محمد محفوظ
حيث وجد الإنسان، وجدت التنمية، وحيث غاب الإنسان تغيب بالضرورة التنمية. وذلك لأن التنمية بوصفها مشروعات وآليات وتوجيهات هي من خصائص الإنسان وحدة.. أي أن الأنساق التي تتجه إلى تعظيم الإمكانيات أو تنمية القدرات، لا يقوم بها إلا الإنسان..
وعلية فإن المشروعات السياسية التي تمتهن الإنسان و كرامته، أو تنتقص عبر إجراء اتها المتعددة من إنسانيته، لا تستطيع من الناحية الواقعية، مهما رفعت من يافطات وشعارات من تحقيق التنمية. وتكثير الكلام والخطب حول التنمية ومشروعاتها وآفاقها، لا يخلق تنمية.
كما أن المشروع السياسي الذي يسقط من حساباته إنسانية الإنسان، أو لا يعمل على تعزيز حقوق الإنسان، فإن هذا المشروع مهما أوتي من إمكانات وقدرات، فإنه
لن يستطيع من بناء تنمية مستديمة ومتوازنة… فالتنمية لا يحققها إلا الإنسان، وحينما يغيب هذا الإنسان، فإن الشعارات بوحدها لا تنجز تنمية، والادعاءات لاتبني واقعا جديدا.. فالشرط الشارط لإنجاز مفهوم التنمية في المجتمعات الإنسانية، هو وجود الإنسان، الذي يشعر بعمق بحريته وحقوقه ويمارس إنسانيته، هو الإنسان القادر على تنمية القدرات وتعظيم الطاقات والإمكانيات..
وحينما يغيب هذا الإنسان، تغيب الإمكانية الفعلية للتنمية المستدامة.
ولعل هذا ما يفسر لنا إخفاق الكثير من مشروعات التنمية في بلداننا العربية والإسلامية.. فهذه البلدان تمتلك كل المواد الخام والثروات الطبيعية التي تمكنها من تحقيق تنمية عظيمة على الصعد المختلفة ولا لكن وبفعل غياب الإنسان وحقوقه وحريته، فإن هذه المواد والثروات، تضيع في أغلبها سدى، ولا يمكن الاستفادة القصوى من هذه الخيرات والبركات. وحين التأمل العميق في هذه المفارقة، حيث الامكانات الهائلة ويقابلها غياب التنمية المستدامة، نجد إن غياب الإنسان بحريته وحقوقه، هو المسئول الأول عن غياب التنمية الحقيقية في هذه البلدان.
فالإمكانيات الطبيعية و المادية بوحدها لا تخلق تنمية، وعمليات استيراد كل سلع الحضارة والاستهلاك، لا تنتج تنمية بل كلها مظاهر تؤكد غياب التنمية المستدامة في هذا البلد أو ذاك.. فحجر الزاوية في مشروعات التنمية هو الإنسان بحقوقه وحرياته، فهو القادر على تحويل المواد الخام إلى مشروعات تنموية عملاقة، كما إنه هو القادر على تذليل كل الصعاب التي تحول دون انطلاق مشروعات التنمية الشاملة.
وعليه فإن تغييب حريات الإنسان وحقوقه من الفضائين السياسي والاجتماعي، لا يخلق تنمية مستدامة، حتى لو توفرت كل المواد الخام والإمكانيات المادية. وذلك وببساطة شديدة، لكون الإنسان هو الذي يدير هذه المواد والإمكانيات، ويحولها إلى مشروعات وحقائق تنموية. وحينما يكون هذا الإنسان مكبل وتزداد عليه القيود من كل حدب وصوب، فإن إمكانياته الإبداعية وقدراته الإدارية ستتراجع. فالإنسان في المجالين العربي والإسلامي، ليس أقل عقلا من الإنسان في المجتمعات المتقدمة،ولكن ما يميز الإنسان في المجتمعات المتقدمة عن الإنسان في المجتمعات العربية والإسلامية، هو أن الإنسان في تلك المجتمعات يشعر بعمق بحريته وله كامل الحق بممارسه كل حقوقه الخاصة والعامة، لذلك هو ينطلق ويبدع في مجالات البناء والتنمية.
أما الإنسان في المجتمعات العربية و الإسلامية، فإنه يشعر بالقيود المتعددة، ولا يمارس إنسانيته وحريته على أكمل وجه، لذلك هو مشغول بمحنه الذاتية، ومن ينشغل بأوضاعه الخاصة، وتضغط عليه سلبا لن يتمكن من الإبداع والتميز في عمله العام..
لذلك فإن الخطوة الأولى للإنطاق في مشروعات تنموية حقيقية في البلدان العربية والإسلامية، هي إعادة الاعتبار للإنسان وجودا وفكرا وحقوقا، وتعزيز كل هذه العناصر في إطار مؤسسي، يشعر فيه كل إنسان بالاعتزاز والقدرة على التعبير عن آراءه وأفكاره وإبداعاته.
هذه هي الخطوة الأولى التي تعيد صياغة العلاقة بين الإنسان ومشروعات التنمية…فالتنمية لا تستورد ولا تستنسخ، وإنما هي بحاجة إلى الإنسان الذي يحمل همها وعبئها في آن. بحاجة إلى الإنسان الذي يحول الخطط إلى حقائق.
بحاجة إلى الإنسان الذي يخلق واقعا اجتماعيا، دافعا نحو البناء والعمران، ومحاربا لكل أشكال الكسل والترهل والجمود..
فإذا أحسنا صياغة العلاقة بين إنسان هذه المنطقة والتنمية وحاجاتها ومتطلباتها المتعددة، حين ذاك ننطلق في رحاب البناء المفتوح على كل المبادرات والطاقات، والقادر على دمج كل القدرات في سياق مشروع تنموي متكامل..
وعليه فإن إدراك تحولات العالم وتطوراته، لا يكفي للانخراط الفعال في شؤون العصر وقضاياه الملحة.. وإنما من الضروري أن يرافق هذا الإدراك والاستيعاب، تجديد رؤيتنا وفهمنا لذواتنا وإنسان هذه المنطقة.
لأن تجديد رؤيتنا لهذه العناصر، والالتزام بمقتضيات هذا التجديد، هو سبيلنا لتجاوز حالة الشعور بالعجز وانعدام القدرة أمام التحولات الهائلة التي تجري في العالم على مختلف الصعد والمستويات…
لذلك فنحن مع كل خطوة ومبادرة، تعزز موقع الإنسان في مشروعات البناء والتنمية، وندرك بعمق أنه لا تنمية مستدامة، بدون إنسان مكتمل الإنسانية والحقوق….
فالتنمية بوصفها مشروعات اقتصادية عملاقة، وبنية خدمية متكاملة، وخطط اجتماعية متواصلة، لا يمكن أن تنجز على الصعيد الواقعي، بعيدا عن العامل البشري ـ الإنساني. لأن هذا العامل هو الذي سيترجم وينفذ كل هذه المشروعات والخطط، وغياب حقوق الإنسان الأساسية، سيحوله إلى منفذ سيء لهذه المشروعات والخطط، أو في أحسن الفروض سيحوله إلى عنصر فساد وإفساد، يعمل لمصلحة الشخصية، وسيوظف موقعه في هذه المشروعات للإثراء اللامشروع..
لهذا فإننا نجد وفي الكثير من الدول العربية والإسلامية، أن الكلفة الحقيقية للمشروع لا تتجاوز (10) ملايين إلا أن الميزانية المصروفة على هذا المشروع هي أكثر بكثير من رقم (10) ملايين.. فهذه الزيادة هي عمولات ورشوات ومحسوبيات وسرقات.. والأنكى من ذلك أن المشروع لا ينفذ وفق المواصفات المطلوبة.. فالذي يسرق المال العام، لن يجتهد في توفير أسباب النجاح الحقيقية للمشروع الذي يقوم به.
وعليه فإن إصلاح وضع الإنسان، وتوفير ضرورات عيشه الكريم وصيانة حقوقه الأساسية، كلها من الضرورات القصوى لعملية النجاح والتميز في مشروعات البناء والتنمية. فالتنمية قبل أن تكون تنمية للجدران والشوارع والخدمات، هي تنمية إلى الإنسان في وعيه وحريته وحقوقه.. وأي تراجع على هذا الصعيد، سينعكس سلبا على الجانب المادي للتنمية.. والمجتمعات التي بحثت عن الجوانب المادية للتنمية دون الالتزام بحقوق الإنسان وكرامته، لم تجن إلا المزيد من العذابات والكوارث الاجتماعية والإنسانية.. فالمباني شاهقة والشوارع واسعة والخدمات في جلها متوفرة، إلا أن الإنسان بإنسانيته ووعيه وحقوقه غائب أو مغيب..
ولعل أحد أسباب ذلك هو التعامل مع مفهوم التنمية تعاملا أيدولوجيا مغلقا، لا عمل لنا إلا استنساخ هذه التجربة، متغافلين عن تمايز الأوضاع والظروف والخصوصيات.. ” ويعتبر الاقتصاد مميز مركزي في التجربة الحضارية الغربية، فهو عصب حياة الإنسان التي تحددت في شبكة علائقية ثلاثية الأضلاع: علاقة الإنسان بذاته وعلاقته بـ “الآخر ” وعلاقته بالطبيعة. أما علاقة الإنسان بذاته، فالاقتصاد الغربي ينظر إليها من زاوية كون الإنسان كائن غرائزي، وأن بقاءه متوقف على إشباع حاجاته الغريزية. وبما أن تلبية هذه الحاجات غير مضمونة لشراهته من جهة، وشح الطبيعة من جهة ثانية، وجب عليه أن يستنفر كل قواه ويطور قدراته حتى يشبع حاجاته بشكل مستمر، وهذا ما جعل الإنسان يتحول إلى قوة عمل استثنائية، يستمد منها هوية ذاته، حيث تحدد بوصفه ” كائنا عاملا “.
إنه بعمله يطوع الطبيعة لينخرط في مسلسل الإنتاج، كما أن قوة العمل هذه جعلت منه كائنا ” اقتصادا نيا “، ومن ثم فهو أحد إثنين: إما منتج أو مستهلك، لا تحركه إلا نوازعه النفعية، وبهذا المعنى يصبح الإنسان وسيلة للتنمية وليس غاية لها. أما علاقة الإنسان بالإنسان “الآخر” فمحكومة بالعلاقة الأولى، أي علاقة الإنسان بذاته. فكل ذات بحاجاتها اللامحدودة، تجد نفسها مقيدة في طموحها من أجل الإشباع، ومحصورة بطموحات الذات الأخرى.
وبما أن الإشباع غير محدود، وتلبية الحاجات غير مضمونة، فإن التصارع والتنافس والنفعية بين هذه الذوات هو اللغة السائدة والناظمة لتلك العلاقة. ألم يكن توماس هو بز سباقا إلى التنظير لهذه اللغة عندما نعتها بـ ” حرب الجميع ضد الجميع “، واعتبر ” الإنسان ذئبا للإنسان الآخر “. أما بخصوص علاقة الإنسان بالطبيعة، فهي تنحدر بدورها من التصور الأول لعلاقة الإنسان بذاته. فالطبيعة التي ينظر إليها كمقابل للإنسان تمتلك مصادر إشباع حاجاته، ولكنها ممتنعة ومستعصية. ومن ثم، فالحصول على ما يلبي رغباته لن يكون تكرما من الطبيعة، بل انتزاعا بالقوة، كيف لا ومصدر بقائه رهين بيد الطبيعة؟ لذلك يكد الإنسان من أجل أن ينتصر على الطبيعة، وذلك بإخضاعها والتحكم فيها. وتلك هي طبيعة العلاقة في منظورها الليبرالي، ألم يشترط ديكارت ضرورة أن يصبح الإنسان ” سيدا ومالكا للطبيعة ” لتحقيق إنسانيته”(1) فالتنمية ليست لهاثا متواصلا للمنفعة بكل أشكالها، بعيدا عن القيم والضوابط.. كما أنها ليست دحرا لخصوصيات المجتمع أو تجاوزا لحقوق الإنسان الأساسية..
فالتنمية في المجتمعات الإنسانية، بحاجة إلى توافر جملة من العوامل والشروط. وعلى رأس هذه العوامل والشروط، هي الشروط الثقافية والسياسية.. فالتنمية كمنجز إنساني، لا تتحقق على أنقاض ثقافة المجتمع أو على امتهان كرامة الإنسان فيه.. ومن يبحث عن التنمية على هذا الأساس، فإنه سيزيد من محن المجتمع وسيفاقم من امتهان حقوق الإنسان وكرامته، دون أن يصل إلى مطامحه في التقدم والتنمية. فالتنمية بتجلياتها المتعددة، هي حصيلة عقل ووعي وإرادة الإنسان.. وأي خلل في هذه العناصر (العقل ـ الوعي ـ الإرادة).. سينعكس سلبا على مجمل العملية التنموية.. فكلما تقدم الإنسان في وعيه وإرادته وحقوقه، توفرت أسباب النجاح لمشروعات التنمية. أما إذا قمع الإنسان، وقيدت حريته، وامتهنت كرامته، وانتهكت حقوقه، فإنه لن يكون قادرا على إنجاز مشروعات البناء والتنمية.. فالتنمية الحقيقية هي التي تبدأ من تنمية الإنسان عقلا ووعيا وحقوقا وإرادة، وكل جهد يبذل في هذا السياق، هو من صميم الجهود والأنشطة التنموية.
ونحن هنا نفرق بين عمليات النمو وعملية التنمية. فالمجتمعات المتأخرة أو المتخلفة سياسيا وعلى صعيد حقوق الإنسان، لا تعيش تنمية حقيقية بل نموا كميا، لا يصمد كثيرا أمام تداعيات ومتواليات غياب الحرية وحقوق الإنسان.. فالمجتمع الذي لا حرية سياسية لديه، وتنتهك حقوق الإنسان فيه، لا يخرج عن نطاق الحياة الطبيعية. لذلك تتوفر فيه الكثير من مظاهر النمو وسلع الحضارة الحديثة، ولكن هذه المظاهر والسلع، لا تستند إلى عمق مجتمعي وسياسي. فهي أقرب إلى القشور التي لا مضمون لها..
أما المجتمعات التي تصون حقوق إنسانها، وتوفر له سبل ممارسة حريته السياسية والعامة، فإنه حتى ولو كانت مظاهر النمو متواضعة أو محدودة لديه، فإنه إذا أحسن التخطيط واستخدام موارده وإمكاناته بصورة إيجابية، فإنه قادر على إنجاز تنميته المستقلة. لأن المجتمع يعيش الحياة الحقيقية، ويشعر بذاته ويثق بقدراتها وإمكاناتها، ويمتلك القدرة الفعلية للدفاع عن ذاته وخياراتها السياسية والثقافية والاقتصادية. فقوة الأمم والمجتمعات الحقيقية بمواردها الإنسانية قبل مواردها الطبيعية والاقتصادية، لذلك من الضروري أن تتوجه الجهود والإمكانات لتطوير هذه الموارد وتوفير المناخ الملائم لمشاركتها في شؤون المجتمع والأمة. فالثروة المادية بوحدها، لا تخلق تنمية، وإذا لم تسند بتنمية بشرية مستديمة، قد تتحول هذه الثروة من نعمة إلى نقمة، ومن رافعة لعمليات البناء والتقدم، إلى سبب لتكالب الأعداء وتصارع الفرقاء..
إن تنمية الإنسان على المستويات السياسية والثقافية والاجتماعية، هو أحد الشروط الأساسية للاستفادة من خيرات الأرض وثرواتها. وبدونها لن نستفيد إلا من فتاتها، وستأتي الأمم المتقدمة تحت عناوين ويافطات متنوعة،لأخذ هذه الثروات أن نهبها. ” وإن الأنيما المعاصرة التي يعاني منها النمو يجب أن لا تحجب عنا الفوضى المتزايدة في المجتمع الذي لغمه الرأسمال الليبرالي، فهذا الأخير عاجز عن أن يعطي للحياة في المجتمع معنى غير معنى النزوع نحو الإسراف والتبذير واحتكار الموارد الطبيعية، والعائدات الناتجة عن النشاط الاقتصادي، وفي نهاية الأمر التفاوت وعدم المساواة.
إن مخدر النمو هو الأفيون الجديد للشعوب التي تحطمت معاييرها الثقافية وتضامنها الجماعي بهدف إغراقها في هاوية التسليع السحيقة “(2). فبدون التحام التنموي بالإنساني، ستبقى الكثير من الخطوات والمشروعات فوقية، وبعيدة عن النسيج الاجتماعي والثقافي، مما يجعل تأثيرها محدودا وضيقا.. ” وتشكل أزمة هذه النظم جزءا لا يتجزأ من أزمنة النظم المجتمعية العربية التي تكونت بعد الاستقلال، والتي لا تزال مفتوحة منذ عقود نتيجة إخفاقها عموما في مشاريع تحديثها المختلفة، الاشتراكية منها والليبرالية، التي طبقت في العقود الخمسة الماضية. وتتجلى هذه الأزمنة في توقف عملية التنمية أو تراجع معدلاتها بشكل ملحوظ خلال العقدين الماضيين وإفلاس السياسات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والتقنية جميعا والتهميش المتزايد للعالم العربي في الساحة العالمية. بل ليس هناك أي شك في أن أزمة النظم السياسية الأتوقراطية الفردية التي رعت هذا التحديث، في شقيها الأبوي العشائري والبيروقراطي الحزبي معا، هي الوجه الأبرز لهذه الأزمة. وهذا ما يؤكده تدهور شريعة النظم وانهيار الثقة العامة بقدرتها على مواجهة التحديات والمشاكل المطروحة على المجتمعات، وتفاقم الشعور عند السكان بالفراغ السياسي وبالافتقار للقيادة السياسية الحكيمة والقلق على المستقبل وتصاعد التوترات وتفجر النزاعات والحروب الداخلية والإقليمية ونمو تيارات العنف المنفلت في داخل البلاد العربية وخارجها معا. وفي موازاة ذلك تثير مضاعفات هذه الأزمة المتفجرة وإسقاطاتها المحتملة على المصالح الدولية مخاوف الدول الصناعية وتدفعها إلى مضاعفة الضغوط على النظم والتدخل المتزايد في شؤون المنطقة بهدف دفعها نحو التغيير الذي يتفق مع مصالحها أو يحفظها وإحداث تبديل جذري في سلوك الأنظمة المحلية وخياراتها الاستراتيجية “(3).
من هنا نستطيع القول، أن هناك علاقة عميقة بين ظاهرة الاستئثار والاستبداد السياسي وتصحير الحياة السياسية والمدنية وظاهرة الفساد بكل مستوياتها وأشكالها.. فالمجتمع الذي تضمحل فيه الحياة العامة، وتحتكر فيه القرارات المصيرية السياسية والاقتصادية من قبل فئة محدودة، تنتشر فيه حالات الفساد السياسي والمالي. وذلك لأن الاستئثار والاحتكار، يخلق فئات اجتماعية وسياسية واقتصادية طفيلية، لا تعيش إلا على الالتواء والفساد. وتتخذ من تداعيات الاستئثار والاستبداد غطاءا لتمرير انحرافها وفسادها وسرقتها للمال العام وخيرات الأمة والمجتمع. “فالسياسات التي تتبعها سلطات الاستبداد هي دائما سياسيات فئوية تقود حتما، كما تدل على ذلك الوقائع، إلى التخلف في المجالات كلها، لاسيما في مجال تطوير الاقتصاد، وفي المجال الاجتماعي،وفي مجال الخدمات العامة، وفي مجال التعليم، وفي كل ما يتصل برفع مستوى المعارف وتحويلها في ميادينها كافة إلى قوة مادية لصنع التقدم والعدالة في توزيع الثروة وفي أبواب إنفاقها. وفي ظل هكذا سياسة تتسع رقعة الفقر ويزداد عدد الفقراء، وتتلاشى الفئات الوسطى، إذ تنحدر أقسام واسعة منها إلى مواقع الفقراء، وينحسر عدد المالكين للثروة، وهم بمعظمهم من حاشية السلطان، وذلك بالفساد والاستغلال وبالجريمة المنظمة وبكل أنواع الموبقات، وما أكثرها “(4). فحقوق الإنسان كقيم وإجراءات، هي من ضرورات التنمية الشاملة. ومن يبحث عن التنمية فعليه أن يوفر شروطها الثقافية والسياسية. وعلى رأس هذه الشروط هو صيانة حقوق الإنسان. ولا بد من إدراك “طبيعة الترابط العضوي بين حرية الوطن وحرية المواطن ؛ فالأوطان القادرة على مواجهة تحديات الخارج، مهما عظمت، هي الأوطان التي تستند إلى مواطن حر يتمتع بحقوقه وكرامته “(5).
وخلاصة القول: أن التنمية الشاملة في مجتمعاتنا، بحاجة إلى تنمية وصيانة حقوق الإنسان فيها. فهي أحد المداخل الأساسية لإنجاز تنمية مستديمة وشاملة، دون التضحية بحريات الناس وحقوقهم الأساسية.
…………………………..
الهوامش
1/ مجلة المنعطف، مجلة فصلية فكرية ـ عدد مزدوج 23 ـ 24 /2004، صـ4.
2/ المصدر السابق صـ 96.
3/ ندوة ـ أزمة النظام العربي وإشكاليات النهضة ـ ص40،دار الانتشار العربي 2007 بيروت.
4/ المصدر السابق، صـ 61.
5/ المصدر السابق صـ 89.
رابط المصدر: