قد لا تكون البيانات والمواقف الصادرة من حوزة النجف الاشرف مؤخراً في التنديد بجرائم الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين في قطاع غزة بالمفاجئة، اذ وعلى طول تاريخها كان لأعمدة حوزة النجف الاشرف والمتمثلة بالمرجعيات الدينية والفكرية مواقف واضحة في رفض الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه التي تطال الفلسطينيين، واغتصاب أراضيهم قهراً، وزج أبنائهم في المعتقلات، ومحاصرتهم، وتجويعهم، وقتل شيوخهم واطفالهم ونسائهم، وتجريف أراضيهم، وقصف مدنهم في أطار حالة البطش والعدوان التي تقوم بها آلة القتل والتوحش الإسرائيلي.
من هنا وبعد عملية طوفان الأقصى التي قامت بها الفصائل المقاومة في قطاع غزة في السابع من تشرين الاول/أكتوبر 2023 التي استهدفت مرافق امنية وسكانية إسرائيلية وما اثرته من تداعيات متوحشة تنفذها حكومة نتنياهو تجاه أبناء القطاع، ومدن فلسطينية أخرى ذهب ضحيتها عشرات الالاف من القتلى والجرحى من المدنيين بل شمل التصعيد عمليات اغتيال وقصف ليس فقط في حدود الأراضي الفلسطينية وانما حتى دول إقليمية ومن ذلك حالات الاغتيال والقصف الذي تشهده الضاحية الجنوبية في لبنان وما شهدته العاصمة الإيرانية طهران من اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس السيد إسماعيل هنيّة، ورئيس الوزراء السابق ابان فوز الحركة في الانتخابات الفلسطينية، ومن ثم القصف المتكرر للمدارس التي تأوي مشردين ونازحين، ومن ذلك القصف الإسرائيلي (لمدرسة التابعين) التي أدت الى سقوط عشرات المدنيين بين قتيل وجريح.
وبقدر ما اتسم موقف المرجعية الدينية وعموم اقطاب حوزة النجف الاشرف من مؤسسات دينية وفكرية واجتماعية ثابت الاتجاه بالقضية الفلسطينية الداعي الى انهاء الاحتلال الإسرائيلي، ورفض سيطرته بالقوة على المدن الفلسطينية فإنها -أي المرجعية الدينية في النجف الاشرف- تجدد بين الحين والأخر موقفها الداعم للقضية الفلسطينية والتنديد بجرائم الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين، ولعل آخر ما صدر عن مرجعية السيد السيستاني بيان واضح المضامين في العاشر من اب/ أغسطس ٢٠٢٤ برفض الاحتلال والتنديد باستهدافاته وعدوانه في الأسابيع الأخيرة بحق أبناء القطاع بالإضافة الى تصعيده تجاه أبناء الضاحية الجنوبية في لبنان، واستهداف رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في طهران، وهو ما ينذر بتطورات خطيرة في المنطقة، ومن ذلك نددت المرجعية الدينية في بيانها بالتصعيد والهجوم الإسرائيلي بحق المدنيين في قطاع غزة: “مرة أخرى ارتكب جيش الاحتلال الإسرائيلي مجزرة كبرى في قطاع غزة الأبية باستهداف من تؤويهم (مدرسة التابعين) من النازحين والمشرَّدين، أدّت الى سقوط أعداد كبيرة من المدنيين الأبرياء بين شهيد وجريح، في جريمة مروعة تضاف الى سلسلة جرائمه المتواصلة منذ ما يزيد على عشرة أشهر.
وقد اشتملت عمليات التصعيد الإسرائيلي كجزء من حلولها الامنية عن طريق الاغتيالات وصفتها المرجعية الدينية بالغادرة استهدفت قيادات بارزة في مقاومة الاحتلال وأدّت إلى استشهاد عدد منهم في إشارة الى اغتيال المستشار العسكري في حزب الله السيد فؤاد شكر، ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس السيد إسماعيل هنيّة، وفي الوقت ذاته اكدت المرجعية الدينية بأن التصعيد الإسرائيلي في المنطقة واستهداف قادة كبار خرقا للقانون الدولي والاعتداء على حرمة الدول، وهو ما قد يتطور الى حرب او صدامات إقليمية وبذلك جاء في بيان المرجعية الدينية: “وقد خرق بها سيادة عدد من دول المنطقة، وزادت بذلك مخاطر وقوع مصادمات كبرى فيها تتسبب لو حدثت في نتائج كارثية على مختلف دول هذه المنطقة وشعوبها”.
وفي ذات السياق، عدت المرجعية الدينية الجرائم الإسرائيلي بانها: “فعل وحوش بشرية” في ظل غطاء دولي من قبل بعض الدول الكبرى دون ان تسميها ولعل في ذلك إشارة الى الولايات المتحدة، وبريطانيا: “الجرائم النكراء التي باءت بآثامها وحوش بشرية تجرّدوا من كل القيم الإنسانية والمبادئ السامية، ومن المؤسف أنهم يحظون بدعم غير محدود من عدد من الدول الكبرى يمنع من أن تطبق عليهم القوانين الدولية الخاصة بمرتكبي الجرائم ضد الإنسانية”.
وفي الوقت ذاته دعت المرجعية الدينية العالم من شعوب وأنظمة وفي مقدمتها بلدان العالم الإسلامي الى موقف واضح بوجه ما أسمته بـ”التوحش الفظيع”، الذي تقوم بها حكومة نتنياهو في فلسطين وعدد من بلدان المنطقة: “إننا ندعو العالم مرة أخرى للوقوف في وجه هذا التوحش الفظيع ومنع تمادي قوات الاحتلال عن تنفيذ مخططاتها لإلحاق مزيد من الأذى بالشعب الفلسطيني المظلوم، كما ندعو الشعوب الإسلامية خاصة الى التكاتف والتلاحم للضغط باتجاه وقف حرب الإبادة في غزة العزيزة وتقديم مزيد من العون إلى أهلها الكرام”.
وهنا تؤكد المرجعية الدينية في بيانات سابقة من ضرورة انتقال الخطاب من صفة صمت الضمير الإنساني العالمي، إلى صفة مَنْ يساند هذه الأعمال الإجرامية، لكي يوازن بين الفعل الإجرامي والفعل الإسنادي، ليشير على نحوٍ غير مباشر إلى أن الفعلين متطابقين من جهة الإجرام، فالتبرير كناية عن العلم بالشيء، وتحريف مساره بذريعة الدفاع عن النفس.
تأتي هذه البيانات في ظل موقف مرجعي واجتماعي عراقي واضح بالتنديد بالجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، ومن ذلك صدرت عدة بيانات طوال الفترة الماضية، وشهد العراق حملات اجتماعية وشعبية متضامنة من مظلومية الفلسطينيين في قطاع غزة، وعموم المدن الفلسطينية ومن ذلك شهد العراق عدة مظاهرات مليونية رافضة للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وحملات تضامنية مثل ارسال عشرات الشاحنات المحملة بالمواد الغذائية الى أبناء الشعب الفلسطيني عبر الأردن، وهذا ما تبناه مكتب السيد الشهيد الصدر، وهناك حملات أخرى تطالب شعوب وأنظمة العالم الى ممارسة أدواراً اكبر في وقف هجوم حكومة نتنياهو على المدن والسكان في فلسطين، وكانت هناك مواقف اكثر تصعيداً، وهو التجمهر والاستعداد من قبل البعض على حدود بعض البلدان المجاورة للعراق والمجاورة للأراضي الفلسطينية للمطالبة لها بالسماح للعبور الى تلك الأراضي لغرض المواجهة العسكرية مع الكيان الإسرائيلي، وهو الموقف الذي لم يحظ لا بالدعم ولا بالرفض من قبل اقطاب الحوزة العلمية في النجف وربما يفسر ذلك على ان المرجعيات الدينية لا تريد ان تدخل في أزمات مع الأنظمة السياسية لتلك الدول التي لها اتفاقيات سلام مع الكيان الإسرائيلي وربما لعدم احراج الحكومة العراقية والقوى السياسية المشكلة لها التي تحاول ان تحيد الفصائل المسلحة في العراق والتي تتبنى موقفاً رافضاً للوجود الأمريكي في العراق، وتعد نفسها أي الفصائل المسلحة جزء من حالة المواجهة التي يتبناها المحور الذي تقوده ايران ضد الولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة.
وتجدر الإشارة الى ان مرجعيات دينية أخرى أصدرت بيانات نددت بالجرائم الإسرائيلية المستمرة، ومن ذلك ما أصدرته مرجعية اية الله محمد تقي المدرسي، واية الله الشيخ محمد إسحاق الفياض، واية الله الشيخ بشير النجفي، واية الله الشيخ محمد اليعقوبي، وهذا ما أكدته لدى استقبالها لوفود علمائية ودبلوماسية فلسطينية زارت العراق خلال الفترة الماضية، وهي مواقف قوبلت بثمن عال من قبل تلك الوفود لمناصرة أصحاب الأرض والمدافع عن المظلومين في فلسطين، وعند تحليل البيانات الصادرة من اقطاب الحوزة العلمية في العراق بخصوص عملية طوفان الأقصى وما تلاها من تداعيات يجد المراقب ان هناك تأييداً ومناصرة لتلك العمليات كجزء من حالة رد الحقوق والوقوف بوجه آلة القمع والتوحش التي تمارسها الحكومات الإسرائيلية واخرها حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، وجاء في بيان لمرجعية السيد السيستاني بعد أيام من عملية طوفان الاقصى في تشرين الأول/ أكتوبر2023 مذكرة من انّ إنهاء مأساة هذا الشعب الفلسطيني المستمرة منذ سبعة عقود لا تكون لا بنيله لحقوقه المشروعة وإزالة الاحتلال عن أراضيه المغتصبة هو السبيل الوحيد لإحلال الأمن والسلام في هذه المنطقة، ومن دون ذلك فستستمر مقاومة المعتدين وتبقى دوّامة العنف تحصد مزيداً من الأرواح البريئة، من جانب اخر اشارت مرجعية اية السيد محمد تقي المدرسي من أن الأحداث التي تشهدها الأراضي الفلسطينية المحتلّة في طور عملية طوفان الاقصى، تكشف عن نهضةٍ حقيقيةٍ، إذ أن الأمة إذا استيقظت وأسست ثقافتها على أساس بصائر الوحي، فإنها ستكون قادرةً على هزيمة أعتى القوى الظالمة في الأرض على حد تعبير البيان.
ومما تقدم، فأن مدلولات وابعاد المواقف الصادرة من حوزة النجف بمختلف اتجاهاتها ومعالمها ومراحلها التاريخية من انها مع تأكيد موقفها الثابت منذ نشوء الازمة المتمثلة بالاحتلال والاستيطان الإسرائيلي على الأراضي العربية في فلسطين، وانها لم تدعم أي جهود دولية ساعية الى فرض محاولات توقيع مذكرات السلام مع الكيان الإسرائيلي على حساب حقوق الشعب الفلسطيني في استرجاع كامل أراضيه ودولته المغتصبة وبقدر ما يتعرض له الشعب هناك من مظالم مستمرة كحرب الإبادة التي تشهدها الأراضي الفلسطينية خاصة في قطاع غزة فأن حوزة النجف في مقدمة المؤسسات الشعبية والمجتمعية والدينية في العالم الداعي الى إيجاد حل جذري يضمن للشعب الفلسطيني حقه في استرجاع أراضيه وانهاء سلطة الاحتلال داعية في ذات الوقت الى تثبيت حق أبناء الشعب الفلسطيني في الكفاح المسلح من اجل تلك الحقوق، ووقف الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة تجاه المقدسات، والأرض، والارواح، ونيل حريته الكاملة، والعيش شأنه شأن كل الشعوب المستقلة في عالم اليوم.
المصدر : https://www.mcsr.net/news916