفصائل المسلحة التي ربما تستمر في حالة التصعيد ضد الاحتلال فضلًا عن الجماعات الأخرى التي سوف تنشط بالوكالة عن إيران في لبنان وسوريا واليمن.
كذا تخاطر إسرائيل باستمرارها بحالة التصعيد في غزة إلى عزل نفسها من قبل قوى كبرى مؤثرة إقليميًا وتحويل آمالها في التطبيع إلى سراب؛ نظرًا لأن هذه القوى لن تغامر بالتطبيع مع إسرائيل في ظل هذه الأوضاع وهو ما يحيلنا إلى الحديث عن مستقبل “نتنياهو” كرئيس للوزراء والاستبعاد الفوري لمنطق الانقلابات والثورة المضادة لأن ما حدث في السابع من أكتوبر خلق صدمة لدى الإسرائيليين أوضحت أمامهم أنهم محاطون بالأعداء العازمين على تدمير دولتهم وهو ما يجعلهم أكثر يقينًا فضلًا عن دوائر صنع القرار بأن الوقت ليس بوقت السلام وليس بوقت المعارضة.
وحتى “نتنياهو” قد دفع إلى هذا الرد الهمجي على حماس لأنه يدرك أن العار الذي سيلحق به في حالة الرد المتخاذل هو أضخم بكثير من العار الذي لحق به على خلفية التلاعب بالديمقراطية في إسرائيل. ومن المعلوم أن “نتنياهو” قد عمل على مدى سنوات على تجنب الدخول مع حماس في مواجهة مفتوحة، معتبرًا أن وجود قوة وإن كانت “أصولية” تسيطر على غزة أفضل من عدم وجود سلطة على الإطلاق وتحميل إسرائيل المزيد من الأعباء الأمنية، ولذلك اعتمدت إسرائيل على مدى سنوات على الضربات الدورية لحماس أو ما يعرف اصطلاحًا في أوساط الاحتلال باستراتيجية ” قص العشب” وهو تغير ضخم في استراتيجية تل أبيب في التعامل مع حماس بشكل يسترعي الانتباه ويشير إلى أن ما قبل السابع من أكتوبر قد انتهى إلى غير رجعة.
وأظهرت نتائج استطلاع أجراه معهد عبري أن 80% من الإسرائيليين يحملون رئيس الوزراء مسؤولية أحداث 7 أكتوبر لأنه ارتكب خطأ استراتيجيًا عندما تجاهل تحذيرات الجيش وظل أسيرًا لفكرة أن حماس لن تجرؤ على الهجوم. ورغم تعهد “نتنياهو” بهزيمة حركة حماس فإن الإسرائيليين لن يغفروا له الخسائر الكبيرة التي تكبدوها في عملية طوفان الأقصى. ولذلك تذهب أغلب التقديرات للاعتقاد بأن مستقبل نتنياهو السياسي في خبر كان، وهو ما يفسر محاولته للبحث عن انتصار في غزة وإن كان باجتياح بري هستيري ليست نتائجه مضمونة بالقضاء على حماس بحال من الأحوال.
من جانب آخر، فإن خسائر “نتنياهو” أكثر من أن يتم حصرها؛ فخلال حكم “نتنياهو”، أصبحت إسرائيل ترى نفسها كقوة عسكرية وسياسية وتكنولوجية، وكانت صناعة التكنولوجيا الفائقة في إسرائيل هي المحرك للنمو الاقتصادي الذي أدى إلى إثراء البلاد. وقد فتحت قدراتها التكنولوجية الأبواب أمام علاقات أقوى مع الصين والهند، ولعبت دورًا رئيسًا في التطبيع مع القوى العربية التي تسعى إلى الوصول إلى الابتكار الإسرائيلي. لقد مكنت التكنولوجيا إسرائيل من مضاعفة قدراتها العسكرية والاستخباراتية بما يتجاوز بكثير ما يوفره لها سكانها أو الموارد الأخرى في العادة. ولكن هذا التفوق التكنولوجي ربما يكون قد ذهب بالفعل أدراج الرياح لأنه سيتم ربطه مباشرة بالفشل في توقع عملية طوفان الأقصى أو التصدي لها نتيجة السياسة الدفاعية التي تبناها “نتنياهو” ناحية حماس والتي اقتصرت على الدفاع أو الاحتواء وليس المبادرة بالقضاء عليها.
ثانيًا) مستقبل حماس
وفقًا لموجز بحثي أجرته مؤسسة راند عام 2017، تمتلك إسرائيل القدرة العسكرية للقضاء على حماس، لكن القيام بذلك ربما يكون أكثر خطورة من عدمه؛ نظرًا لإمكانية وصول منظمة أكثر تطرفًا إلى السلطة، أو قد ينتهي الأمر بإسرائيل إلى المسؤولية لحكم الإقليم نفسه.
ولكن القدرة العسكرية المتوفرة بالفعل لدى إسرائيل لا تعنى أن محاولة اجتثاث حماس هي قيد التحقق، بل ستشكل مهمة صعبة للغاية؛ وذلك بالنظر إلى عدد سكان غزة البالغ عددهم نحو 2.4 مليون نسمة، وكثافة المباني الشاهقة، ووجود ما يقرب من 200 رهينة، والتوقع بأن حماس سوف تستخدم الأفخاخ المتفجرة والمتفجرات البدائية الصنع والانتحاريين.
وهو ما يخلق سيناريو آخر “غير سار” للإسرائيليين أنفسهم وهو الاضطرار إلى البقاء في غزة لسنوات مقبلة، مع الأخذ بالحسبان أن هذا لن يشكل سابقة لأن إسرائيل كانت قد حكمت هذا القطاع الساحلي بالفعل في الفترة من 1967 وحتى 2005 ولكن عودة تل أبيب لحكم القطاع ستثير المزيد من الاستياء الفلسطيني وتنتج أجيالًا جديدًا من المقاومة تكون أكثر ضراوة من حماس، أو حتى أن تصبح مشكلة القطاع أكبر من أن تتحملها جهة واحدة.
وكما سبقت الإشارة فإن غياب السيناريوهات الواقعية يفتح الأبواب أمام سيناريوهات غير واقعية مثل الطرح الذي تقدمت به بعض الشخصيات الأمريكية والإسرائيلية والذي انصب على فرض نوع من الوصاية الدولية على قطاع غزة في عودة لنظام الانتداب الذي انقطعت أخباره منذ عقود وعقود، وفي هذا السيناريو الذي سيكون مرفوضًا على الصعيد الإقليمي من المرجح أن الأمم المتحدة سوف تتسلم مهام المشرف على توجيه عملية ضخ الأموال إلى القطاع، وتشرف على إعادة بناء القطاع المدمر على نطاق واسع، ثم الذهاب لإجراء انتخابات يختار الفلسطينيون فيها من يحكم القطاع. وهو السيناريو الذي وُصف من قبل رشيد الخالدي، المؤرخ الفلسطيني الأمريكي ومفاوض السلام السابق في منظمة التحرير الفلسطينية في التسعينيات بأنه يندرج تحت خانة الواقع الموازي أو الواقع البديل.
وهو ما يحيلنا إلى تفنيد اتجاهات حماس من حيث واقعيتها، وبالاطلاع يتضح أيضًا أن أهداف حماس فيما يتعلق بالعدو الإسرائيلي تبنى على استخدام القوة المطلقة دون وجود هدف سياسي او أفق لتسوية متوازنة، وهو نفس الفخ الذي يقع فيه الاحتلال في التعامل مع حماس. وكما اتضح فإن “طوفان الأقصى” لم تنجح في محو الكيان الإسرائيلي، ولذلك غالبًا ما تتدخل الأطراف الإقليمية للحاق بشطط حماس وإعادة طرح حل الدولتين على الطاولة من خلال المفاوضات وذلك من منطلق الواقعية وليس التخاذل أو عدم الاصطفاف خلف المقاومة.
ولا يوجد الكثير من الشك حول أن عملية طوفان الأقصى وإن كانت كبدت العدو الخسائر وعرضته لمذلة كبيرة وأعادت تذكير العالم بأكمله بعدالة القضية الفلسطينية فإنها أنها تسببت على الناحية الأخرى في منح تل أبيب الضوء الأخضر لممارسة العقاب الجماعي ضد سكان القطاع الشعب الأعزل، والحصول على دعم أمريكي مالي وعسكري، وأن تضرب بالقانون الإنساني وقوانين الحرب والمواثيق الدولية وكذا تعاليم الأديان عرض كل حائط اعترض طريقها.
ومن هنا يمكن القول إن حماس تخطئ في الحسابات عندما تحاول التضخيم من قدراتها إلى حد تصوير الحرب وكأنها تجري بين طرفين متكافئين في مبالغة من التحليلات السياسية والعسكرية، مع الوضع بالاعتبار أن هذا يتنافى مع الرواية الفلسطينية الحقيقية والتي تنعكس في أن هناك شعب أعزل يرزح تحت الاحتلال الوحيد في العالم ويعاني من جشع استيطاني ليس له مثيل يمارس تحت مظلة دولية القتل والإرهاب. وهو ما يحلينا إلى نقطة أخرة تنحصر في أن رواية حماس ركزت دائمًا على أن عملية “طوفان الأقصى” لم تكن عملًا عشوائيًا ولا وليد اللحظة وهو ما يمكن استنتاجه بسهولة دون أن تشير له حماس، ولكن يبقى التساؤل حول لماذا لم يتم الاستعداد لهذا العمل العظيم والمنظم من تخزين المؤن والاحتياجات في القطاع مسبقًا.
ثالثًا) مستقبل الدور الأمريكي بالنسبة للقضية الفلسطينية
هناك اختلاف واضح بين استراتيجية الولايات المتحدة وإسرائيل ناحية فلسطين والشرق الأوسط، ولذلك يصعب أن يسلك الاثنان نفس الطريق. ويعد الإدراك الواعي لمثل هذا الاختلاف حجر زاوية في صياغة أي سياسة عربية توازن المرحلة الحالية، وفي هذا السياق فليس خافيًا أن اليمين المتطرف الذي يسيطر على إسرائيل يتبنى استراتيجية معلنة تستهدف تصفية القضية الفلسطينية من خلال إجراءات التهويد والتهجير وتغيير التركيبات السكانية.
أما الرواية الرسمية للولايات المتحدة فهي تتبنى حل الدولتين بما يتعارض مع الاتجاه اليميني الديني المسيطر على إسرائيل، خصوصًا أن هذه الرواية الأمريكية هي جزء من استراتيجيتها في المنطقة والقائمة على مواجهة الصين وروسيا وبتر أذرع النظام الإيراني والحفاظ على نطاقات الصراعات المحلية بالشكل الذي لا يجعلها تمثل عبئًا على المصالح الأمريكية.
ولذلك لا ينبغي فهم الدعم المطلق الحالي لواشنطن ناحية إسرائيل بأنه يأتي في سياق أن واشنطن راغبة في توسيع نطاق الحرب وتحويلها إلى صراع شامل في المنطقة، وإنما الغاية الأهم من ذلك هو محاولة سد الشرخ الذي كسر هيبة جيش الاحتلال؛ لأن هذه الهيبة هي جزء من توازنات القوى في المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط. ولذلك فليس من المستغرب ميل واشنطن إلى مسألة تهجير الفلسطينيين إذا كانت ستؤدي إلى خفض التصعيد الذي لا تريد واشنطن اتساعه إلا إذا صعدت أطراف أخرى ضد إسرائيل وعلى رأسها حزب الله ويفهم ذلك من الأساطيل الأمريكية وحاملات الطائرات التي تم جلبها إلى المنطقة والتي يشير وجودها إلى أكثر من التحذير حال اندفعت أحد الأذرع الإيرانية.
في إطار وثيق الصلة، تضع واشنطن نصب عينيها حسابات اليوم التالي للحرب، وبالتحديد مساعدة الإسرائيليين والفلسطينيين على البدء الآن في التخطيط لفراغ الحكم الذي قد ينجم عن إنهاء حكم حماس، حتى لا تملأ الجهات الفاعلة المزعزعة للاستقرار هذا الفراغ.
وفي هذا السياق، لا يمكن فصل الدور الإيراني بالنسبة للقضية الفلسطينية عن الدور الأمريكي الذي سبقت الإشارة إليه، لاسيّما وأن سرعة التحرك الأمريكي في المنطقة أفسدت حتى الآن فرصة أي تهور إيراني، حيث أصابت واشنطن التقدير حينما أدركت أن أي تحرك مضاد لإسرائيل خصوصًا من قبل حزب الله أو الحرس الثوري يعني تدمير كل ما بنته خلال سنوات في سوريا ولبنان وقد تحتاج إلى سنوات أطول ولإمكانيات أضخم لإعادة تموضعها في المنطقة، هذا إن وجدت الفراغ الذي يمكنها من تكرار ذلك.
رابعًا) دور السلطة الفلسطينية
يعد من أبرز المحاور في حسابات اليوم التالي للحرب و إجابة على تساؤل فيصلي وهو من سيحكم أو سيدير القطاع إذا ما نجحت إسرائيل في احتمال تحيط به الشكوك في اقتلاع حماس، والإحالة الأقرب هنا تشير إلى السلطة الفلسطينية ومع ذلك، تفتقر السلطة الفلسطينية إلى الإرادة والقدرة على القيام بهذه المهمة في المستقبل القريب؛ فهي لا تريد أن ينظر إليها على أنها تعود إلى القطاع على ظهور الدبابات الإسرائيلية، وهي ليست في وضع يمكنها من تحمل مسؤوليات حكومية إضافية في غزة خصوصًا في ظل عدم وجود مؤشرات على رغبة المواطنين في غزة في استبدال حماس. فحماس بالنسبة للفلسطينيين هي فكرة المقاومة ولذلك فإنه حتى لو تم تدمير كل بنيتها التحتية فإن فكرة المقاومة لا تموت ثم إنها قابلة للحياة من العدم مرات ومرات.
بالبناء على ما تقدم، تستهدف إسرائيل في التوقيت الحالي محاولة إنقاذ الرهائن الذين يفترض أنهم الآن منتشرون على نطاق واسع في أنحاء القطاع؛ مع عدم تأجيج الأوضاع في الضفة الغربية أكثر مما هو الحال بالفعل؛ وثني حزب الله عن إطلاق كميات كبيرة من الصواريخ المخزونة في جنوب لبنان والبالغ عددها نحو 150 ألف صاروخ على إسرائيل ومحاولة الرد على ذلك بما يقتضيه الأمر، وردع إيران عن التورط بشكل مباشر أو استخدام الميليشيات بالوكالة، مع تكليل كل ذلك بالحفاظ على تدفق المساعدات الاقتصادية والعسكرية من الولايات المتحدة الأمريكية؛ ثم نزع سلاح حماس وتجريدها من القدرة على شن مثل هذا الهجوم مرة أخرى.
ولذلك فإن ما هو مطلوب من أية سياسات عربية في التوقيت الحالي الاتسام ببعد النظر والابتعاد قدر الإمكان عن التسبب في حشد كل الغرب وراء الرواية الإسرائيلية، وهو ما يتطلب بداية الفصل المنهجي بين اتجاهات الحكومة اليمينة في إسرائيل ناحية تصفية القضية وبين اتجاهات واشنطن التي استقرت حتى الآن على رواية حل الدولتين، ويعني ذلك وجود دبلوماسية مرنة تجمع بين استخدام أدوات الضغط المتاحة على الغرب، وإبقاء الباب مفتوحًا أمام خيارات أخرى وإلا سيجد الموقف العربي نفسه في زاوية ضيقة لا يستطيع فيها الحراك في الوقت الذي قد تتمكن فيه إسرائيل من صبغ التوجهات الأمريكية بروايتها القائمة على تصفية القضية.
.
رابط المصدر: