لم يقر الكونغرس الأميركي الموازنة في الوقت المحدد منذ سنة 1996، ويمضي العديد من الأعضاء وقتا أطول في التأنق والتماس إعجاب الآخرين بدلا من التشريع. مع ذلك، فإن لجنة الطاقة والتجارة في مجلس النواب الأميركي صوتت بداية الشهر المنصرم بالإجماع (50 صوتا مقابل لا أحد) على مشروع قانون يمنح الرئيس فعليا سلطة إجبار “بايت دانس”، الشركة الأم لتطبيق “تيك توك”، على التخلي عن سيطرتها على عملياتها في الولايات المتحدة أو مواجهة حظر التطبيق. وأقر مجلس النواب بأكمله مشروع القانون بعد أقل من أسبوع بغالبية 352 صوتا مقابل 65 صوتا.
لكن هذه السرعة يجب أن تجعلنا نفكر مليا. فالسؤال عما يجب أن نفعله في شأن “تيك توك” يتوقف على ما يفعله “تيك توك” بالفعل. ولم يتم التوصل حتى الآن إلى أدلة على وجود خطر واضح ومباشر. وفي الوضع الحالي، لا يعد حظر “تيك توك” سياسة سيئة فحسب، وإنما قرار أجوف أيضا. فهو لن يجعل الولايات المتحدة أكثر أمانا، وسيتيح للموجودين في الحكومة – سواء في أوساط مسؤولي الأمن الوطني أو الكونغرس – التظاهر بأنهم يفعلون شيئا ما من دون فعل الكثير لمعالجة المشكلات الحقيقية المتعلقة بالبيانات والخصوصية والتأثير الأجنبي.
الحجة الرئيسة للأمن الوطني لإجبار “تيك توك” على البيع لمالك أميركي أو مواجهة حظر فعلي، هي أن القوانين الصينية تلزم “بايت دانس” تسليم بيانات المستخدمين إلى الحكومة الصينية عند الطلب. وذلك يقود إلى مخاوف من أن بيانات المستخدمين ربما توفر وسيلة للحزب الشيوعي الصيني لممارسة مراقبة جماعية على الأميركيين، وتمكّن الحزب من استخدام الخوارزميات (وربما استخدمها بالفعل) التي تشغّل “تيك توك” للتلاعب بالرأي العام في الولايات المتحدة، بما يلحق الضرر بالديمقراطية الأميركية والمجتمع المدني، ومن ثم جعل كفة الحرب الباردة الناشئة بين الصين والولايات المتحدة تميل لصالح الصين.
ليس لديك أي خصوصية، تقبّل الأمر
سكوت ماكنالي، أحد رواد تكنولوجيا الإنترنت المبكرين
تستند كل من هذه الحالات إلى أدلة ضعيفة للغاية. والأهم من ذلك أن كل التهديدات المذكورة تقريبا تتعلق بما يحتمل أن يفعله “تيك توك” وليس بما فعله أو يفعله.
أولا، نعم، القانون الصيني يلزم الشركات تسليم البيانات. ومع ذلك، يمكن القول إن كل حكومة تستطيع الاستيلاء على بيانات المستخدمين من طريق قوانين تخول الشرطة المحلية أو أي جهاز لجمع المعلومات الاستخباراتية الخارجية (يشمل ذلك في الولايات المتحدة مكتب التحقيقات الفيديرالي “إف. بي. آي.” للقضايا الداخلية، ووكالة الاستخبارات المركزية “سي. آي. إيه.” ووكالة الأمن الوطني للاستخبارات الخارجية، مع أن الخطوط الفاصلة تكون مبهمة في بعض الأحيان). لكن في وسع الشركات في الولايات المتحدة غالبا مقاومة المطالبات الأولية بتسليم البيانات، مع أن المحاكم تستطيع أن تلزمها ذلك. ولا يوجد مثل هذا الملاذ في الصين.
ونعم، اضطرت “بايت دانس” بالضرورة إلى الانحناء للحزب الشيوعي الصيني، وذلك موقف لا يسعها هي أو أي شركة صينية أخرى إلا أن تتخذه. لكن “تيك توك” ردت بأن بياناتها غير مخزنة في خوادم يستطيع الحزب الشيوعي الصيني الوصول إليها، بل في خوادم شركة “أوراكل” في الولايات المتحدة، مع أنها قالت أيضا إن بعض البيانات التي يقدمها منشئو المحتوى تخزن في الصين.
أما عن القلق الذي عبّر عنه جون كيربي، الناطق باسم الأمن الوطني في البيت الأبيض، “في شأن أمن البيانات وما يمكن أن تفعله “بايت دانس” والحزب الشيوعي الصيني بالمعلومات التي يمكنهم جمعها من استخدام الأميركيين للتطبيق”، فمبالغ فيه بعض الشيء. يجب ألا تكون القضية في جوهرها أن “تيك توك” ملزمة تسليم البيانات إلى الحزب الشيوعي الصيني، وإنما هل تلك البيانات خصوصية حقا، وهل يستطيع الحزب الشيوعي الصيني الحصول عليها بغض النظر عما إذا سلمتها “بايت دانس” برضاها أم لا.
سوق البيانات والأرباح
تجمع مختلف أنواع التطبيقات بيانات المستخدمين باستمرار، من منصات التواصل الاجتماعي إلى المؤسسات المالية. وتتمتع تلك البيانات ببعض الحماية بالتأكيد، ومعظمها نزعت عنها هوية أصحابها.
إن شركات خاصة تجمع كثيرا من البيانات بفاعلية كبيرة، حتى أن جهات حكومية تشتريها منها سرا في كثير من الأحيان بدلا من إنفاق الأموال على جمعها ومقارنتها بنفسها
تقرير حديث لصحيفة “وول ستريت جورنال”
ولكن كما يعلم أي شخص في منظومة استخراج البيانات، يمكن أن تجعل وفرة بيانات المستخدمين تلك الحماية بعدم الكشف عن الهوية عديمة الفائدة تقريبا، وهناك بالتأكيد سوق خاصة قوية لتلك البيانات. فجني الأموال من بيانات المستخدمين هو نموذج أعمال لعدد كبير من شركات التكنولوجيا، ومن أسهل الطرق بيعها لأشخاص آخرين.
كل التطبيقات والشركات تجمع البيانات
وأظهر تقرير حديث لصحيفة “وول ستريت جورنال” بوضوح شديد، أن شركات خاصة تجمع كثيرا من البيانات ويتم جمعها بفاعلية كبيرة – حتى أن جهات حكومية تشتريها منها سرا في كثير من الأحيان بدلا من إنفاق الأموال على جمعها ومقارنتها بنفسها.
إقرأ أيضا: إبادة “تيك توك” في أميركا مطلب إسرائيلي
يرجع كل شيء إلى ما قاله سكوت ماكنالي، أحد رواد تكنولوجيا الإنترنت المبكرين، في الأيام الأولى لثورة تكنولوجيا المعلومات: “ليس لديك أي خصوصية. تقبّل الأمر”. فبيانات المستهلكين تتمتع بأقل قدر من الحماية الشاملة للخصوصية في العالم، سواء جمعتها “فيسبوك” أم “تيك توك” أم “أمازون” أم “سناب شات” أم “وول مارت”، أم غيرها. بل إن الحصول على الميزات والبيانات المالية – على الأقل في شكل مجهول الهوية يمكن تتبعه غالبا إلى أفراد محددين أسهل بكثير مما يرغب معظمنا في التفكير فيه.
علم الولايات المتحدة الأميركية مع شعار “تيك توك”، 20 مارس 2024.
إن الاعتقاد بأن بيانات مستخدمي “تيك توك” تتفرد بتعرضها للشفط على يد الحكومة الصينية يتعارض تماما مع الواقع، إذ يمكن أن تشفط الشركات الخاصة والحكومات على السواء معظم بياناتنا. و”تيك توك” ليست فريدة من نوعها في ذلك.
لذا فإن حظر “تيك توك” أو إجبارها على البيع، لن يزيد كثيرا من صعوبة حصول وكالات التجسس الصينية على تلك البيانات إذا أرادت، إما بشرائها من شركات خاصة وإما بجمعها بنفسها. صحيح أن ذلك ربما يجعل الأمر أكثر صعوبة في ما يتعلق بالوقت أو التكلفة، لكن زيادة الوقت أو التكلفة لا تكفي لتبرير إحداث توتر حقيقي.
إذا كان القلق يتعلق بالتجسس وأمن بيانات المستهلكين التي يمكن جمعها من مستخدمي “تيك توك”، فستكون هناك حاجة إلى تشريع أشد صرامة لكل وسائل التواصل الاجتماعي وشركات البيانات
ولن يجعل ذلك بيانات المستخدمين الأميركيين أكثر أمانا بشكل ملحوظ. فلو كان الحزب الشيوعي الصيني شركة خاصة ذات موارد محدودة، لشكلت زيادة الوقت والتكلفة حاجزاً أمنيا يحول دون الحصول على بيانات المستخدمين الأميركيين. لكن الحزب الشيوعي الصيني يدير حكومة، ويستطيع إذا أراد الحصول على البيانات بأي وسيلة ممكنة. ولن يغير مشروع القانون هذه المعادلة.
باختصار، إذا كان القلق يتعلق بالتجسس وأمن بيانات المستهلكين التي يمكن جمعها من مستخدمي تطبيق “تيك توك”، فستكون هناك حاجة إلى تشريع أشد صرامة لكل وسائل التواصل الاجتماعي وشركات البيانات للبدء في إحداث تغير ملحوظ.
نعم، يعتقد بعض الأشخاص أن وجود تطبيق “تيك توك” على هاتفك شبيه ببرمجية تجسس صينية يمكنها تفعيل كاميرا سرا، وسرقة بريدك الإلكتروني، وحتى الوصول إلى اتصالات واتساب وآي مسج المشفرة. لم يثبت أي من ذلك، ولم يشهد من حضروا إحاطات سرية للمشرعين بأن أي وكالة استخبارات أميركية قد تحققت من صحة هذه المخاوف، مع أن كل تلك الوكالات منعت استخدام تطبيق “تيك توك” في هواتف موظفيها.
مؤيدو “تيك توك” يحملون لافتات لدعم التطبيق خارج مبنى الكابيتول الأميركي في واشنطن في 13 مارس 2024
هل هذه البرمجيات التجسسية عبر التطبيق ممكنة من الناحية التقنية؟ ربما، ولكن ذلك يعيدنا إلى أنه إذا كان في وسع “تيك توك” القيام بذلك، ففي إمكان تطبيقات كثيرة أخرى القيام به أيضا. ومن السهل نسخ البيانات وبيعها، أيا كان من يجمعها في الأصل.
هل يأمر الحزب الشيوعي “بايت دانس” فعلا؟
القضية الأخرى هي هل في وسع الحزب الشيوعي الصيني أن يأمر “بايت دانس” بالتلاعب بخوارزميات التغذية لغرس بذور الفوضى في الرأي العام الأميركي أو هندسة نتائج وقرارات لصالح الصين على حساب الولايات المتحدة؟
المعيار المرجعي المعتاد لهذا القلق هو الاعتقاد بأن روسيا استغلت وسائل التواصل الاجتماعي لتعكير صفو انتخابات الرئاسة الأميركية في سنة 2016، ومن ثم تستطيع “تيك توك” القيام بذلك بفاعلية أكبر في المستقبل. لكن ذلك يفترض: أ- أن الخوارزميات تستطيع أن تفرض بصورة فعالة نتيجة من احتمالين أو نتيجة محدّدة في عالم مقاطع فيديو الحيوانات الأليفة والطبخ والكوميديا والمواعدة وسواها. ب- أن من السهل نسبيا هندسة نتائج محددة.
قدم الجمهوريون في الكونغرس انحياز المحتوى ضد إسرائيل لصالح الفلسطينيين في “تيك توك” بمثابة دليل، لكن اتضح ان هذا موقف الشباب
وهناك قلق أيضا من أنه يمكن فعليا فرض رقابة على المعلومات لأغراض سياسية، أو أن الخوارزميات يمكن أن تخفي بعض الأفكار أو مقاطع الفيديو. وقد قدم الجمهوريون في الكونغرس انحياز المحتوى ضد إسرائيل لصالح الفلسطينيين في “تيك توك” بمثابة دليل، لكن اتضح بعد تحليل أعمق أن التحيز يتبع عن كثب مواقف الفئات العمرية الشابة التي تستخدم التطبيق.
هناك بعض الأدلة على أن “تيك توك” قللت قبل سنة 2020 ظهور مقاطع الفيديو المناهضة للحزب الشيوعي الصيني، لكن هذا النمط أصبح أقل وضوحا منذ تكاثر الاستخدام. ومن الصعب جدا إخفاء المحتوى الذي يريد الناس رؤيته بوجود كثير من المستخدمين.
طرح آخرون فكرة أن الخوارزميات لم تبلغ بعد التطور الكافي للتلاعب بشكل فعال بالاتجاهات والسلوكيات العامة على طريقة غسيل الأدمغة الجماعي كما في فيلم “مانشوريان كانديدت” (Manchurian Candidate )، لأن تلك الأدوات لا تزال بدائية نسبيا مقارنة بما ستكون عليه في عالم البيانات المقبل قريبا الذي يعتمد على الذكاء الاصطناعي. ومن ثم علينا قطع “تيك توك” عن التهديد الصيني الآن، في حين لا تزال القدرات في مهدها.
إذا حدث ذلك، فسيحتاج الأميركيون إلى تدابير وقائية محلية وقوانين وتقنيات أشد بكثير للحماية من كثير من التهديدات المحتملة للخصوصية والديمقراطية والأمن التي لن يفعل تغيير ملكية “تيك توك” شيئا للتخفيف منها.
إن حظر “تيك توك” لن يجعلنا أكثر أمانا في مواجهة أي من هذه التحديات. بل إن مشروع القانون سيفعل عكس ذلك تحت ستار الادعاء بأنه يجعلنا أكثر أمانا. سيستخدمه المؤيدون بوصفه دليلاً على اتخاذ خطوات للحماية من سوء استخدام البيانات من قبل جهات فاعلة أجنبية من دون أن يعيق بالفعل قدرة الجهات الفاعلة الأجنبية أو المحلية على إساءة استخدام تلك البيانات. ثمة مشكلات حقيقية في شأن كيفية استخدام بياناتنا الشخصية، ومن يجمعها، وأين تخزن، وكيف تشترى وتباع.
تدفق الأفكار في “تيك توك”
هناك مصاعب خطيرة تعترض محاولة الصين والولايات المتحدة تجاوز الاختلافات الجوهرية في القيم والنظم الحكومية. فتصميم الحزب الشيوعي الصيني على البقاء في السلطة والقضاء على أي معارضة، يعني أن نهجه تجاه حرية التعبير والديمقراطية سيظل مناقضا للغرب. لكن إحدى مصادر القوة المتبقية للولايات المتحدة هي أنها مجتمع مفتوح، تتدفق فيه الأفكار بحرية وليس من السهل التحكم فيها.
إن “تيك توك” واحدة من منصات عدة تتدفق فيها الأفكار – ربما ليس في حرية فوضوية كاملة، لكنها تتدفق بالتأكيد. وذلك أيضا سبب عدم توفر التطبيق في الصين. ربما تبدو إزالتها باسم الأمن خطوة إيجابية في زمن محفوف بالأخطار. غير أنها في الواقع بادرة جوفاء تضحي بالانفتاح من أجل وهم اتخاذ إجراء.
المصدر : https://www.majalla.com/node/314306/%D8%B9%D9%84%D9%88%D9%85-%D9%88%D8%AA%D9%83%D9%86%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A%D8%A7/%D8%AD%D8%B8%D8%B1-%D8%AA%D9%8A%D9%83-%D8%AA%D9%88%D9%83-%D9%81%D9%8A-%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D8%A7-%D9%84%D9%86-%D9%8A%D8%AC%D8%B9%D9%84%D9%87%D8%A7-%D8%A3%D9%83%D8%AB%D8%B1-%D8%A3%D9%85%D8%A7%D9%86%D8%A7-%D8%A8%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%83%D8%B3