وفي سياق سعيه للحفاظ على حكمه، يتجه إلى اتخاذ مواقف أكثر انسجامًا مع مواقف اليمين المتطرف واليمين الفاشي في معسكره. وهو يستند في ذلك ليس فقط إلى انزياح المجتمع الإسرائيلي في قيمه ومواقفه نحو اليمين واليمين المتطرف، وإنما أيضًا إلى ثقته بأن الإدارة الأميركية لن تتخذ…
بعد مرور أكثر من 140 يومًا على حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، لا تزال الحكومة والمعارضة السياسية والمؤسسة العسكرية والرأي العام في إسرائيل، تدعم كلها استمرار هذه الحرب حتى تحقيق أهدافها المعلنة؛ وهي القضاء على حكم حركة المقاومة الإسلامية “حماس” وعلى قوتها العسكرية في قطاع غزة، واستعادة المحتجزين الإسرائيليين. لكن التباين أخذ يتسع في الأسابيع الأخيرة بين معسكر رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، اليميني المتطرف من ناحية، والمعسكر المناوئ له من ناحية أخرى، بشأن المحتجزين الإسرائيليين لدى حماس، الذين يبلغ عددهم 136 محتجزًا، بمن فيهم 34 محتجزًا أعلن الجيش الإسرائيلي أنهم باتوا في عداد الموتى. ويعطي المعسكر المناوئ لنتنياهو عقد صفقة لتبادل الأسرى مع حماس أولوية، ويدعو إلى التوصل إليها قبل فوات الأوان، وذلك خلافًا لموقف نتنياهو ومعسكره الذي يُخضع مسألة المحتجزين لتحقيق هدف الحرب الرئيس المتمثّل في القضاء على حماس ومنعها من العودة إلى إدارة القطاع.
مزيد من التطرف
في سياق سعي نتنياهو لتحسين صورته، وتعزيز شعبية حزبه ومعسكره في المجتمع الإسرائيلي، والتي تضررت كثيرًا بعد عملية “طوفان الأقصى”، أخذ يطلق مواقف أكثر تطرفًا فيما يتعلق بأهداف الحرب في غزة، ومجمل القضية الفلسطينية. وفي هذا السياق، صار يتحدث عن تحقيق الانتصار المطلق هدفًا أساسيًّا للحرب، وهو ما يستدعي استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة شهورًا طويلة، وربما سنوات. وبعد مرور أكثر من أربعة أشهر، طرح نتنياهو تصوره لليوم التالي للحرب في وثيقة مقتضبة، أكدت مواقفه السابقة، وشددت على التمسك باستمرار السيطرة الأمنية على قطاع غزة تمامًا كما هي الحال في الضفة الغربية المحتلة، وعلى إقامة جدار أمني فوق الأرض، ويمتد داخل الأرض على الحدود بين القطاع ومصر، ورفض السماح بعودة السلطة الفلسطينية مهما كانت طبيعتها إلى القطاع، وتكريس الانقسام بين القطاع والضفة الغربية، وإنهاء نشاط وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى “الأونروا” في قطاع غزة، ومنع قيام دولة فلسطينية[1]. ويقاوم نتنياهو كل الضغوط الأميركية التي تدفع في اتجاه وضع مقاربة واقعية للتعامل مع كل هذه القضايا، ويقاوم أيضًا الضغوط، التي يقودها من داخل حكومته، شريكه في حكومة الطوارئ، أي “المعسكر الرسمي” بقيادة بيني غانتس.
ويستند نتنياهو، في سعيه لفرض أجندته ومواقفه السياسية، إلى عناصر قوة عديدة، أبرزها الصلاحيات الواسعة التي يتمتع بها منصب رئيس الحكومة في النظام السياسي الإسرائيلي، وإلى انزياح المجتمع الإسرائيلي، لا سيما في أثناء هذه الحرب، إلى قيم اليمين، واليمين المتطرف والفاشي، ومواقفهما، وإلى الإجماع الإسرائيلي المستمر في تأييده للحرب والرغبة في الانتقام، وجعل الفلسطينيين يدفعون ثمن القيام بعملية 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. ويستند نتنياهو أيضًا في تمسكه بمواقفه إلى استمرار تماسك معسكره خلفه، ودعم الولايات المتحدة الأميركية لاستمرار الحرب حتى تحقيق أهدافها، وإلى ضعف المواقف العربية وعدم استخدامها عناصر القوة التي تملكها للعمل على وقف الحرب.
مفاوضات تبادل الأسرى
تبنى نتنياهو في الأسابيع الأخيرة مواقف أكثر تشددًا في المفاوضات غير المباشرة، التي تجريها إسرائيل مع حركة حماس فيما يخص صفقة تبادل الأسرى؛ فهو يرفض تقديم أي تنازل يُفهم منه أن حماس فرضت إرادتها على إسرائيل، خصوصًا مطلب وقف الحرب. ويخشى أن يؤدي وقف القتال، وفق مراحل الصفقة المقترحة لفترة زمنية متواصلة تمتد عدة شهور، إلى خلق أوضاع إسرائيلية داخلية وأخرى دولية، بحيث تجعل استئناف القتال صعبًا، خاصة إذا ما عارضت الإدارة الأميركية ذلك. ويتخوف كذلك من انهيار ائتلافه الحكومي، إذا جرى التوصل إلى اتفاق لتبادل الأسرى بخروج أحد الحزبين الفاشيين أو كليهما؛ القوة اليهودية بقيادة إيتمار بن غفير، والصهيونية الدينية بقيادة بتسلئيل سموتريتش.
ويقاوم نتنياهو الضغوط التي يمارسها الرئيس الأميركي، جو بايدن، لإبداء مرونة للتوصل إلى اتفاق يسمح بإطلاق سراح المحتجزين، بمن فيهم الأميركيون، والجهود التي يبذلها مساعدو الرئيس بايدن بهذا الخصوص بمن فيهم وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، ورئيس وكالة المخابرات المركزية “سي آي إيه”، بيل بيرنز. وقد تراجع نتنياهو عن اتفاق الإطار الذي جرى التوصل إليه في باريس في وقت مبكر من شباط/ فبراير 2024 لتبادل الأسرى[2]، ورفض مقترح الإطار لتبادل الأسرى الذي قدمه قادة المؤسسة العسكرية ورئيس المخابرات العامة “الشاباك” ورئيس الموساد[3]، كما منع وفدًا أمنيًا إسرائيليًا من السفر إلى القاهرة لمواصلة التفاوض حول النقاط الخلافية مع حركة حماس بشأن اتفاق إطار باريس[4]، وقلّص من صلاحيات وفد المفاوضات لتبادل الأسرى الذي أرسله إلى القاهرة، المؤلف من رئيسَي الشاباك والموساد، وسمح له بالاستماع فقط للمقترحات من دون الرد عليها[5].
وقد انفرد نتنياهو باتخاذ القرارات المتعلقة بمفاوضات الأسرى، ولم يتشاور في شأنها مع قادة حزب المعسكر الرسمي؛ وهو ما عُدّ خرقًا لاتفاق إقامة حكومة الطوارئ، ولم يستشر كذلك وزير الأمن، يوآف غالانت، ولا قادة المؤسستين العسكرية والأمنية.
غموض موقف المؤسسة العسكرية
يرفض نتنياهو اقتراح إطار المفاوضات الذي قدمته المؤسستان العسكرية والأمنية اللتان تؤيدان عقد صفقة لتبادل الأسرى، حتى إن كان الثمن هو وقف إطلاق النار لبضعة شهور؛ انطلاقًا من أن عدم التوصل إلى صفقة يزيد من تفاقم الشروخ في المجتمع الإسرائيلي. لكن قدرة هاتين المؤسستين على ممارسة الضغط في هذا الاتجاه تبدو محدودة؛ وذلك لخضوعهما للمستوى السياسي في عملية صنع القرارات التي تخص الأمن القومي. وعلى الرغم من أنهما مارستا تأثيرًا أكبر في الماضي على القيادة السياسية لحثها على قبول موقف معين في قضايا أمنية، بحكم الاختصاص، فإنهما لا تمارسان ضغطًا كافيًا على الحكومة لقبول صفقة تبادل الأسرى التي تشمل وقف إطلاق النار لبضعة شهور؛ لأن ذلك قد يفتح الباب على مصراعيه لإجراء تحقيقات متعددة بما في ذلك تشكيل لجنة تحقيق رسمية في الفشل الذي جرى في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وأيضًا لأن وقف إطلاق النار قد يقود تدريجيًا إلى استقالة معظم، إن لم يكن جميع، قادة المؤسستين العسكرية والأمنية، كما التزموا في حينه بتحمّل مسؤولية التقصير، والتزم بعضهم علنًا بالاستقالة عند انتهاء الحرب. وهذا يعني أن ثمة مصلحة مشتركة لقادة المؤسستين ورئيس الحكومة في إطالة أمد الحرب، لتحقيق أهداف الحرب وأقصى ما يمكن من إنجازات لعرضها أمام لجان التحقيق المختلفة، وكذلك للابتعاد أطول فترة ممكنة عن 7 تشرين الأول/ أكتوبر، من أجل تخفيف وطأة الفشل والتقصير.
العلاقة مع غانتس ومستقبل حكومة الطوارئ
شهد الأسبوعان الأخيران من شباط/ فبراير 2024 ارتفاع مستوى التوتر في العلاقة بين نتنياهو وشركائه في الحكم من قادة المعسكر الرسمي، بيني غانتس وغادي آيزنكوت. ويعود ذلك، على ما يبدو، إلى رغبة نتنياهو في دفع حزب المعسكر الرسمي للخروج من حكومة الطوارئ التي شُكّلت عقب عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/ أكتوبر. فبعد ثلاثة شهور على تشكيلها، بدأ نتنياهو بخرق الاتفاق الذي تأسست وفقه الحكومة، حينما أخذ يتفرد بعملية صنع القرار في ملف تبادل الأسرى بين إسرائيل وحماس. ويبدو أنه بات يعتقد أنه لم يعد في حاجة إلى هذه الحكومة ولا إلى المعسكر الرسمي لمنحه شرعية الاستمرار في الحرب على غزة، الذي يحظى بدعم غالبية ساحقة من اليهود الإسرائيليين، علاوة على أنه يريد التحلل من القيود التي يفرضها بقاء المعارضة في حكومته، ليكون له مطلق الحرية في تقرير وضع غزة في مرحلة ما بعد الحرب؛ وذلك لتعارض رؤيته مع رؤية كل من غانتس وايزنكوت الأقرب إلى الموقف الأميركي. ولنتنياهو حساباته الداخلية أيضًا بهذا الخصوص؛ إذ يرى أن بقاء المعسكر الرسمي في الائتلاف الحكومي يخدم سياسيًا وشعبيًا غانتس؛ غريمه ومنافسه الأساسي في انتخابات الكنيست المقبلة.
أخيرًا، يبدو أن نتنياهو يتجه إلى إقناع القيادي السابق في حزب الليكود، جدعون ساعر، وحزبه “أمل جديد” (تكفاه حدشاه) الذي خاض انتخابات الكنيست الأخيرة في إطار تحالف المعسكر الرسمي، وله أربعة مقاعد في الكنيست الحالية، وهو لا يقل يمينية وتطرفًا عن نتنياهو، بالبقاء في الائتلاف الحكومي بعد خروج المعسكر الرسمي، ليستند حينئذ الائتلاف إلى 68 عضوَ برلمان ويغدو في وضع أفضل داخل الكنيست مما كان عليه الحال قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر[6].
ويدرك قائدا حزب المعسكر الرسمي، غانتس وآيزنكوت، رغبة نتنياهو في دفعهما إلى الخروج من الائتلاف الحكومي وإنهاء حكومة الطوارئ[7]، وهما يقاومان ذلك في هذه المرحلة التي تستدعي منهما البقاء في الحكومة والمشاركة في اتخاذ القرارات لجني مكاسب سياسية. فالحرب على قطاع غزة لم تنته بعد، ولا تزال معركة خان يونس مستمرة، وتتجه حكومة الحرب إلى إطلاق معركة رفح التي يؤيدها غانتس ويدعو فيها إلى احتلال محور فيلادلفيا على الحدود مع مصر وبناء جدار أمني متين. وإذا لم يبادر نتنياهو نفسه إلى إقالة قادة المعسكر الرسمي، فإنه من المرجّح أن يبقوا في الحكومة، إلى أن يصبح وجودهم فيها غير مجدٍ سياسيًّا، وعندما يحصل ذلك (الخروج من الحكومة) سوف يجري على الأرجح بالتنسيق مع إدارة بايدن.
عقدة رفح
يسود شبه إجماع في إسرائيل على ضرورة استكمال العملية العسكرية في قطاع غزة، باحتلال رفح بعد الانتهاء من معركة خان يونس، والسيطرة على بعض المخيمات والبلدات الواقعة في المنطقة الوسطى من القطاع، مثل مخيم النصيرات ودير البلح. ولكن عقبات عديدة تواجه العملية العسكرية المزمعة في رفح التي يعيش فيها نحو 1.5 مليون فلسطيني، منهم نحو 1.2 مليون من المهجّرين من شمال ووسط القطاع ومن خان يونس. وقد يؤدي أي هجوم للجيش الإسرائيلي على رفح إلى إبادة واسعة النطاق للفلسطينيين في هذه الحرب التي راح ضحيتها حتى الآن نحو 30 ألف شهيد و7 آلاف مفقود و70 ألف جريح. وقد يؤدي هذا الهجوم أيضًا إلى تهجير واسع للفلسطينيين نحو سيناء، ويقود كذلك إلى قتل العدد الأكبر من المحتجزين الإسرائيليين، الذين تعتقد إسرائيل أن قسمًا كبيرًا منهم محتجز في رفح. بناء عليه، تسترعي أي عملية عسكرية في رفح اهتمامًا دوليًّا وإقليميًّا كبيرًا، خصوصًا من الجانبين المصري والأميركي.
لا تعارض الإدارة الأميركية قيام إسرائيل بعملية عسكرية لاحتلال رفح، ولكنها تشترط وجود خطة واضحة ومقنعة تضمن إخلاء أكثر من مليون فلسطيني من رفح إلى أماكن أخرى في قطاع غزة. واقترحت إسرائيل، التي تمنع المهجرين إلى رفح من العودة إلى ديارهم في شمال القطاع ووسطه قبل التوصل إلى صفقة تبادل الأسرى على الأقل، نقلَ أكثر من مليون فلسطيني من رفح إلى منطقة المواصي التي تقع على شاطئ البحر جنوب قطاع غزة إلى الغرب من خان يونس. بيد أن هذه المنطقة صغيرة، لا يمكنها استيعاب مئات آلاف من المهجرين. لذلك تعترض الإدارة الأميركية على هذه الخطة التي قدمتها إسرائيل إلى اللجنة الأميركية – الإسرائيلية المشتركة التي تجتمع يوميًا في تل أبيب لمناقشة الوضع في غزة، ولا تبدو متحمسة أيضًا للخطة التي شرحها قادة في الجيش الإسرائيلي للإدارة الأميركية في واشنطن[8]؛ ما يعني أن الخلافات بشأن عملية عسكرية إسرائيلية في رفح لم تحسم بعد، وقد تؤجّل شهورًا عديدة، إذا ما جرى التوصل إلى اتفاق لتبادل الأسرى في الأسابيع القليلة المقبلة.
خاتمة
بعد أكثر من أربعة شهور على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، يجد رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، نفسه في وضع يمكّنه من الاستغناء عن حكومة الطوارئ والتفرد بالسيطرة على عملية صنع القرارات المتعلقة باستراتيجية الحرب على غزة وعلى رسم سياسات إسرائيل عمومًا. وفي سياق سعيه للحفاظ على حكمه، يتجه إلى اتخاذ مواقف أكثر انسجامًا مع مواقف اليمين المتطرف واليمين الفاشي في معسكره. وهو يستند في ذلك ليس فقط إلى انزياح المجتمع الإسرائيلي في قيمه ومواقفه نحو اليمين واليمين المتطرف، وإنما أيضًا إلى ثقته بأن الإدارة الأميركية لن تتخذ مع انطلاق موسم الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة أي إجراءات للحدّ من توجهاته العدوانية والمتطرفة، كما يستند إلى مواقف الدول العربية التي لم يتخذ أكثرها أي إجراء جدي ضد إسرائيل، بل استمرت في علاقاتها العلنية والسرية معها، كأنها لا تشن حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
المصدر : https://annabaa.org/arabic/views/38122