مني قشطة
بالتزامن مع مرور عام على القرارات الإصلاحية التي اتخذها الرئيس التونسي “قيس سعيد” في 25 يوليو عام 2021، وحلول الذكري 65 لعيد الجمهورية، أجرت تونس في 25 من يوليو 2022 استفتاءًا دستوريًا على مشروع الدستور الجديد الذي طرحة الرئيس “سعيد” مطلع الشهر الجاري، ليكون -على حد وصفه- بمثابة خطوة نحو بناء جمهورية جديدة تنهي عشرية سيطرت فيها جماعة الإخوان ممثلة في حزب حركة النهضة الإسلامي على مفاصل الدولة. وأظهرت النتائج الأولية للاستفتاء تخطي نسبة التصويت بنعم 94% بعد مُشاركة نحو 2.8 مليون ناخب بما يمثل نحو ٢٧.5% ممن لهم حق الاستفتاء، حسبما أعلنت الهيئة العليا للانتخابات في تونس. ومن المزمع إعلان النتائج النهائية للاستفتاء نهاية يوليو الجاري.
وقد ركز مشروع الدستور التونسي الجديد على التحول بالبلاد من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، وزيادة صلاحيات الرئاسة وتحديد اختصاصات البرلمان، وكذا المحكمة الدستورية، وجعل الشعب مصدر سيادة الوظيفة التشريعية لمجلسين نيابيين هما: مجلس نواب الشعب، والوطني للجهات والأقاليم، فضلاً عن أن الدستور التونسي نص على أن “تونس جزء من الأمة الإسلامية، وعلى الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النّفس والعرض والمال والدين والحرية”، وهو تعديل يمكن اعتباره من أهم التعديلات التي اشتمل عليها الدستور التونسي، إذ أنه يُغلق الباب أمام توظيف الدين سياسياً في تونس، بما يعني المزيد من التحجيم لتيارات الإسلام السياسي.
سياق مضطرب
جرت عملية الاستفتاء على مشروع الدستور التونسي الجديد في ظل سياق يغلب عليه التأزم والتعقيد، على كافة المستويات، وذلك على النحو التالي:
• أزمة سياسية مُحتدمة: جاء الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد في ظل بيئة سياسية تتسم بالاضطراب والاستقطاب بين كافة الاتجاهات التونسية، سواءً بين السلطة التنفيذية ممثلةً في الرئاسة وحكومة “نجلاء بودن” والقوى السياسية والنقابية المختلفة، أو بين قوى المعارضة نفسها.
فمن جانب شهدت العلاقة بين السلطة التنفيذية في تونس والعديد من القوى والاتجاهات السياسية والنقابية حالة من التباين وصلت إلى حد القطيعة والمواجهة، وذلك في ضوء تباين الرؤى إزاء أولويات العمل الوطني في مرحلة ما بعد 25 يوليو 2021، والتحفظات التي طرحتها العديد من القوى التونسية على رؤية الرئيس “سعيد” للإصلاح وتصحيح المسار من أجل تجاوز العشرية السوداء، ففي الوقت الذي يرغب فيه الأخير في الدفع باتجاه تعزيز صلاحيات الرئاسة التونسية، والحد من التداخل الذي كان يحدث بين السلطات، وتحديد اختصاصات المحكمة الدستورية، رأت العديد من القوى التونسية السياسية والنقابية في الجهة المُقابلة أن هذا التوجه يهدد التجربة الديمقراطية في تونس، ويُعطي الرئيس سلطات مطلقة، في مقابل تحجيم السلطات الأخرى، خصوصاً السلطة التشريعية والقضائية، وهي أزمة انعكست على مشاركة هذه القوى في الحوار الوطني وكذا الاستفتاء على الدستور الجديد.
ومن جانب آخر يوجد العديد من التباينات بين قوى المعارضة التونسية نفسها، إذ يمكن تقسيم الاتجاهات المعارضة إلى فريقين، الأول هو حركة النهضة ومن يدور في فلكها خصوصاً ائتلاف الكرامة، ومواطنون ضد الانقلاب، وجبهة الخلاص الوطني، وهو اتجاه يعارض سياسات الرئيس قيس سعيد على طول الخط، انطلاقاً من الرؤية القائمة على أنه أطاح بمشروع الإسلام السياسي في تونس، واتجاه آخر تعبر عنه أحزاب الدستوري الحر والتيار الديمقراطي والجمهوري والتكتل والعمال، وكذا الاتحاد التونسي العام للشغل، وهو اتجاه يرى أن الرئيس قيس سعيد تبنى مساراً “منفرداً” غابت عنه “التشاركية”، وأقصى القوى المدنية المختلفة بما فيها المؤيدة لمسار 25 يوليو والمناهضة لحركة النهضة. والملاحظ أن حركة النهضة وحلفاؤها حاولوا استقطاب الاتجاهات المدنية والنقابية المعارضة، لكن هذه المحاولات باءت بالفشل في ضوء التعارض الجوهري بين رؤى الاتجاهين، وتحميل الاتجاه الثاني المعارض حركة النهضة مسؤولية الأوضاع التي وصلت إليها البلاد، والإطاحة بالمكاسب الديمقراطية.
• تفاقم الأزمة الاقتصادية: بالإضافة إلى الأزمة السياسية الحادة التي تواجه الدولة التونسية، يوجد أيضاً الأزمة الاقتصادية التي تتفاقم مؤشراتها يوماً بعد يوم، وهي المؤشرات التي كان آخرها خفض وكالة “فيتش” للتصنيف الائتماني في تقرير لها مطلع الشهر الحالي، تصنيف تونس من “التحسن إلى الحياد”، فضلاً عن مواجهة تونس لعجز في الموازنة قدره 9 مليارات دينار (3 مليارات دولار)، إضافة إلى حاجات لتعبئة موارد خارجية قدرها 10 مليارات دينار (3.33 مليار دولار) لخدمة الدين في السنة الحالية، فضلاً عن ارتفاع معدلات التضخم إلى 6.6%، الأمر الذي دفع بعض التقديرات إلى الإشارة إلى احتمالية تخلف تونس عن سداد ديونها.
• مخاوف من انفجار الوضع الاجتماعي: انعكست تبعات الأوضاع السياسية والاقتصادية السيئة في تونس كذلك على الوضع الاجتماعي الذي وصفته بعض التقديرات بأنه على وشك الانفجار. وفى هذا الصدد، أشار وزير الشؤون الاجتماعية التونسي “مالك الزاهي” في تصريحات صحفية في مارس 2022 إلى عمق الهشاشة الاجتماعية في البلاد وتعمق معضلة الفقر الذي أضحى يلتهم 4 ملايين تونسي، وعلى إثر هذه الأوضاع والتأزم الاقتصادي الاجتماعي الذي تعيشه البلاد، تظاهرت العديد من الفئات الشعبية احتجاجاً على تردي الظروف المعيشية، الأمر الذي دفع المرصد التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلى التحذير في أكثر من مناسبة من إمكانية حدوث انفجار اجتماعي في البلاد.
• التهديدات الأمنية: تأتي عملية الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد في الوقت الذي تصاعد فيه الحديث مؤخرًا عن تزايد التهديدات والمخاطر الأمنية التي تستهدف استقرار الدولة التونسية، وهي التهديدات التي امتدت أواصرها إلى القيام بمحاولات فاشلة لاستهداف الرئيس “قيس سعيد” وعدد من المسؤولين وبعض المؤسسات الحساسة بالدولة، فضلًا عن قيام قوات مكافحة الإرهاب منذ مطلع العام الجاري بتفكيك العديد من الخلايا التابعة لتنظيم داعش الإرهابي واحباط مخططاتها لتنفيذ هجمات دامية على الأراضي التونسية.
دلالات مهمة
تنطوي النتائج الأولية للاستفتاء على التعديلات الدستورية الجديدة في تونس على جملة من الدلالات، كالتالي:
تعكس النتائج الأولية للاستفتاء تعثر مشروع الإسلام السياسي في تونس، حيثُ تحمل النسبة الكبيرة التي حصل عليها خيار نعم للدستور (94%) في طياتها رسالة شعبية رافضة لسياسات جماعة الإخوان التي يمثلها حزب حركة النهضة، بعدما أظهرت حكومتهم السابقة عجزًا عن إدارة الأزمات السياسية والاقتصادية الأمر الذي تجسد في حالة الجمود السياسي والاحتجاجات الشعبية الواسعة وتردي المؤشرات الاقتصادية بحيث سجلت معدلات البطالة – على سبيل المثال – حوالي 18% وسط ارتفاع معدل التضخم وفشل التعامل مع الفساد المستشري بجميع أنحاء البلاد، بما في ذلك داخل صفوفهم.
تُشير نسبة المشاركة بنعم في الاستفتاء على الدستور الجديد إلى رغبة العديد من القطاعات التونسية في إرساء حالة من الاستقرار ودعم جهود بناء مؤسسات الدولة والبدء في وضع حلول للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المُتفاقمة. كما أنها تُضفي شرعية على مسار 25 يوليو والخطوات الاستثنائية للرئيس “سعيد” والتي بدأت بإعلانه العام الماضي عن تجميد أعمال واختصاصات البرلمان، ورفع الحصانة عن كافة أعضائه، وإعفاء رئيس الحكومة “هشام المشيشي” من منصبه، وتولي الرئيس السلطة التنفيذية ورئاسة النيابة العمومية حتى تشكيل حكومة جديدة، وصولًا إلى الإعلان عن مشروع الدستور الجديد والاتجاه نحو وضع قانون انتخابي وإدخال إصلاحات كُبري على الاقتصاد والتربية ومجالات أخري بما يحقق مطالب الشعب التونسي.
تعكس النتائج الأولية للاستفتاء فشل دعوات التكتلات والتحالفات السياسية المناهضة للتعديلات الدستورية الجديدة والتي تنوعت ما بين الدعوة إلى المشاركة في الاستفتاء والتصويت ب “لا” على النصوص الجديدة، وما بين الدعوة إلى الامتناع عن المشاركة في الاستفتاء بالأساس، بزعم أن التعديلات الجديدة تمثل عودة لما قبل ثورة الياسمين (ديسمبر 2010)، وانتقاصًا من الحقوق والحريات المنصوص عليها في دستور عام 2014، إلا أن هذه الدعوات لم تؤت ثمارها في عرقلة عملية الاستفتاء وثني القطاعات التونسية عن التصويت بنعم على التعديلات الدستورية الجديدة.
ماذا بعد استفتاء 25 يوليو؟
يدفع تمرير مشروع الدستور التونسي الجديد باتجاه استمرار مسار التصحيح الذي تبناه الرئيس “قيس سعيد” لبناء الجمهورية التونسية الجديدة، لذا من المتوقع أن تشهد البلاد في الفترة المقبلة، تحولاً نحو النظام الرئاسي، فضلاً عن البدء في سن مجموعة من التشريعات التي تحتاجها البلاد في الفترة المقبلة خصوصاً قانون الانتخابات، والبدء في الاستعداد للانتخابات التشريعية المقبلة، وبشكل عام سيشكل تمرير الدستور دفعة قوية للرئيس قيس سعيد للاستمرار في مشروعه.
على الجانب الآخر من المحتمل أن تشهد الساحة التونسية في الفترة المقبلة تحركات تصعيدية من قبل بعض القوي والتكتلات المعارضة وهذا التصعيد قد يكون قضائيًا لا سيما في ظل التشكيك في نتائج الاستفتاء وفي استقلالية الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. أو ميدانيًا عبر تأجيج الاحتجاجات الرافضة للاستفتاء، وقد تلجأ بعض القوي وعلى رأسها حركة النهضة لممارسة بعض أعمال العنف للضغط من أجل الحصول على مكاسب سياسية.
.
رابط المصدر: