آنّا كيورلو، ومارك آر. موريس
تحليل جديد للانبعاثات الراديوية القادمة من مواد قريبة من الثقب الأسود الموجود في مركز مجرتنا يسلط الضوء على هذه المنطقة التي لم نستطع رصدها من قبل، ويكشف لنا أن المجال المغناطيسي هناك تحمله معها هذه المواد، التي تدور حول الثقب الأسود، ليتم دورات مكتملة حول الثقب.
تؤوي مجرة درب التبانة في مركزها ثقبًا أسود عظيم الكتلة، شأنها في ذلك شأن أغلب المجرات. وهو الثقب الأسود المهيب «ساجيتاريوس إيه ستار» الذي تفوق كتلته كتلة الشمس بأربعة ملايين مرة. ويعتمد نشاط الثقوب السوداء المركزية على معدل مراكمتها للمواد حولها كي تغذي هذا النشاط. فحين تقترب تلك المواد من أفق الحدث، وهو الحد الذي لا تستطيع بعده هذه المواد أن تفلت من جاذبية الثقب الأسود، فإن السمات التي تظهرها حركتها إلى داخل الثقب تَكشِف عن خواص معينة به، مثل سرعة دورانه المغزلي، واتجاه ذلك الدوران. وفي بحث نُشر مؤخرًا في دورية «أسترونومي آند أستروفيزكس» Astronomy and Astrophysics 1، يفيد الباحث ماتشيك فيلجوس، وفريقه البحثي بنتائج تحليل انبعاثات من الثقب الأسود «ساجيتاريوس إيه ستار»، يفسرونها على أنها تدل على “بؤرة ساخنة” تدور حول الثقب الأسود، في مدارٍ لا يتجاوز نصف قطره خمسة أضعاف نصف قطر أفق الحدث. وهو ما يتيح للباحثين سبر أبعد المناطق داخل تيار المواد المتراكمة حول الثقب الأسود.
ويأتي معظم المواد التي يراكمها هذا الثقب الأسود من الرياح النجمية، التي تَنتج عن نجوم يافعة هائلة الحجم تدور حول الثقب في مدارات قريبة2-4 منه. إلا أن نسبة ما يصل إلى أفق الحدث لا يتعدى حقيقةً واحدًا من الألف من إجمالي ما تدفعه تلك الرياح نحو تيار المواد المتراكمة حول الثقب. أما الباقي، فيُلفظ بعيدًا، بفعل الكم الهائل من الطاقة الحرارية، والحركية، والمغناطيسية، الذي يتولد مع تسارع المواد نحو الثقب الأسود. ونستطيع أن نرصد ما يتبقى ويصل إلى تيار المواد المتراكمة حول الثقب عند الأطوال الموجية الراديوية، والمميزة للأشعة تحت الحمراء، والأشعة السينية. وقد درس فيلجوس وفريقه البحثي الانبعاثات الراديوية المليمترية الآتية من الثقب الأسود «ساجيتاريوس إيه ستار»، المرصودة باستخدام مصفوفة «مرصد أتاكاما المليمتري/دون المليمتري الكبير» (ويطلق عليه اختصارًا «ألما» ALMA) في شمال تشيلي.
وتبين أنه مع اقتراب تلك المواد من أفق الحدث، تكون قد اكتسبت قدرًا هائلًا من الطاقة، حتى إن الكثير من جزيئاتها يتحرك بسرعات تتجلى عندها تأثيرات النسبية (أي تأثيرات اقتراب سرعتها من سرعة الضوء). وحين تتعرض هذه الجسيمات ذات السرعات النسبية للمجال المغناطيسي الذي يولّده تيار المواد المتراكمة، فإنها تصدر إشعاعًا يسمى «الانبعاث السنكروتروني»، وهو تمامًا ما رصده الباحثون. وبطبيعته، يُستقطب هذا الانبعاث، أي أن ذبذباته الموجية تسلك عادةً اتجاهات معينًا. ويتعامد هذا الاتجاه على المجال المغناطيسي القريب لتيار المواد المتراكمة. من هنا، يتيح لنا نمط هذا الانبعاث دراسة هندسة وتركيب ذلك المجال المغناطيسي.
تتغير شدة الانبعاثات المختلفة للثقب الأسود «ساجيتاريوس إيه ستار»، بسرعة بالغة في غضون مدة تتراوح من عدة دقائق إلى عدة ساعات5، وكثيرًا ما تتسم انبعاثاته بفورات (فترات ذروة نشاط)، يمكن أن يتضاعف خلالها سطوعها مائة مرة. ويتسنى لنا رصد هذه الفورات عند الأطوال الموجية المميزة للأشعة تحت الحمراء. وفي أحيان كثيرة، عند الأطوال الموجية المُميزة للأشعة السينية، لكن وضوحها يكون أقل ما يكون عند الأطوال الموجية المميزة للموجات الراديوية6-8. ولا تزال الأسس الفيزيائية وراء هذا النشاط الذي يتوقف على الطول الموجي يكتنفها بعض الغموض. وقد عزى العلماء هذه الفورات إلى آليات عديدة، مثل اضطراب نسق التغيرات السريعة التي تطرأ على تيارات المواد المتراكمة حول الثقب الأسود، وظاهرة تُعرف باسم «إعادة الاتصال المغناطيسي» يمكن أن تتسبب في إطلاق قدر من الطاقة فجأة، فيَنتج عن ذلك بقعة ساخنة مقارنة بمحيطها من المواد المتراكمة9. ومن المحتمل، كتفسير بديل، أن الاضطرابات التي تُسببها الرياح النجمية المتصادمة تكون كُتَلًا من الغاز في تيار المواد المتراكمة. وحين تُسخَّن هذه الكتل بالدرجة الكافية، فإنها تتحول إلى بؤر ساخنة في تلك البقعة، تَكتسب فيها الجزيئات سرعات نسبية فتصدر إشعاعًا سنكرترونيًا.
ومن خلال أولى الصور التي أوردها تعاوُن «تلسكوب أفق الحدث» (ETH) البحثي عام 2022 للانبعاثات الواردة من المنطقة الملاصقة للثقب الأسود «ساجيتاريوس إيه ستار»، بأطوال موجية يصل نطاقها إلى 1.3 ملليمتر، تسنح لنا لقطة عن كثب للغازات المتوهجة المُنتجة لهذه الانبعاثات، والتي سرعان ما يبتلعها الثقب الأسود8. وينسق هذا التعاوُن البحثي جهود مراصد مختلفة في جميع أنحاء العالم. وتُعد مصفوفة مراصد «ألما» من أهم الجهات المشاركة في هذا المشروع الاستثنائي. وقد حلل فيلجوس وفريقه البحثي البيانات التي أسهمت بها مصفوفة مراصد «ألما» ضمن ما رصده هذا التعاوُن البحثي. وركزوا على البيانات التي جُمعت مباشرة بعد فورة من الأشعة السينية الساطعة، رصَدها تلسكوب «تشاندرا» التابع لوكالة «ناسا» في الحادي عشر من إبريل عام 2017 10.
ووجد الفريق البحثي أنه في أعقاب تلك الفورة، فإن اتجاه استقطاب الانبعاث السنكروتروني ظل يتغير باستمرار سالكًا عدة دورات تامة خلال ساعة تقريبًا (الشكل 1). ولم تظهر هذه الدورات في البيانات التي جمعها العلماء قبل فورة الأشعة السينية تلك. والتفسير الطبيعي لذلك هو أن المجال المغناطيسي للانبعاث يَتْبَع الحركة المدارية للغاز المُنتج له، فدار معه دورة كاملة. ويتّسق ذلك مع الحركة المدارية للبقع الساخنة حول الثقب الأسود، والتي ظهرت في عمليات رصد عالية الاستبانة بالأشعة تحت الحمراء أجريت بجهاز «جرافيتي» GRAVITY الذي يضمّه «التلسكوب الكبير جدًا»11 التابع للمرصد الأوروبي الجنوبي.
ولا تتمتع مصفوفة مراصد «ألما» باستبانة مكانية تكفي لرصد كتل أو بقع ساخنة مفردة تتحرك وسط تيار المواد المتراكمة، لكن فيلجوس وفريقه البحثي استخدموا عملية نمذجة بسيطة لمحاكاة الثُقب أسود ومعه التيار التراكمي الخاص به لتخمين المعاملات الفيزيائية التي يمكن أن يَنتج عنها ما رصدوه (مثلً اتجاه دوران التيار، أو اتجاه المجال المغناطيسي). ومن ذلك، خرجوا بمعاملات تشبه تلك التي حصلوا عليها من بيانات «جرافيتي». من هنا، فإن تفسير نتائج مرصد «ألما» وجهاز «جرافيتي» على أنهما بصمتين مختلفتين للظاهرة ذاتها له جاذبيته.
وتفتح دراسة فيلجوس وفريقه البحثي الباب أمام الرصد الآني لظواهر تحدث قرب أفق حدث الثقب الأسود، لكن علينا أولًا أن نتحقق من صحة سيناريو البقعة الساخنة، فحين تكون كتلة من الغاز الساخن على مقربة شديدة من الثقب الأسود، يرجح أنها ستتعرض لتأثير قوة قصٍ هائلة، بفعل قوى المد والجزر (قوى الجاذبية) في الثقب الأسود. ولم يتضح بعد كم ستصمد بنية كتلة مثل تلك. كذلك يمكن تفسير ما رصده الفريق البحثي على أنه ناتج عن موجات دوامية في تيار المواد المتراكمة حول الثقب. ووفق هذا التفسير، يرجح أن الإشعاع السنكروتروني لم يكن لينبعث من المواد ذاتها التي تدور حول الثقب الأسود. ويزيد تفسيرَ تلك المشاهدات تعقيدًا أن الانبعاثات الصادرة من المواد القريبة من الثقب الأسود تتأثر أيضًا بظاهرة يطلَق عليها «التأثير العدسي للجاذبية»، وهي تحدث حين يَثني حقل جاذبية شاسع الضوء المنبعث ويكبِّر صورته.
ولا يزال علينا أن نرصد سير مزيد من هذه الأحداث، وأن نضع توصيفًا لها حتى نحصر بدرجة كبيرة الاحتمالات الممكنة لطبيعة مصدر الانبعاث، وأيضًا المعاملات الفيزيائية المرتبطة به، مثل معدل الدوران المغزلي للثقب الأسود. وسيتطلب هذا قدرًا كبيرًا من المثابرة، إذ إن الثقب الأسود «ساجيتاريوس إيه ستار» لا يُصدر فورات ساطعة سوى مرة واحدة في اليوم تقريبًا5. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى طرح رؤًى جديدة بخصوص ظواهر الثقوب السوداء، مثل التي قدمها فيلجوس وفريقه البحثي، لا يُقَدَّر بثمن، خاصة إن آزرت هذه الرؤى حملات رصد جرى تنسيقها بين مرصد «ألما» وجهاز «جرافيتي» وتلسكوب «تشاندرا». فتشغيل هذه المراصد والأجهزة معًا وفي الوقت المناسب يمثل تحديًّا كبيرًا، يتطلب قدرًا وافرًا من الحظ، لكن إزاحة الغموض عن الظواهر التي تحدث في أغوار المنطقة المحيطة بالثقب الأسود يستحق كل العناء.
.
رابط المصدر: