هبة شكري
في سابقة هي الأولى من نوعها، أعلنت روسيا اعتزامها وقف نشاط الوكالة اليهودية على أراضيها، بعد قيام وزارة العدل الروسية برفع دعوى قضائية تطالب فيها بحظر نشاط الوكالة في روسيا، بسبب انتهاكها القوانين الروسية. ويأتي القرار ليفاقم من حدة التوتر الذي شاب العلاقات بين موسكو وتل أبيب، والذي وصل إلى ذروته إثر اندلاع الأزمة الأوكرانية وما تزامن معها من انحياز إسرائيلي لأوكرانيا المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية. وقد دفع ذلك إلى الاعتقاد بأن القرار الأخير ليس قانونيًا كما ادعت روسيا، لكنه يحمل في جوهره بُعدًا سياسيًا، ويعد بمثابة عقاب تفرضه موسكو على إسرائيل جراء موقفها المتحيز والذي قد يكلفها علاقتها بروسيا.
تفاصيل الأزمة
للمرة الأولى منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1989، قامت الحكومة الروسية بحظر نشاط الوكالة اليهودية على أراضيها، وهو ما سيترتب عليه وقف تنظيم هجرة اليهود من روسيا إلى إسرائيل. وقد تم الوقف بعد أن أصدرت وزارة العدل في موسكو قرارها في هذا الشأن، والذي طلبت فيه تصفية الفرع الروسي من الوكالة اليهودية بسبب انتهاكها للقوانين الروسية. واعتبرت الجلسة التي عقدتها محكمة باسماني في موسكو جلسة استماع أولية، وتم تحديد موعد جلسة المحكمة في 19 أغسطس.
وتواجه الوكالة اليهودية اتهامات روسية بالعمل بشكل متعارض مع القانون، دون توضيح المخالفات التي ارتكبتها الوكالة، لكن بعض التقارير الروسية أشارت إلى إن الوكالة متهمة بجمع بيانات شخصية بشكل غير قانوني عن مواطنين روس. وأثيرت اتهامات بأن غلق الوكالة يهدف إلى منع استقطاب العلماء بعدما غادر الكثير من الروس البلاد عقب غزو أوكرانيا، على الرغم من قيام المتحدث باسم الكرملين “دميتري بيسكوف” بنفى ذلك.
من جهتها، رفضت الوكالة اليهودية التعليق على التعليمات الجديدة، وأصدرت بيانًا اكتفت فيه بالإشارة إلى أنه يتم التواصل مع الجهات المختصة لضمان مواصلة القام بمهام الوكالة دون أن يتناقض عملها مع السلطات المحلية. وقد تزامن صدور القرار مع ما تمر به روسيا من آثار المقاطعة وتزايد الضغوط المعيشية على مواطنيها، وهو ما ترتب عليه ارتفاع عدد اليهود الراغبين في الهجرة إلى إسرائيل، لكن الحظر المفروض على الطيران الروسي حال دون قدرتهم على الهجرة.
وفي هذا الإطار، اعترفت الحكومة الإسرائيلية بوجود أزمة مع روسيا فيما يتعلق بالهجرة اليهودية، وزادت المخاوف من أن تكون روسيا بدأت في معاقبة إسرائيل بسبب سياستها حيال أوكرانيا وسوريا. وأن يكون حظر نشاط الوكالة اليهودية إنذارًا لتغيير أكبر في سياستها تجاه إسرائيل، خاصة مع تزايد الغضب الروسي من القصف الإسرائيلي في سوريا، فضلًا عن امتعاضها من الدعم الإسرائيلي العسكري لأوكرانيا.
فيما يخص رد الفعل الإسرائيلي، فقد حذر رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد من أن حظر الوكالة اليهودية للهجرة لإسرائيل في روسيا سيمثل حدثًا خطيرًا من شأنه التأثير على العلاقات بين البلدين، وأكد على استمرار العمل من خلال القنوات الدبلوماسية لضمان عدم توقف النشاط المهم للوكالة اليهودية، وأشار إلى أهمية الجالية اليهودية في روسيا وإلى الأواصر العميقة التي تربطها بإسرائيل. في أعقاب ذلك، أصدر لابيد توجهياته لإعداد فريق قانوني للسفر إلى موسكو فور موافقة روسيا على إجراء محادثات بهذا الشأن، وأوضح أن الوفد سيبذل كل ما بوسعه لإحراز تقدم في الحوار حول هذه المسألة، مؤكدًا أهمية العلاقات مع روسيا.
وبالفعل، تم إرسال الوفد، لكن المحادثات انتهت دون التوصل إلى أية نتيجة، حيث عقدت القيادة الإسرائيلية اجتماعًا موسعًا شارك فيه حوالي 30 شخصًا، بينهم وزراء ومسؤولون في الموساد ومجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية وممثلو منظمات صهيونية تعمل في روسيا. وألزم يائير لابيد المشاركين في الاجتماع على التوقيع على تعهد عدم التسريب؛ لكن فور انتهاء الاجتماع انتشرت التسريبات في وسائل الإعلام الإسرائيلي، لكنّها كانت مضللة بهدف استغلالها في الانتخابات القادمة.
وفي النهاية لم يثمر الاجتماع عن أي نتائج، حيث لم يرفض الروس المقترحات الإسرائيلية لكنهم في الوقت ذاته لم يوافقو عليها. وبالتالي، فإذا استمرت الأزمة على صورتها الحالية ولم يتم التوافق على حلول بين الطرفين الروسي والإسرائيلي، فإن المحكمة ستقضي بإغلاق الوكالة في روسيا خلال انعقاد الجلسة القادمة المقررة في التاسع عشر من أغسطس الجاري.
ما هي الوكالة اليهودية؟
تعمل الوكالة اليهودية على تقديم الدعم والمساعدة لليهود المهاجرين إلى اسرائيل، وتحرص على أن تكون حلقة وصل بين الجاليات اليهودية في مختلف الدول، وبين تلك الجاليات وإسرائيل. بدأ عمل الوكالة اليهودية في الاتحاد السوفيتي في عهد “ميخائيل جورباتشوف” والذي قام بافتتاح أول مكتب تمثيلي للوكالة عام 1989- قبل عامين من إعادة العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل التي تم قطعها عام 1967- وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي، هاجر خلال أعوام 1990-2000 ما يقارب من مليون شخص إلى إسرائيل، منهم حوالي 300 ألف من روسيا، بسبب الأوضاع السياسية والأزمة الاقتصادية التي سادت في بلدان رابطة الدول المستقلة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي.
ويتم تمويل الوكالة من قبل الجاليات اليهودية الكبيرة والاتحادات والمؤسسات والمنظمات الخيرية، وتعمل ممثلية الوكالة في كل من موسكو وبطرسبرج وسمارا وروستوف وبيتجورسك ويكاتيربورج وإيركوتسك ونوفوسيبيريسك وخاباروفسك. وووفقًا لبيانات وزارة إعادة التوطين والاندماج الإسرائيلية، فقد ارتفع عدد العائدين من روسيا خلال عام 2021 بنسبة 10٪ مقارنة بعام 2020 وبلغ 7.5 ألف شخص. ومنذ بدء الأزمة الأوكرانية، هاجر حوالي 17000 روسي يهودي إلى إسرائيل، على الرغم من حظر الطيران الروسي والذي أعاق هجرة المزيد من داخل روسيا. لكن على الرغم من ذلك، بدأت الوكالة اليهودية في العثور على حلول التفافية لتهجير اليهود من روسيا عبر دول أخرى. لكن الأوامر بوقف نشاط الوكالة سيترتب عليه وقف حركة الهجرة بشكل تام.
الدوافع والأهداف
تشير معظم التحليلات إلى أن أزمة الوكالة اليهودية ترجع بالأساس إلى غضب روسيا من موقف إسرائيل من الحرب في أوكرانيا، وما ارتبط بهذا الموقف من مشاركة مئات المرتزقة الإسرائيليين في القتال إلى جانب أوكرانيا ضد روسيا، أو رفع إسرائيل مساعداتها لأوكرانيا وتمويلها لمنظمات الإغاثة المدنية، فضلًا عن المواقف السياسية التي اتخذتها إسرائيل حيال الحرب الأوكرانية وتصريحات مسؤوليها التي أدانت الموقف الروسي.
وفي هذا الصدد، ذكرت قناة كان العبرية أن موسكو غاضبة من مشاركة اشخاص يحملون الجنسية الاسرائيلية في الحرب إلى جانب القوات الأوكرانية، بعد أن كشفت بيانات الجيش الروسي أن 35 إسرائيليًا قاتلوا مع الجيش الاوكراني قضى عشرة منهم وغادر 11 آخرون الجبهة، فيما لا يزال 14 يحملون السلاح.
في السياق ذاته، فإن روسيا تشير بأصابع الاتهام إلى الوكالة لما تقوم به من خروقات تهدد الأمن الروسي، لكن لم يتم توضيح طبيعة الانتهاكات التي تقوم بها الوكالة؛ إلا أن البعض في الأوساط الروسية يذهب بالقول إلى أن الوكالة متهمة بالترويج لهجرة العلماء وأصحاب رؤوس الأموال إلى إسرائيل، وتعمل على تنفيذ حملات هجرة جماعية لليهود الروس إلى إسرائيل والقيام بتزوير أوراق مواطنين من أصول روسية ومنحهم الجنسية الإسرائيلية لتسهيل هجرتهم، بالإضافة إلى تخزين معلومات عن اليهود الروس والمواطنين الأصليين ونقلها خارج أراضي روسيا مما يشكل خطرًا على الأمن القومي الروسي. وهو ما دفع إلى قيام إسرائيل كالمعتاد بترديد نغمة معاداة السامية للتشويش على تلك الاتهامات.
كيف يؤثر وقف نشاط الوكالة على إسرائيل؟
نشرت صحيفة “معاريف” العبرية تفاصيل تضرر إسرائيل من قرار روسيا الأخير والذي قد يجلب خسائر فادحة لإسرائيل في العديد من المجالات؛ فوفقًا للصحيفة، من المتوقع أن تمس تداعيات أزمة الوكالة اليهودية العديد من المجالات الهامة في إسرائيل وأولها الدبلوماسية والسياسية ثم الجانب الاجتماعي والتعليم والاقتصاد، وأيضًا على الوضع الوظيفي للجاليات اليهودية في جميع أنحاء روسيا. ورأت الصحيفة أن هناك بعدًا سياسيًا بحتًا للأزمة، لكن عواقبه ستكون مدمرة وستلحق الضرر بحياة اليهود الروس.
وأشارت الصحيفة إلى المخاطر التي تهدد الجالية اليهودية داخل روسيا، خاصة وأن الوكالة اليهودية منظمة مشتركة تشرف بشكل مباشر على العديد من الهيئات الخاصة باليهود في روسيا، وما سيترتب على ذلك من تأثير على الجاليات اليهودية هناك؛ إذ تقوم بتزويدهم بشكل مستمر بالبنية التحتية في جميع المجالات بغرض توفير الاستقراربجميع مناحي الحياة لليهود. وتوقعت معاريف أنه حال إغلاق مكاتب الوكالة اليهودية بروسيا فسيجد اليهود العديد من المشكلات فيما يخص التوظيف والتعليم وأوضاعهم الاجتماعية وغير ذلك. وقالت الصحيفة إنه يجب على إسرائيل أن تفكر جيدًا، وإذا لزم الأمر، تستعد لإنشاء بنية تحتية مستقرة لتلك المجتمعات اليهودية التي حصرت في الحدث الدراماتيكي.
وأشارت الصحيفة العبرية الي الهجرة الكبيرة في التسعينيات، حيث غادر أكثر من مليون شخص ممن يحق لهم قانون العودة بالاتحاد السوفيتي السابق، بما في ذلك شريحة واسعة من المثقفين في الاتحاد السوفيتي السابق. وزعمت أن رحيل اليهود الروس في التسعينات، أفاد بشكل كبير وساهم في التطور المتسارع لإسرائيل كدولة بمجالات الابتكار والتكنولوجيا، وأضر بشكل واضح بروسيا وقدرتها التكنولوجية والبشرية.
وألمحت الصحيفة أن الضرر الذي لحق بروسيا عقب هجرة اليهود طال العديد من المستويات، بما في ذلك الاقتصاد والمجتمع والبحث والتطوير، مؤكدة أن الروس لا يريدون تكرار هذا الخطأ اليوم، مشيرة الي أنه لم يتبق في روسيا سوى حوالي 600 ألف شخص يحق لهم تطبيق قانون العودة، ولكن إذا زاد رحيل اليهود الآن، فسيكون ذلك مرتبطًا، صوابًا أو خطأ، باستياء الشعب الروسي من الحرب، واعتبرت أن روسيا تتعلل بقضية الوكالة اليهودية لتكون مبررًا لبحث ملفات أخرى أو التعبير عن امتعاض أو غضب.
التأثير على العلاقات الروسية الإسرائيلية
وصلت العلاقات الروسية الإسرائيلية إلى ذروة التوتر بعد قيام موسكو بالإعلان عن اعتزامها النظر في إغلاق مكتب الوكالة اليهودية في روسيا، فلطالما شهدت الأعوام الأخيرة تقاربًا بين البلدين، تراجع مع بدء الحرب الأوكرانية. وعلى الرغم من محاولات إسرائيل الالتزام بالحياد تجاه الأزمة الأوكرانية في البداية؛ خشية الاصطدام مع روسيا أو الولايات المتحدة الداعمة لأوكرانيا؛ إلا أنها لم تستطع الحفاظ على موقفها، ومع الوقت ظهر التحيز الإسرائيلي للجانب الأوكراني، وهو ما أثار غضب موسكو ورفع من حدة التوتر بين الجانبين.
وكانت بوادر الأزمة قد ظهرت في مايو الماضي عندما أثار وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف ضجة بعد أن أشار إلى أن أدولف هتلر كان جزءًا من اليهود، مما دفع بوتين إلى الاعتذار لإسرائيل. وقد جاء ذلك عقب إدانة يائير لابيد للعدوان الروسي على أوكرانيا، وأدان بوتين بارتكاب جرائم حرب، وتفاقمت التوترات بعد أن تحول لابيد من وزير الخارجية إلى منصب رئيس الوزراء بالوكالة الشهر الماضي بعد حل الكنيست والدعوة إلى إجراء انتخابات برلمانية في الأول من نوفمبر.
وبشكل عام، تثير المواجهة الحالية القلق في أوساط الجالية اليهودية في روسيا التي تشعر بتداعيات المشاعر القومية المتزايدة في أعقاب الحرب، ويغادر العديد منهم البلاد بالفعل، حيث تزايد عدد اليهود الذين غادروا روسيا، ولا يزال هناك الآلاف ينتظرون. وفي هذا الإطار، صرحت وزيرة الهجرة الإسرائيلية، بنينا تامانو شطا، إن حوالي 600 ألف روسي مؤهلون للهجرة إلى إسرائيل، وتقبل إسرائيل أبناء وأحفاد اليهود من غير اليهود.
وهو ما يؤثر على روسيا بشكل سلبي، حيث يشكل هؤلاء قوة انتخابية لا يستهان بها، كما أن من ضمنهم العديد من رجال الأعمال والعلماء والمؤثرين في دوائر صنع القرار؛ إذ يعيش ما يقدر بمليون يهودي في روسيا، وفقًا لاتحاد الجاليات اليهودية في روسيا. لذلك، تكثف الحكومة الإسرائيلية من مساعيها لرأب الصدع الذي برز في العلاقة مع روسيا، والذي بات يهدد مصير الآلاف من اليهود الراغبين في الهجرة إلى إسرائيل.
على الصعيد الآخر، تحاول إسرائيل اتخاذ موقف حذر من أجل الحفاظ على العلاقات مع موسكو التي تدرك أهميتها من أجل الحفاظ على قدرة إسرائيل على تنفيذ ضربات جوية في سوريا، حيث توجد القوات الروسية، أما بالنسبة للساحة الداخلية، فإن توجه روسيا إلى حل الوكالة اليهودية سيشكل ضربة قاسية لرئيس الوزراء الإسرائيلي الذي ينتظره استحقاق انتخابي مصيري، مع الأخذ في الحسبان تزايد الانتقادات في الأوساط الإسرائيلية لسياساته المنجرة خلف الولايات المتحدة والتي تهدد الأمن القومي الإسرائيلي، وارتفعت الأصوات التي تقارن بين لابيد ونتنياهو الذي حافظ على علاقات متينة مع الولايات المتحدة دون المجازفة بعلاقته مع روسيا.
إجمالًا، فإن مجرد إعلان روسيا أنها بصدد إغلاق الوكالة اليهودية يشكل تهديدًا كبيرًا على إسرائيل، ويعد بمثابة رسالة تحذيرية لحكومة لابيد للتراجع عن موقفها الداعم لأوكرانيا لتنبيهها بما تحمله علاقتها مع روسيا من أهمية، وتؤكد من خلالها أن إسرائيل هي الطرف الأضعف الذي قد تكلفه سياسته المتحيزة خسائر باهظة. ويرجح أن تبذل إسرائيل كل الجهد لحل الأزمة دبلوماسيًا لوقف حدة التصعيد مع روسيا في أقرب وقت قبل أن يسفر هذا التصعيد عن انفجار الأوضاع في قضايا رئيسة تهدد الأمن القومي الإسرائيلي، سواء فيما يخص التنسيق في الأجواء السورية أو تعزيز التهديد الإيراني أو المساس بالتعاون العسكري بين البلدين، هذا بالإضافة إلى تهديد وضع الجالية اليهودية وما سيترتب على ذلك من خسائر حال تم إغلاق مكاتب الوكالة بشكل فعلي.
.
رابط المصدر: