“حماس” و”حزب الله”… معادلات الحرب والسلام

لفهم خطاب “المرشد” الإيراني علي خامنئي، الاثنين الماضي، يجب العودة إلى حديثه إلى قادة “حماس” خلال استقباله لهم في طهران، مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الماضي… الاثنين قال خامنئي إن “عملية طوفان الأقصى جاءت في اللحظة المناسبة، وكانت هناك خطة لتغيير المعادلات في المنطقة”، وهو الذي كان قد قال في نوفمبر الماضي لإسماعيل هنية ورفاقه إن “حماس” لم تبلغ إيران بهجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول على إسرائيل، ومن ثم فإن الجمهورية الإسلامية لن تدخل الحرب نيابة عنها، وذلك بحسب ما ذكر ثلاثة مسؤولين كبار من “حماس” وإيران لـ”رويترز”.

طبعا نفت طهران لاحقا هذه التصريحات، لكنه نفي كان يدحضه السياق العام للأحداث ومجمل التصريحات والأفعال الإيرانية، من ضمن استراتيجية “الصبر الاستراتيجي” التي اتبعتها إيران وجاهرت بها منذ السابع من أكتوبر 2023.

وفي المحصلة فإن “المرشد” الإيراني وبعد أن وبّخ “حماس” على عدم إبلاغها طهران بهجوم السابع من أكتوبر، وهو ما ينطوي على لوم لها على التوقيت الذي اختارته لتنفيذه، ها هو الآن يعتبر أن الحركة الفلسطينية نفذت عمليتها في “اللحظة المناسبة”. فما عدا مما بدا؟

توقيت “حماس” وتوقيت “المرشد”

واقع الحال أن الفارق في كلام خامنئي بين الأول من نوفمبر والآن ليس مرده إلى حيرته في توقيت هجوم السابع من أكتوبر وما إذا كانت “حماس” صائبة فيه أم لا، بل هو يوظف الموقف من توقيت عملية “طوفان الأقصى” بحسب التوقيت الإيراني، أي بما يخدم الأجندة الإيرانية وأهدافها. ففي مطلع الحرب كان همّ إيران أن لا تصل نيران الحرب إلى أراضيها حتى لو احترقت غزة، وهذا كان الخط الأحمر الذي رسمته إيران في السرّ عبر القنوات الخلفية وفي العلن من خلال تصريحات مسؤوليها وبالأخص مبعوثها إلى الأمم المتحدة في نيويورك.

كانت طهران وقتذاك توظف كل إمكاناتها السياسية والدبلوماسية والإعلامية لتجنب “الكأس المرة”، أي إنجرارها إلى الحرب، ولذلك فهي كانت تتبادل الرسائل تحت الطاولة وفوقها مع الولايات المتحدة للاتفاق حول نقطة واحدة: عدم تحول الصراع في غزة إلى حرب إقليمية شاملة. وحتى بعدما “اضطرت” إيران إلى مهاجمة إسرائيل بما يزيد على 300 صاروخ ومسيرة ليل 13-14 أبريل/نيسان الماضي، فقد شغّلت كل محركاتها الدبلوماسية شرقا وغربا لتأكيد أنها لا تنوي الخروج عن “قواعد اللعبة”. ثم وبعدها بأسابيع قليلة سرب خبر عن مفاوضات أميركية– إيرانية في عُمان قيل إن هدفها كان التأكيد على عدم توسيع الصراع في المنطقة فضلا عن “تفاهمات نووية”، وهو ما يمكن اعتباره، بالنظر إلى توقيت اللقاء، اتفاقا نهائيا بين الطرفين على عدم التصعيد.

بالتالي فإن خامنئي الذي اطمأن إلى مسار التطورات في المنطقة، ولاسيما إلى الاتفاق الضمني مع الأميركيين على حصر الصراع في غزة وفي جبهات الإسناد بوتائر مضبوطة، عاد وتبنى سياسيا عملية “طوفان الأقصى” واعتبر أنها كانت ضرورية للمنطقة لأنها أفشلت محاولات التطبيع مع إسرائيل. لكنه لم يأت على ذكر الـ36 ألف فلسطيني الذين قتلوا خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وهو ما يجعل رد الرئاسة الفلسطينية عليه بأن إيران تضحي بدماء الفلسطينيين ردا واقعيا، لأن خامنئي قفز بكلامه فوق الحرب من بدايتها إلى نهايتها، بضحاياها وخسائرها، وأراد التوقف فقط عند ما يمكنه استثماره سياسيا منها، حتى لو لم يكن واقعيا، باعتبار أن خطة الرئيس الأميركي للسلام والتي أبدت “حماس” إيجابية تجاهها، تتضمن إقامة هيكل إقليمي، يقوم على مسارين متوازيين: إحياء مسار حل الدولتين واستكمال عملية “إدماج” إسرائيل في المنطقة.

 

هناك “كي للوعي” من قبل إيران ووكلائها يقوم على محاولة التحايل على التوفق العسكري والتكنولوجي الأميركي والإسرائيلي قياسا على حجم الضرر الذي يمكن أن يلحقوه بأسرائيل في حال توسع الصراع

 

 

وبالتالي فإن هدف “طوفان الأقصى” كما رآه خامنئي وكما كان “حزب الله” قد سارع إلى تبنيه في 7 أكتوبر الماضي في بيانه الأول عن الحرب، وكما أرادته “حماس” ربما، هو هدف لم يتحقق إلا إذا كانت “حماس” مستعدة للاستمرار في الحرب، بينما هي تبحث عن خيارات تمكنها من البقاء سياسيا في مرحلة ما بعد الحرب. وهي خيارات باتت محدودة أصلا، فإذا كانت إسرائيل في مأزق وتواجه تحديات داخلية وخارجية في الحرب المستمرة منذ 8 أشهر فإن “حماس” ليست بالتأكيد في وضع أفضل، خصوصا أن مأزقها هو مأزق فلسطيني في ظل الكارثة الإنسانية التي يعيشها قطاع غزة، ناهيك بالعدد الهائل من الضحايا المدنيين الذين سقطوا جراء القصف الإسرائيلي، وناهيك أيضا بالدمار الواسع الذي لحق بقطاع غزة، وهذا كله لا يمكن إغفاله عند قياس الموقف من عملية “طوفان الأقصى”.
ولعلّ هذا الموقف هو ما يحدد أفق الحركة السياسية والوطنية الفلسطينية في المرحلة المقبلة، أي هل إن “حماس” التي تتطلع لقبول أميركي ببقاء محدود لها في ترتيبات “اليوم التالي”- بمعنى أنها تحتاج إلى ضمانة أميركية للبقاء وربما تدعم مصر هذا الخيار بحسب بعض التسريبات الواردة من القاهرة– مستعدة لمراجعة سياسية ولمقاربة جديدة للقضية الفلسطينية أم إنها ستستمر في النهج نفسه، هذا إذا كان لا يزال في إمكانها إعادة بناء نفسها كما في السابق.

 

رويترز رويترز

مسعفون يحملون فلسطينيا أصيب في غارة إسرائيلية على دير البلح بوسط قطاع غزة في 4 يونيو 

لكن الخلاصة هنا أن هناك تعمية متعمدة و”كيا للوعي” من قبل إيران ووكلائها يقومان على محاولة التحايل على التوفق العسكري والتكنولوجي الأميركي والإسرائيلي في المنطقة قياسا على حجم  الضرر الذي يمكن أن يلحقوه بأسرائيل في حال توسع الصراع، لكنهم يتغاضون عن أنهم لا يريدون أبدا توسيع الصراع، وهذه معادلة جهنمية يدفع الفلسطينيون أثمانها بأرواحهم وممتلكاتهم كل دقيقة وكل ساعة وكل يوم ما دامت الحرب مستمرة، وهذا يعيدنا مجددا إلى مضمون رد السلطة الفلسطينية على كلام خامنئي. فليس صحيحا أن وقف الحرب في غزة هو حاجة إسرائيلية، أو ليس حاجة إسرائيلية بمقدار ما هو حاجة لـ”حماس” وللفلسطينيين عموما.
لكن الأدهى والأخطر أن إيران وحلفاءها أو وكلاءها يريدون هذا النوع من الصراع، أي إنهم يرون في الصراع بحدوده الحالية مكسبا لهم ما دام لم يتحول إلى صراع شامل، وهنا مكمن التقاطع الأميركي– الإيراني الذي يمكن تعميمه على “جبهة الإسناد” التي يقيمها “حزب الله” ضد إسرائيل في جنوب لبنان. فمنذ اللحظة الأولى لانطلاق المواجهات بين “الحزب” وإسرائيل فإن الحزب كان ولا يزال ينظر بعينيه وعقله إلى الداخل اللبناني وليس إلى غزة. وهذه معادلة جديدة قديمة ولم تطرأ مع المواجهات أو الحرب الحالية، ومفادها أن الحزب ينظر إلى الحرب بمكاسبها السياسية النهائية له وليس بحجم خسائرها على مستوى لبنان، فهو يريد الانتصار حتى لو كان هذا الانتصار هزيمة للبنان كدولة وكوطن.
هذا ما حصل في حرب يوليو/تموز 2006 والتي مكنت “حزب الله” من قلب المعادلة السياسية التي كرسها اغتيال رفيق الحريري لصالحه، وهذا ما سيحصل مع المواجهات أو الحرب الحالية التي مهما طالت أو توسعت، فإن نتائجها معروفة منذ الآن، وعنوانها العريض اتفاق بين إسرائيل و”حزب الله” بوساطة أميركية يأتي كترجمة للاتفاق الإيراني– الأميركي في المنطقة.
تفاصيل الاتفاق مهمة بالطبع لكن يقتضي النظر إليها أولا بمنظور سياسي وليس تقنيا إلا بمقدار ما يكون “التقني” ترجمة لـ”السياسي”، وهذا يحيل إلى ثلاثة خطابات أو تصريحات: الأول تصريح خامنئي آنف الذكر والذي يعكس- كما ذكر- تحولا في الموقف من عملية “طوفان الأقصى” مبنيا على المتغيرات في مسار التفاهمات الأميركية الإيرانية في المنطقة وعلى ارتفاع منسوب القدرة الإيرانية على توظيف الحرب ونتائجها في ظل اللحظة الدولية والإقليمية الراهنة.

 

فحوى معادلة المبعوث الأميركي عاموس هوكشتين تقوم على ضمانات أمنية لإسرائيل مقابل دعم اقتصادي للبنان أو بالأحرى لـ”حزب الله”

 

 

التصريح الثاني هو ما قاله الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله في خطابه يوم 24 مايو/أيار الماضي عندما وضع ثلاثة أهداف للحرب، أبرزها تحقيق مكاسب تتعلق بالأمن القومي اللبناني والسيادة اللبنانية، وما قاله أيضا في خطابه الأخير يوم 31 مايو، عندما تحدث عن ملف الحدود مع إسرائيل، وعن الفصل بين الانتخابات الرئاسية في لبنان والمواجهات الدائرة في الجنوب والحرب في غزة. وكل هذا الكلام الصادر عن نصرالله، والذي يعكس تحولا في خطابه (يمكن قياسه على التحول في خطاب خامنئي) سواء لناحية التحدث مباشرة عن مكاسب أو لناحية الفصل بين العملية السياسية الداخلية والحرب، على عكس توجهه منذ 7 أكتوبر، كل هذا يؤشر إلى أن “حزب الله” دخل في مرحلة المفاوضات الجدية من خلال رسم السقوف، لجهة المطالبة بتثبيت الحدود مع إسرائيل وليس ترسيمها باعتبار أنها رسمت عام 1923، وخلط الأوراق بخصوص ملف الانتخابات الرئاسية في إشارة إلى أنها بند من بنود المفاوضات مع الأميركيين.
أما التصريح الثالث فهو تصريح المبعوث الأميركي عاموس هوكشتين الأسبوع الماضي والذي تحدث فيه عن أن العمل جار للتوصل إلى اتفاق بين إسرائيل و”حزب الله” يخلق مناخا مناسبا لتطبيق القرار 1701 مع أولوية أن يتخذا خطوات جدية للوصول إلى وقف لإطلاق النار وعودة المستوطنين الإسرائيليين “الآمنة”، لكن ليس وفق ستاتيكو 6 أكتوبر 2023، أي بضمانات أمنية كافية تحول دون شن الحزب أي هجوم عبر الحدود، وإلى عودة نازحي القرى الحدودية اللبنانية إلى منازلهم مع برنامج للتنمية الاقتصادية في الجنوب اللبناني، وكل ذلك ضمن حزمة دولية واسعة تقدم الدعم للجيش اللبناني الذي سيعزز انتشاره في المنطقة وتشمل دعما اقتصاديا للبنان، وتحديدا للجنوب.

 

رويترز رويترز

أشخاص يسيرون على أنقاض منزل تضرر بسبب غارة إسرائيلية على قرية حولا بالقرب من الحدود مع إسرائيل، 3 يونيو 

بالتالي فإن فحوى معادلة هوكشتين تقوم على ضمانات أمنية لإسرائيل مقابل دعم اقتصادي للبنان، وهذا مكسب أساسي لـ”حزب الله” باعتبار أن “التطبيع الاقتصادي” مع واشنطن يتيح له خلق “واقع جديد” في الجنوب في ظل الانهيار الاقتصادي الذي تدحرج إليه لبنان، وهذا يختلف عن التسويات السابقة ولاسيما في عام 2006، وهو ما قصده هوكشتين من خلال إيحائه بأن الاتفاق سيكون طويل الأمد.
لكن بغض النظر عن تأويلات كلام المبعوث الأميركي فإن البارز في إطلالته الأخيرة لم يكن مضمون كلامه وحسب بل أيضا ثقته بقدرته على إقناع الطرفين بالاتفاق وكأنه متيقن سلفا من مدى استعداد “حزب الله” على “الأخذ والعطاء” معه. وهذا  بغض النظر عن توقيت الاتفاق والطريق إليه واحتمال أن يسبقه تصعيد قوي أو “أيام قتالية”، وما إذا كان يمكن إبرامه قبل الوصول إلى وقف دائم لإطلاق النار في غزة، أي في ظل وضع حربي جديد يشبه إذا جاز التعبير نصف احتلال إسرائيلي، لجهة احتفاظ تل أبيب بالسيطرة الأمنية وحرية الحركة في القطاع المحاصر.

وبالتوازي هناك أسئلة لبنانية داخلية تطرح نفسها هنا وتتصل بالتوازنات الطائفية المختلة أصلا في النظام اللبناني، فهل يزيد اتفاق كهذا هذه الاختلالات؟ الأكيد نعم، لكن السؤال ماذا سيكون رد فعل الطوائف المتضررة من هذه التسوية وبالأخص المسيحيين بتصورهم عن لبنان وحضورهم ونفوذهم فيه؟
قراءة في مواقف القوى السياسية– الطائفية خلال الحرب الحالية تفيد بأن الزعيم الدرزي وليد جنبلاط يقيم حساباته على أساس التفاهمات الإيرانية الأميركية، بينما تراجع جبران باسيل، رئيس “التيار الوطني الحر” المسيحي وحليف “حزب الله” منذ 2006، عن انتقاداته للحزب وللحرب في الجنوب، في تحسب ربما لضرورة الالتحاق بالتسوية، أما السنة فعلى انكفائهم ككتلة شعبية وسياسية.
لكن في مجمل الأحوال فإن التناقضات التي ستنتهي إليها الحرب والتي أظهرتها تطوراتها والمواقف منها لناحية الانقسام اللبناني العمودي، ترخي بظلال من الشكوك والأسئلة عما إذا كان “تفكك لبنان السياسي” (وفق تعبير الموفد الفرنسي جان إيف لودريان) سيستتبع تفكك لبنان الجغرافي..
لا جواب أكيدا حتى الآن، لكن معادلات السلام قد تكون أحيانا أخطر من معادلات الحرب، سواء في غزة أو لبنان.

 

المصدر :

لفهم خطاب “المرشد” الإيراني علي خامنئي، الاثنين الماضي، يجب العودة إلى حديثه إلى قادة “حماس” خلال استقباله لهم في طهران، مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الماضي… الاثنين قال خامنئي إن “عملية طوفان الأقصى جاءت في اللحظة المناسبة، وكانت هناك خطة لتغيير المعادلات في المنطقة”، وهو الذي كان قد قال في نوفمبر الماضي لإسماعيل هنية ورفاقه إن “حماس” لم تبلغ إيران بهجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول على إسرائيل، ومن ثم فإن الجمهورية الإسلامية لن تدخل الحرب نيابة عنها، وذلك بحسب ما ذكر ثلاثة مسؤولين كبار من “حماس” وإيران لـ”رويترز”.

طبعا نفت طهران لاحقا هذه التصريحات، لكنه نفي كان يدحضه السياق العام للأحداث ومجمل التصريحات والأفعال الإيرانية، من ضمن استراتيجية “الصبر الاستراتيجي” التي اتبعتها إيران وجاهرت بها منذ السابع من أكتوبر 2023.

وفي المحصلة فإن “المرشد” الإيراني وبعد أن وبّخ “حماس” على عدم إبلاغها طهران بهجوم السابع من أكتوبر، وهو ما ينطوي على لوم لها على التوقيت الذي اختارته لتنفيذه، ها هو الآن يعتبر أن الحركة الفلسطينية نفذت عمليتها في “اللحظة المناسبة”. فما عدا مما بدا؟

توقيت “حماس” وتوقيت “المرشد”

واقع الحال أن الفارق في كلام خامنئي بين الأول من نوفمبر والآن ليس مرده إلى حيرته في توقيت هجوم السابع من أكتوبر وما إذا كانت “حماس” صائبة فيه أم لا، بل هو يوظف الموقف من توقيت عملية “طوفان الأقصى” بحسب التوقيت الإيراني، أي بما يخدم الأجندة الإيرانية وأهدافها. ففي مطلع الحرب كان همّ إيران أن لا تصل نيران الحرب إلى أراضيها حتى لو احترقت غزة، وهذا كان الخط الأحمر الذي رسمته إيران في السرّ عبر القنوات الخلفية وفي العلن من خلال تصريحات مسؤوليها وبالأخص مبعوثها إلى الأمم المتحدة في نيويورك.

كانت طهران وقتذاك توظف كل إمكاناتها السياسية والدبلوماسية والإعلامية لتجنب “الكأس المرة”، أي إنجرارها إلى الحرب، ولذلك فهي كانت تتبادل الرسائل تحت الطاولة وفوقها مع الولايات المتحدة للاتفاق حول نقطة واحدة: عدم تحول الصراع في غزة إلى حرب إقليمية شاملة. وحتى بعدما “اضطرت” إيران إلى مهاجمة إسرائيل بما يزيد على 300 صاروخ ومسيرة ليل 13-14 أبريل/نيسان الماضي، فقد شغّلت كل محركاتها الدبلوماسية شرقا وغربا لتأكيد أنها لا تنوي الخروج عن “قواعد اللعبة”. ثم وبعدها بأسابيع قليلة سرب خبر عن مفاوضات أميركية– إيرانية في عُمان قيل إن هدفها كان التأكيد على عدم توسيع الصراع في المنطقة فضلا عن “تفاهمات نووية”، وهو ما يمكن اعتباره، بالنظر إلى توقيت اللقاء، اتفاقا نهائيا بين الطرفين على عدم التصعيد.

بالتالي فإن خامنئي الذي اطمأن إلى مسار التطورات في المنطقة، ولاسيما إلى الاتفاق الضمني مع الأميركيين على حصر الصراع في غزة وفي جبهات الإسناد بوتائر مضبوطة، عاد وتبنى سياسيا عملية “طوفان الأقصى” واعتبر أنها كانت ضرورية للمنطقة لأنها أفشلت محاولات التطبيع مع إسرائيل. لكنه لم يأت على ذكر الـ36 ألف فلسطيني الذين قتلوا خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وهو ما يجعل رد الرئاسة الفلسطينية عليه بأن إيران تضحي بدماء الفلسطينيين ردا واقعيا، لأن خامنئي قفز بكلامه فوق الحرب من بدايتها إلى نهايتها، بضحاياها وخسائرها، وأراد التوقف فقط عند ما يمكنه استثماره سياسيا منها، حتى لو لم يكن واقعيا، باعتبار أن خطة الرئيس الأميركي للسلام والتي أبدت “حماس” إيجابية تجاهها، تتضمن إقامة هيكل إقليمي، يقوم على مسارين متوازيين: إحياء مسار حل الدولتين واستكمال عملية “إدماج” إسرائيل في المنطقة.

 

هناك “كي للوعي” من قبل إيران ووكلائها يقوم على محاولة التحايل على التوفق العسكري والتكنولوجي الأميركي والإسرائيلي قياسا على حجم الضرر الذي يمكن أن يلحقوه بأسرائيل في حال توسع الصراع

 

 

وبالتالي فإن هدف “طوفان الأقصى” كما رآه خامنئي وكما كان “حزب الله” قد سارع إلى تبنيه في 7 أكتوبر الماضي في بيانه الأول عن الحرب، وكما أرادته “حماس” ربما، هو هدف لم يتحقق إلا إذا كانت “حماس” مستعدة للاستمرار في الحرب، بينما هي تبحث عن خيارات تمكنها من البقاء سياسيا في مرحلة ما بعد الحرب. وهي خيارات باتت محدودة أصلا، فإذا كانت إسرائيل في مأزق وتواجه تحديات داخلية وخارجية في الحرب المستمرة منذ 8 أشهر فإن “حماس” ليست بالتأكيد في وضع أفضل، خصوصا أن مأزقها هو مأزق فلسطيني في ظل الكارثة الإنسانية التي يعيشها قطاع غزة، ناهيك بالعدد الهائل من الضحايا المدنيين الذين سقطوا جراء القصف الإسرائيلي، وناهيك أيضا بالدمار الواسع الذي لحق بقطاع غزة، وهذا كله لا يمكن إغفاله عند قياس الموقف من عملية “طوفان الأقصى”.
ولعلّ هذا الموقف هو ما يحدد أفق الحركة السياسية والوطنية الفلسطينية في المرحلة المقبلة، أي هل إن “حماس” التي تتطلع لقبول أميركي ببقاء محدود لها في ترتيبات “اليوم التالي”- بمعنى أنها تحتاج إلى ضمانة أميركية للبقاء وربما تدعم مصر هذا الخيار بحسب بعض التسريبات الواردة من القاهرة– مستعدة لمراجعة سياسية ولمقاربة جديدة للقضية الفلسطينية أم إنها ستستمر في النهج نفسه، هذا إذا كان لا يزال في إمكانها إعادة بناء نفسها كما في السابق.

 

رويترز رويترز

مسعفون يحملون فلسطينيا أصيب في غارة إسرائيلية على دير البلح بوسط قطاع غزة في 4 يونيو 

لكن الخلاصة هنا أن هناك تعمية متعمدة و”كيا للوعي” من قبل إيران ووكلائها يقومان على محاولة التحايل على التوفق العسكري والتكنولوجي الأميركي والإسرائيلي في المنطقة قياسا على حجم  الضرر الذي يمكن أن يلحقوه بأسرائيل في حال توسع الصراع، لكنهم يتغاضون عن أنهم لا يريدون أبدا توسيع الصراع، وهذه معادلة جهنمية يدفع الفلسطينيون أثمانها بأرواحهم وممتلكاتهم كل دقيقة وكل ساعة وكل يوم ما دامت الحرب مستمرة، وهذا يعيدنا مجددا إلى مضمون رد السلطة الفلسطينية على كلام خامنئي. فليس صحيحا أن وقف الحرب في غزة هو حاجة إسرائيلية، أو ليس حاجة إسرائيلية بمقدار ما هو حاجة لـ”حماس” وللفلسطينيين عموما.
لكن الأدهى والأخطر أن إيران وحلفاءها أو وكلاءها يريدون هذا النوع من الصراع، أي إنهم يرون في الصراع بحدوده الحالية مكسبا لهم ما دام لم يتحول إلى صراع شامل، وهنا مكمن التقاطع الأميركي– الإيراني الذي يمكن تعميمه على “جبهة الإسناد” التي يقيمها “حزب الله” ضد إسرائيل في جنوب لبنان. فمنذ اللحظة الأولى لانطلاق المواجهات بين “الحزب” وإسرائيل فإن الحزب كان ولا يزال ينظر بعينيه وعقله إلى الداخل اللبناني وليس إلى غزة. وهذه معادلة جديدة قديمة ولم تطرأ مع المواجهات أو الحرب الحالية، ومفادها أن الحزب ينظر إلى الحرب بمكاسبها السياسية النهائية له وليس بحجم خسائرها على مستوى لبنان، فهو يريد الانتصار حتى لو كان هذا الانتصار هزيمة للبنان كدولة وكوطن.
هذا ما حصل في حرب يوليو/تموز 2006 والتي مكنت “حزب الله” من قلب المعادلة السياسية التي كرسها اغتيال رفيق الحريري لصالحه، وهذا ما سيحصل مع المواجهات أو الحرب الحالية التي مهما طالت أو توسعت، فإن نتائجها معروفة منذ الآن، وعنوانها العريض اتفاق بين إسرائيل و”حزب الله” بوساطة أميركية يأتي كترجمة للاتفاق الإيراني– الأميركي في المنطقة.
تفاصيل الاتفاق مهمة بالطبع لكن يقتضي النظر إليها أولا بمنظور سياسي وليس تقنيا إلا بمقدار ما يكون “التقني” ترجمة لـ”السياسي”، وهذا يحيل إلى ثلاثة خطابات أو تصريحات: الأول تصريح خامنئي آنف الذكر والذي يعكس- كما ذكر- تحولا في الموقف من عملية “طوفان الأقصى” مبنيا على المتغيرات في مسار التفاهمات الأميركية الإيرانية في المنطقة وعلى ارتفاع منسوب القدرة الإيرانية على توظيف الحرب ونتائجها في ظل اللحظة الدولية والإقليمية الراهنة.

 

فحوى معادلة المبعوث الأميركي عاموس هوكشتين تقوم على ضمانات أمنية لإسرائيل مقابل دعم اقتصادي للبنان أو بالأحرى لـ”حزب الله”

 

 

التصريح الثاني هو ما قاله الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله في خطابه يوم 24 مايو/أيار الماضي عندما وضع ثلاثة أهداف للحرب، أبرزها تحقيق مكاسب تتعلق بالأمن القومي اللبناني والسيادة اللبنانية، وما قاله أيضا في خطابه الأخير يوم 31 مايو، عندما تحدث عن ملف الحدود مع إسرائيل، وعن الفصل بين الانتخابات الرئاسية في لبنان والمواجهات الدائرة في الجنوب والحرب في غزة. وكل هذا الكلام الصادر عن نصرالله، والذي يعكس تحولا في خطابه (يمكن قياسه على التحول في خطاب خامنئي) سواء لناحية التحدث مباشرة عن مكاسب أو لناحية الفصل بين العملية السياسية الداخلية والحرب، على عكس توجهه منذ 7 أكتوبر، كل هذا يؤشر إلى أن “حزب الله” دخل في مرحلة المفاوضات الجدية من خلال رسم السقوف، لجهة المطالبة بتثبيت الحدود مع إسرائيل وليس ترسيمها باعتبار أنها رسمت عام 1923، وخلط الأوراق بخصوص ملف الانتخابات الرئاسية في إشارة إلى أنها بند من بنود المفاوضات مع الأميركيين.
أما التصريح الثالث فهو تصريح المبعوث الأميركي عاموس هوكشتين الأسبوع الماضي والذي تحدث فيه عن أن العمل جار للتوصل إلى اتفاق بين إسرائيل و”حزب الله” يخلق مناخا مناسبا لتطبيق القرار 1701 مع أولوية أن يتخذا خطوات جدية للوصول إلى وقف لإطلاق النار وعودة المستوطنين الإسرائيليين “الآمنة”، لكن ليس وفق ستاتيكو 6 أكتوبر 2023، أي بضمانات أمنية كافية تحول دون شن الحزب أي هجوم عبر الحدود، وإلى عودة نازحي القرى الحدودية اللبنانية إلى منازلهم مع برنامج للتنمية الاقتصادية في الجنوب اللبناني، وكل ذلك ضمن حزمة دولية واسعة تقدم الدعم للجيش اللبناني الذي سيعزز انتشاره في المنطقة وتشمل دعما اقتصاديا للبنان، وتحديدا للجنوب.

 

رويترز رويترز

أشخاص يسيرون على أنقاض منزل تضرر بسبب غارة إسرائيلية على قرية حولا بالقرب من الحدود مع إسرائيل، 3 يونيو 

بالتالي فإن فحوى معادلة هوكشتين تقوم على ضمانات أمنية لإسرائيل مقابل دعم اقتصادي للبنان، وهذا مكسب أساسي لـ”حزب الله” باعتبار أن “التطبيع الاقتصادي” مع واشنطن يتيح له خلق “واقع جديد” في الجنوب في ظل الانهيار الاقتصادي الذي تدحرج إليه لبنان، وهذا يختلف عن التسويات السابقة ولاسيما في عام 2006، وهو ما قصده هوكشتين من خلال إيحائه بأن الاتفاق سيكون طويل الأمد.
لكن بغض النظر عن تأويلات كلام المبعوث الأميركي فإن البارز في إطلالته الأخيرة لم يكن مضمون كلامه وحسب بل أيضا ثقته بقدرته على إقناع الطرفين بالاتفاق وكأنه متيقن سلفا من مدى استعداد “حزب الله” على “الأخذ والعطاء” معه. وهذا  بغض النظر عن توقيت الاتفاق والطريق إليه واحتمال أن يسبقه تصعيد قوي أو “أيام قتالية”، وما إذا كان يمكن إبرامه قبل الوصول إلى وقف دائم لإطلاق النار في غزة، أي في ظل وضع حربي جديد يشبه إذا جاز التعبير نصف احتلال إسرائيلي، لجهة احتفاظ تل أبيب بالسيطرة الأمنية وحرية الحركة في القطاع المحاصر.

وبالتوازي هناك أسئلة لبنانية داخلية تطرح نفسها هنا وتتصل بالتوازنات الطائفية المختلة أصلا في النظام اللبناني، فهل يزيد اتفاق كهذا هذه الاختلالات؟ الأكيد نعم، لكن السؤال ماذا سيكون رد فعل الطوائف المتضررة من هذه التسوية وبالأخص المسيحيين بتصورهم عن لبنان وحضورهم ونفوذهم فيه؟
قراءة في مواقف القوى السياسية– الطائفية خلال الحرب الحالية تفيد بأن الزعيم الدرزي وليد جنبلاط يقيم حساباته على أساس التفاهمات الإيرانية الأميركية، بينما تراجع جبران باسيل، رئيس “التيار الوطني الحر” المسيحي وحليف “حزب الله” منذ 2006، عن انتقاداته للحزب وللحرب في الجنوب، في تحسب ربما لضرورة الالتحاق بالتسوية، أما السنة فعلى انكفائهم ككتلة شعبية وسياسية.
لكن في مجمل الأحوال فإن التناقضات التي ستنتهي إليها الحرب والتي أظهرتها تطوراتها والمواقف منها لناحية الانقسام اللبناني العمودي، ترخي بظلال من الشكوك والأسئلة عما إذا كان “تفكك لبنان السياسي” (وفق تعبير الموفد الفرنسي جان إيف لودريان) سيستتبع تفكك لبنان الجغرافي..
لا جواب أكيدا حتى الآن، لكن معادلات السلام قد تكون أحيانا أخطر من معادلات الحرب، سواء في غزة أو لبنان.

 

المصدر : https://www.majalla.com/node/318491/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%AD%D9%85%D8%A7%D8%B3-%D9%88%D8%AD%D8%B2%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M