“حماس” أصبحت ضعيفة، ولكن صراع عصابات طويل الأمد يلوح في الأفق

تحافظ “حماس” على سيطرة كبيرة على سكان غزة رغم خسائرها الضخمة، وسوف يتطلب إبعادها عن السلطة حملة طويلة الأمد لا يبدو أن هناك جهة فاعلة مستعدة للقيام بها.

أحرزت إسرائيل تقدماً كبيراً نحو إضعاف “حماس”، ولكن لا ينبغي الافتراض أن هذه النجاحات التكتيكية ستخلق بيئة معتدلة لمهمة استقرار غزة في المستقبل القريب. وتشير الحملات ضد الجماعات الجهادية في مناطق أخرى من العالم إلى أن النتيجة الأكثر ترجيحاً هي صراع عصابات طويل الأمد ومنخفض المستوى حيث تحافظ “حماس” على قدر كافٍ من عدم الاستقرار والسيطرة المحلية لتعطيل جهود إعادة الإعمار.

إسرائيل دمرت القوات العسكرية لـ “حماس”

في بداية حرب غزة، كان جيش “حماس” – “كتائب عز الدين القسام” التي بُنِيَت برعاية إيرانية – يتألف من خمسة ألوية منظمة في 24 كتيبة. وبحلول الشهر الماضي، ووفقاً لـ “مكتب رئيس الوزراء” الإسرائيلي كان الجيش الإسرائيلي قد “فكك” 22 من هذه الكتائب. وفي منتصف تموز/يوليو، أعلن الجيش الإسرائيلي بأنه قتل “نصف” القيادة العسكرية للحركة، من بينها ستة من قادة الألوية، وأكثر من 20 قائد كتيبة، وحوالي 150 قائد سرية (وتشير هذه الأرقام على الأرجح إلى مقتل قادة جدد حلوا محل القادة الذين تمت تصفيتهم). وإذا كانت هذه التقديرات دقيقة، فإنها تشير إلى تعطيل خطير لجيل كامل من القادة التكتيكيين لـ “حماس”، وهي ضربة لا يمكن لأي قوة قتالية تحمّلها بسهولة. وإجمالاً، صرح المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أن إسرائيل قد “قضت” على أكثر من 17,000 عضو من “حماس” منذ بدء الحرب، في حين قدر تقييم استخباراتي أمريكي في أيار/مايو أن الحركة فقدت 30-35٪ من مقاتليها (رغم عدم تقديم أرقام دقيقة). ووفقاً لـ “وكالة المخابرات المركزية” الأمريكية، كان القادة العسكريون لـ “حماس” يضغطون على زعيمهم يحيى السنوار لقبول اتفاق وقف إطلاق النار، مما يشير إلى ضغوط عسكرية كبيرة على الحركة.

وبالإضافة إلى إلحاق خسائر في القوى البشرية، زادت إسرائيل الضغط من خلال السيطرة على ممر “فيلادلفيا”، وهو طريق تهريب وإمداد رئيسي لـ “حماس” على طول حدود غزة مع مصر. وفي الشهر الماضي، ادّعى مسؤولون في الجيش الإسرائيلي أن حوالي 80% من أكثر من 150 نفقاً لـ “حماس” تحت هذا الممر قد تم “تحييدها”، وهي ضربة كبيرة أخرى إذا كانت صحيحة (انظر القسم التالي للحصول على المزيد من المعلومات عن شبكة أنفاق غزة الأوسع نطاقاً). كما قام الجيش الإسرائيلي بتفكيك منهجي لقدرة الحركة على تصنيع الأسلحة، مما أدى إلى تجفيف الجهود الداخلية لإعادة التسلح.

وأشار تقرير حديث إلى أن ادعاءات إسرائيل حول إضعاف “حماس” بشكل كبير هي موضع شك، وأكد أن كتائبها تتعافى من خلال تجميع المقاتلين، إما بدمج الوحدات المنهكة أو تجنيد مقاتلين جدد. ومع ذلك، قد تشير هذه الإجراءات على نحو معقول إلى قوة تكافح لتوليد قدراتها القتالية بقدر ما تشير إلى إعادة بناء قوتها. وستظل الوحدات المدمجة تعاني من تدهور وإرهاق بشكل كبير، ومن المرجح أن يكون معظم المقاتلين أفراداً غير مدربين، إما تعرضوا للإكراه من تهديدات “حماس” أو أن سيطرة الحركة على توزيع المساعدات هي التي أغرتهم. وفي الوقت نفسه، من المحتمل أن تحتفظ “حماس” بما يكفي من المقاتلين ليكونوا بمثابة أساس لإعادة تشكيل نفسها إذا تُركت لشأنها.

وفي الحالات التي حاولت فيها “حماس” إعادة تشكيل قواتها، تمكنت إسرائيل من هزيمتها بسهولة أكبر في المرة الثانية. على سبيل المثال، بعد غارتها على “مستشفى الشفاء” في مدينة غزة في آذار/مارس – وهو مقر هام لـ “حماس” – أعلنت قوات الجيش الإسرائيلي أن أكثر من 200 مقاتل من “حماس” قد قُتلوا وتم إلقاء القبض على مئات آخرين خلال العملية التي استمرت أسبوعين، مقارنة بوفاتين فقط في صفوف الجيش الإسرائيلي. وعلى النقيض من ذلك، كانت العملية الأولية التي شنتها إسرائيل لتطهير “مستشفى الشفاء” في تشرين الثاني/نوفمبر أكثر صعوبة، حيث استغرقت أسابيع من جمع المعلومات الاستخباراتية والتحضير للقصف، وتطويق مجمع المستشفى، والغارات المتتالية على كل قسم، والتي سبقتها تحذيرات مسبقة لإخلاء المدنيين. وفي ذلك الوقت، فر معظم مقاتلي “حماس”، الأمر الذي منع الجيش الإسرائيلي من إلحاق خسائر بشرية كبيرة في صفوف الحركة. ومع ذلك، فإن تفكيك الأنفاق، ومراكز القيادة، وغيرها من البنية التحتية العسكرية في المستشفى، مكّن القوات الإسرائيلية من العمل بفعالية أكبر في الغارة المفاجئة في آذار/مارس.

هل تتجه “حماس” إلى العمل السري؟ الدروس المستفادة من مناطق الصراع الأخرى

على الرغم من التدهور العسكري الشديد الذي عانت منه “حماس”، إلا أنها تمكنت إلى حد كبير من الحفاظ على قبضتها على سكان غزة، وسعت إلى توسيع قدراتها في الحكم من الظل. وإلى جانب مقاتليها الناجين وبنيتها التحتية الباقية، فإن هذه الجهود قد تمكن الحركة من عرقلة مبادرات الاستقرار وإعادة الإعمار لفترة طويلة في المستقبل.

وتقدم الحالات السابقة لاستمرارية الجماعات الجهادية فكرة عن الكيفية التي قد يبدو عليها المستقبل القريب لغزة (على الرغم من الفروقات الكبيرة في حجم المسرح، وقدرات الجماعات، والأيديولوجيات، وما إلى ذلك). ففي العراق، احتاجت الولايات المتحدة وشركاؤها إلى ثماني سنوات شاقة من القتال لهزيمة التمرد الذي قادته جماعة محلية تابعة لتنظيم “القاعدة”. وبالتزامن مع “الصحوة” القبلية السنية، قتلت القوات العسكرية العراقية والأمريكية العديد من المقاتلين والقادة الجهاديين أثناء طرد الجماعة إلى الصحراء. ومع ذلك، لم تنخفض الهجمات الإرهابية إلى الصفر، واحتفظ المتمردون بوجود سري كبير في بعض المناطق. وبعد انسحاب القوات الأمريكية في عام 2011، ساهمت سياسات الحكومة العراقية بشكل مطرد في تدهور قوات الأمن في البلاد، وتهميش السنة، ونزع سلاح القبائل. وأدت هذه العوامل وغيرها إلى توفير بيئة ملائمة لعودة الجهاديين في صورة تنظيم “الدولة الإسلامية” (“داعش”) واستيلائهم على أجزاء كبيرة من العراق وسوريا بدءاً من عام 2014.

وتبع ذلك حملة أخرى مدعومة من الولايات المتحدة لاستعادة هذه الأراضي. وبحلول عام 2016، بدأ تنظيم “الدولة الإسلامية” في العودة إلى نمط التمرد، وحققت هذه الاستراتيجية نتائج قاتلة حتى بعد أن فقد التنظيم آخر جزء من سيطرته الإقليمية في العراق بعد عام من عودته إلى مسرح عملياته الإرهابية. وفي عام 2018، ادعى التنظيم مسؤوليته عن 1,470 هجوماً في العراق، وارتفع العدد إلى 1,669 في عام 2019. كما احتفظ “داعش” بالقدرة على شن هجمات إرهابية أسفرت عن سقوط أعداد كبيرة من الضحايا، شملت تفجير انتحاري في بغداد عام 2021 أسفر عن مقتل 32 شخصاً. وبفضل الدعم الأمريكي الحاسم، نجحت القوات الاتحادية العراقية ووحدات “البيشمركة” الكردية في خفض عدد الهجمات تدريجياً إلى 141 في عام 2023.

وفي سوريا، فقد تنظيم “الدولة الإسلامية” آخر معاقله في آذار/مارس 2019، لكنه لا يزال يُنفذ عمليات كبيرة حتى اليوم. وتحدث الهجمات على قوافل الجيش السوري بانتظام، وحاول مئات من مقاتلي تنظيم “الدولة الإسلامية” الاستيلاء على “سجن الصناعة” خلال معركة استمرت عدة أيام في كانون الثاني/يناير 2022. وفي بعض المناطق، يبتز تنظيم “الدولة الإسلامية” السكان المحليين لجمع الأموال ويمارس بعض السيطرة على الأراضي. وشهد النصف الأول من عام 2024 ضعف عدد الهجمات التي ادعى تنظيم الدولة الإسلامية” بشنها في سوريا والعراق مقارنة بالفترة نفسها من عام 2023، حتى مع انخفاض عدد مقاتليه إلى “حوالي 2,500” شخص بصورة عامة في كلا البلدين (بعد أن كانوا عشرات الآلاف قبل بضع سنوات فقط).

وهناك مثال آخر ذو دلالة من الصومال، حيث استمرت جماعة “حركة الشباب” التابعة لتنظيم “القاعدة” في شن عملياتها في مقديشو. وبحلول نهاية عام 2011، نجحت القوات الصومالية وقوات “الاتحاد الإفريقي” في طرد الحركة من المراكز السكانية الكبرى بدعم من الولايات المتحدة ودول أخرى. ومع ذلك، لا تزال الحركة تسيطر على جزء كبير من المناطق الريفية في جنوب ووسط البلاد، وحتى كانت قادرة على تنفيذ عمليات كبيرة في العاصمة، بدءً من استهداف شخصيات بارزة وإلى جمع الأموال وتجنيد الأفراد. وفي عام 2017، نفذت “حركة الشباب” واحدة من أعنف الهجمات الإرهابية في التاريخ، حيث قتلت أكثر من 580 شخصاً بشاحنة مفخخة في مقديشو. وتوجد أمثلة أخرى ذات صلة لاستمرارية الجماعات الجهادية في منطقة الساحل، وأفغانستان، ومصر، وغيرها.

ومن المرجح أن تتّبع “حماس” مساراً مماثلاً لما قامت به جماعات جهادية أخرى. فقد أثبتت قدرتها على تنفيذ هجمات حرب عصابات صغيرة النطاق حتى مع انخفاض أعداد مقاتليها، والاختباء بين السكان المدنيين، والتنقل عبر شبكتها الواسعة من الأنفاق. وعلى الرغم من تدمير العديد من الأنفاق، إلّا أن إسرائيل قللت في السابق من تقدير مدى تعقيد هذه الشبكة الكثيفة، حيث قامت في كانون الثاني/يناير بتحديث تقديرها الأولي من 250 ميلاً من الأنفاق إلى 350-450 ميلاً بعد أن كشفت العمليات العسكرية عن المزيد من الفروع (للمقارنة، تمتد أنفاق مترو مدينة نيويورك إلى 248 ميلاً). وهذه الأنفاق، التي يبلغ عمقها ما يكفي لحماية المقاتلين من القنابل الثقيلة وهي واسعة في بعض النقاط بما يسمح بمرور المركبات، تعزز بشكل كبير من قدرة الحركة على البقاء ونصب الكمائن ضد القوات الإسرائيلية. وفي أيار/مايو، قدّرت الاستخبارات الأمريكية أن حوالي 65% من أنفاق “حماس” لا تزال نشطة، مما يعكس الجهود البطيئة والشاقة المطلوبة لتدمير هذه البنية التحتية تحت الأرض.

وفي غضون ذلك، حث خالد مشعل، المسؤول الكبير في “حماس”، مؤخراً الفلسطينيين على العودة إلى “العمليات الاستشهادية” (أي التفجيرات الانتحارية)، مستذكراً الانتفاضة التي اندلعت عام 2000 واستمرت خمس سنوات وأسفرت عن مقتل أكثر من 1,000 إسرائيلي. كما استمرت “حماس” في إطلاق الصواريخ من غزة، بما في ذلك 537 حادثة بين حزيران/يونيو وآب/أغسطس وفقاً لبيانات “جهاز الأمن الإسرائيلي”.

التداعيات السياسية

حقق “الجيش الإسرائيلي” تقدماً كبيراً ضد “حماس”، ولكن الحفاظ على هذه المكاسب وتأمين مهمة الاستقرار بعد الحرب سيتطلب حملة عسكرية طويلة الأمد. وبينما تفكر إسرائيل، والولايات المتحدة، والشركاء العرب، وجهات فاعلة أخرى في النظام المستقبلي في غزة، ينبغي أن يفترضوا أن بقايا “حماس” ستحتفظ بالقدرة على تقويض المهمة، وستسعى لاستعادة سيطرتها الكاملة على غزة – تماماً كما تستمر الجهود الجهادية في العراق، وسوريا، والصومال، ومناطق أخرى.

وفي الأشهر الأخيرة، تم اقتراح عدة جهات لجهود الاستقرار الدولية. على سبيل المثال، دعت “جامعة الدول العربية” إلى نشر قوة حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة، بينما دعت سفيرة الإمارات في الأمم المتحدة لانا نسيبة إلى تشكيل “قوة دولية مؤقتة.” ومع ذلك، فمن غير المرجح أن تنضم أي من الدول التي من المفترض أن تشارك في مثل هذه البعثات في الوقت الذي لا تزال قيه غزة ممزقة بالعنف. علاوة على ذلك، فإن الفشل في فرض هزيمة دائمة على “حماس” قد يتيح ظهور مقاتلين أصغر سناً يكتسبون حالياً خبرة قتالية قيّمة، مما يمهد الطريق لمعارك أكثر صعوبة في المستقبل.

وحتى الآن، يبدو أن إسرائيل هي الجهة الوحيدة المستعدة لخوض القتال العنيف الذي يتطلبه إزاحة “حماس” من السلطة. ومع ذلك، قد لا يمتلك القادة الإسرائيليون الإرادة السياسية لمواصلة هذا الضغط العسكري لفترة أطول. فقد أشار المسؤولون بالفعل إلى أن الجيش الإسرائيلي قد يعود إلى شن غارات أصغر نطاقاً على أهداف متاحة، كما حدث في عملية آذار/مارس في “مستشفى الشفاء”. كما استبعدوا تنفيذ أي آليات حكم إسرائيلية لتحدي الهيمنة السياسية لـ “حماس” في غزة. لذلك، سيتعين على جهات فاعلة أخرى – سواء الولايات المتحدة وحلفاؤها، أو تحالف من الدول العربية، أو “السلطة الفلسطينية”، أو مزيج من هذه الأطراف – تحمل بعض هذه الأعباء.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M