د. عبد الحسين شعبان
استدار الكثير من الماركسيين والقوميين والإسلاميين نحو الليبرالية، بل تسابقوا في الهرولة باتجاهاتها، باعتبارها خشبة خلاص أو طوق نجاة بعد انهيار التجربة الاشتراكية الكونية في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية والعديد مما أطلقنا عليه بلدان ” التحرر الوطني”، بل إن الكثير منهم اندفع في “طلاق بائن” بينه وبين الماضي، سواء كان الأمر على نحو معلن لدرجة المبالغة والمغالاة أم على نحو مستتر وغير معلن بالتساوق مع مشاريع خارجية بزعم أهمية ودور ” العامل الدولي” في قضية “التغيير والتحوّل الديمقراطي”، ولعلّ أوساطاً عديدة حين تتساوق مع الليبرالية الجديدة ومشاريعها السياسية تبرّر ذلك بمفاهيم قديمة حول الليبرالية الكلاسيكية، في حين ثمة اختلافات وفروق شديدة بينهما.
إذا الدعوة إلى الحريات وإعلاء قيمة الإنسان التي مثلتها الليبرالية الكلاسيكية قد استهوت نخبة وطنية في بلداننا، فإن أطروحات الليبرالية الجديدة، وشعاراتها بدت متعارضة مع شعوب وتطلعات بلدان المنطقة الهادفة إلى التحرر من ربقة الاستبداد الخارجي ومن صدمة الاستعمار التي ما تزال تأثيراتها مستمرة، فضلاً عن الرغبة في تحقيق التنمية البشرية المستدامة بجميع الميادين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والتربوية والقانونية، وبما يؤمن لها السير في طريق التقدم والرفاه.
وعلى الرغم من أن الليبرالية الجديدة لم تخفِ وجهها المتوحش منذ البداية، إلّا أنها كانت أكثر سفوراً وهمجية بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية الإجرامية التي حصلت في الولايات المتحدة بتفجير برجي التجارة العالميين في نيويورك والتي من نتائجها احتلال أفغانستان العام 2001 والعراق العام 2003، وكان من تعبيرات الليبرالية الجديدة إزاء منطقتنا طائفة من المشاريع الاستعمارية مثل “الشرق الأوسط الكبير” و”الشرق الأوسط الجديد”، فضلاً عن دعم “إسرائيل” في استراتيجيتها التوسعية الاستيطانية الإجلائية، بما فيها اعتبار القدس عاصمة “أبدية” لها، وإهدائها الجولان السورية تحت عنوان “الأمر الواقع”، بل وتأييدها في محاولة ضم غور الأردن وشمال البحر الميت، في إطار ما يسمى بصفقة القرن.
ومع ذلك فهناك من الشيوعيين والقوميين القدامى الذين ملأوا الأرض صراخاً ضد “الامبريالية العالمية” و”الرأسمالية الاستغلالية” البشعة، إلّا أنهم اليوم يحوّلون رحيلهم نحوها باعتبارها “منقذاً” لا يمكن التخلّص من هيمنة “الإسلاميين”، على الحكم دون دعمها.
أما الإسلاميون فقد تناسوا الحديث عن “الشيطان الأكبر”، وأصبحت واشنطن حليفاً وصديقاً استراتيجياً طالما أوصلتهم إلى منصّات الحكم ولذلك، استحقت الشكر على “تضحية” جنودها الذين اختلطت دماؤهم بدماء العراقيين (خلال غزوها) وهو ما ورد على لسان أرفع مسؤول عراقي حينها خلال زيارته إلى مقبرة إرلينغتون في واشنطن (مدفن جنود الاحتلال الأمريكي في العراق ووضعه اكيلاً من الزهور على أرواحهم (14 كانون الأول/ديسمبر/2011 عشية الانسحاب من العراق، وهو ما دعا الرئيس أوباما للقول أننا ننسحب ونحن مرفوعو الرأس) وهو أمر يحتوي على دلالات قانونية قد تلزم الحكومة العراقية في المستقبل بدفع تعويضات عن مقتل أو إعاقة هؤلاء الجنود.
وكان عدد من النواب الأمريكان قد أطلقوا حملة طالبوا فيها دفع تعويضات لعوائل الجنود الأمريكان، في حين صدرت أصوات وطنية عراقية مطالبة بتعويض واشنطن لبغداد بسبب الأضرار المادية والمعنوية التي لحقت بالعراق جرّاء الاحتلال بما يخالف قواعد القانون الدولي وما يسمّى بالشرعية الدولية، ناهيك عن المزاعم التي روّجت لها واشنطن بصدد أسلحة الدمار الشامل والعلاقة بالإرهاب الدولي وثبت عدم صحتها، حتى أن الرئيس جورج دبليو بوش الذي شن الحرب على العراق وبحماسة من رئيس وزراء بريطانيا توني بلير، اضطرّ إلى الاعتراف بذلك وهو ما فعله توني بلير لاحقاً.
فما الفرق بين الليبرالية والليبرالية الجديدة فلسفياً وأخلاقياً واقتصادياً وسياسة وثقافة؟ ارتفعت الموجة الليبرالية الجديدة بعد انهيار نظام القطبية الثنائية وتحلّل النظام الاشتراكي العالمي وحدوث تغييرات في نظام العلاقات الدولية، بتسيّد وهيمنة الولايات المتحدة كلاعب أساس في العلاقات الدولية ، واحتدم النقاش والجدل حول سؤال مركزي ارتبط مع الهبّة المطالبة بالحريات في منطقتنا، والتي سعت الولايات المتحدة إلى تخصيص مبالغ وإقامة مؤسسات لدعمها والتربية عليها، وذلك تحت عنوان الليبرالية والتحوّل الديمقراطي، هل هناك علاقة بين الليبرالية الكلاسيكية وبين الليبرالية الجديدة أم ثمة تعاكس وتعارض بينهما؟
لقد نشأت الليبرالية في أوروبا وفي عصر التنوير وصولاً للثورة الصناعية (1750-1850) في صراع مع النظام الإقطاعي ومع هيمنة الكنيسة، وتمكّنت بعد انتصار البرجوازية ونجاح ثوراتها من إقامة الدولة – الأمة State- Nation استناداً إلى قاعدة الحريات الفردية على المستوى الفلسفي، باعتبارها جزءًا من القانون الطبيعي والحرّيات الاقتصادية على المستوى الاقتصادي، وفقاً للقاعدة الشهيرة التي روّجت لها ” الثورة الفرنسية” 1789 ” دعه يعمل … دعه يمر” ، أي حرّية العمل والإنتاج والسوق، والحرّيات السياسية المدنية على المستوى السياسي مثل: حرّية التعبير وحق الاعتقاد وحق تشكيل الجمعيات والمشاركة في الحياة العامة والحق في تولي الوظائف العليا دون تمييز .
وقد نجحت الليبرالية في إقامة نظام برلماني يستند إلى المبادئ الديمقراطية وتشجيع الإبداع العلمي والثقافي والفني والأدبي، في مواجهة سطوة الفكر الخرافي والشعوذات التي امتازت بها القرون الوسطى، والتأكيد على العقلانية والعلم وأولية حرية الفرد.
باختصار بالليبرالية من حيث الجوهر تعتبر الحرّية والفردانية الباعث والهدف من حياة الإنسان لتحقيق سعادته ورفاهه في حاضره ومستقبله وفي تفجير طاقاته ومواهبه، وتلك نقطة جوهرية في جميع المدارس الليبرالية، فضلاً عن ذلك فهي تقوم على منظومة أخلاقية أساسها الانحياز للفرد وحرّيته بجميع أركانها في مواجهة الدولة.
ومن أبرز المفكرين الليبرالين جون ستيوارت ميل الذي يعتقد لكي ينمو رصيد الحرية عند الأفراد فلا بد أن تتوقّف الدولة عند حدود معينة لا تتجاوزها، لأن ذلك سيؤدي إلى الاستبداد ويقول ميل إن القسم الأكبر من الإنسانية لا يملك تاريخاً بالمعنى الحقيقي لأنه يئن تحت وطأة الاستبداد.
أما جون لوك فيعتبر من أوائل الفلاسفة الليبراليين حيث دعا إلى “العقد الاجتماعي” بالضد من نظرية ” الحق الإلهي” التي تدعو إليها الكنيسة ، وتحدّث عن حقوق الفرد الطبيعية في الحياة والحرّية والتملك، وقد ألهمت أفكاره ثورة الحركة الجارتية في إنجلترا 1688 والثورة الأمريكية 1776، وقد سبقه إلى ذلك هوبز وبيكون حيث تعمّق الأخير بالمذهب الحسّي واعتبر زعيمه وهو أحد روّاد الليبرالية الأوائل.
أما آدم سميث فيعتبر المنظّر الأساسي للمذهب الاقتصادي الفردي بدعوته إلى عدم تقييد المال وإشاعة الحرّية المطلقة في مواجهة الدولة، ويعدّ بحق “أبو الليبرالية ” الذي ساهم في بلورة أفكارها التي تقضي بإزالة العوائق وإطلاق حرّية المنافسة من كل قيد وإبعاد الدولة من التدخل في النشاط الاقتصادي وحفظ مسؤوليتها في حماية الأمن الداخلي والخارجي؛ وحين يسعى الفرد لتحقيق طموحه الشخصي ومصلحته فإنه يحقق بصورة ضمنية مصلحة المجتمع وهو ما أسماه آدم سميث اليد الخفية Invisible Hand.
لقد تواكب صعود الرأسمالية مع ظهور الحداثة وتطوّرا معاً فالعلاقات الإنتاجية كانت تعني مبدئين رئيسين هما : 1- الحق في الملكية الخاصة باعتباره حقاً “مقدساً” ، 2- حرية الوصول إلى السوق ، لكن هذه الحداثة تظلّ ملتبسة بشأن العلاقة بين السلطة والثروة فهي في الواقع تقوم على الفصل في مجالين ، كما يقول المفكر اليساري سمير أمين : الأول- الحياة الاجتماعية وهو مجال إدارة الاقتصاد المتعلق بتراكم رأس المال والثاني- مجال إدارة سلطة الدولة بالممارسة الديمقراطية عن طريق المؤسسات وحقوق المواطن والتعددية الحزبية وهذا الفصل يفرّغ الإمكانية التحريرية التي تدعيها الحداثة.
الليبرالية الجديدة لا يمكنها اليوم كونياً تجاهل المطالب الشعبية مثل الحد من البطالة وتأمين مستلزمات الصحة والتعليم وقضايا التقاعد والضمان الاجتماعي، كل تلك التي تتطلّب تدخل الدولة أحياناً، وهو ما واجهته الولايات المتحدة بشكل خاص والبلدان الرأسمالية الغربية بشكل عام في الأزمة الاقتصادية والمالية التي ضربت العالم في أواخر العام 2008 وبداية العام 2009 وما زالت تأثيراتها مستمرة، تلك التي فرضت شكلاً من أشكال “تدخل الدولة” إزاء انهيار مصارف كبرى وشركات تأمين عملاقة بالضد من الليبرالية الكلاسيكية الأولى التي كانت تريد المزيد من الحرّيات بوجه تغوّل الدولة، في حين تصبح بعض هذه القضايا ملحّة وراهنة، بل لا غنى عنها ، على الرغم من أن الجدل قائم بشأنها فحين أصدر الرئيس أوباما قانون التأمين الصحي Obama Care جاء الرئيس دونالد ترامب ليقوم بإلغائه، والأمر له علاقة بتخصيصات التعليم والضمان الاجتماعي وغيرها.
ويزداد تدخّل الدولة بقضايا العلاقات الاقتصادية والتجارية الدولية، وقد برز الأمر على نحو أشد في الصراع الأمريكي – الصيني الذي زاده حدّة تفشي وباء كورونا (كوفيد -19) في مطلع العام الجاري، والذي انعكس تأثيره الكبير على الحياة الاقتصادية والإنتاجية وقطاعات العمل المختلفة، والذي قاد إلى تعميق أزمة النظام الرأسمالي النيوليبرالي بتوجهاته الشعبوية ذات النزعة العنصرية الاستقلالية المعادية للأجانب بشكل عام وللعرب والمسلمين بشكل خاص.
لم يكن بناء النظام الليبرالي قد تم دفعة واحدة، بل احتاج الأمر إلى عدّة عقود أو حقب زمنية كاملة، ورغم التقدّم الذي أحرزته الفكرة الليبرالية إلّا أن مع مطلع القرن العشرين واجهت مأزقاً جديداً باشتداد ساعد الحركات الثورية والشيوعية بعد قيام ثورة أكتوبر الاشتراكية البلشفية عام 1917، حيث انشطر النظام الدولي إلى قسمين بما ترك تأثيراته على مستقبله، خصوصاً الإستقطابات الحادة، الأيديولوجية والسياسية.
ثمة وجه آخر للصورة فبعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945) وهزيمة الفاشية والنازية اللتان نشأتا في رحم النظام الليبرالي وشكلتا قطيعة معه، تأسست أنظمة عديدة للتحرر الوطني في بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وخصوصاً في ستينيات القرن الماضي، لم تكن على توافق مع الفكرة الليبرالية.
يمكن القول إن الرأسمالية دخلت مرحلة جديدة في الخمسينات والستينات كان أهم ملامحها “الحد من الليبرالية المطلقة” وتحديد الدور الذي تلعبه الدولة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي استناداً إلى نظرية الاقتصادي الشهير كينز حول النقود ، الذي تنبأ باستحالة تجنّب الرأسمالية كنظام من الوقوع في الأزمات الاقتصادية على غرار أزمة الكساد 1929-1933 ، إلّا إذا لعبت الدولة دور الموازن الموضوعي بين قوى الطلب والعرض ، وهو ما عرف “بدولة الرفاه” ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى مطلع السبعينات، حين اندلعت أزمة جديدة .
لكن النظام الرأسمالي ومن خلال آليات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تمكن من مواجهة أزماته من خلال محورين:
الأول – داخلي بإتباع سياسة ليبرالية جديدة تراهن على إضعاف دور الدولة في النشاط الاقتصادي وتسعى إلى تغيير أشكال علاقاتها بالقطاع الخاص بما يعني التراجع عن النظرية الكينزية.
الثاني – يسعى إلى ضخ الأموال الفائضة على البلدان النامية بضمانات كافية بالتخفيف من حدة التضخم الركودي وإعادة احتواء البلدان النامية والسيطرة على أوضاعها الاقتصادية . وهكذا وبعد انتهاء الحرب الباردة جرت عودة إلى “الليبرالية” بمنهج ورؤية جديدين ووجه مختلف تم التعبير عنه بسياسة المحافظين اليمينيين في الولايات المتحدة والعديد من البلدان الغربية تلك التي عرفت بالشعبوية.
وبعد مرور أكثر من قرنين من الزمان ترافق الحديث عن الليبرالية الجديدة بصعود رونالد ريغن في الولايات المتحدة ومارغريت تاتشر في بريطانيا في عقد الثمانينات بتعميق الفوارق الطبقية وازدياد نسبة الفقر؛ وعشية انهيار الكتلة الاشتراكية طرح فرانسيس فوكوياما نظريته التي بلورها لاحقاً بعنوان “نهاية التاريخ والرجل الأخير” الذي ركّز على ظفر الليبرالية ” الجديدة” على جميع الصعد باعتبارها النظام الأوحد القادر على دخول عالم ما بعد التاريخ ، وعلى من يريد أن يدخل التاريخ فعليه التخلي عن أيديولوجيته وعقيدته ويفككها ليتسنى له اعتناق الليبرالية التي تقوم على التعددية وحرية السوق واحترام حقوق الإنسان ، وقد اعتبر فوكوياما إن ما حصل من عمل إجرامي يوم 11 سبتمبر (أيلول) 2001 جاء ليؤكد ما ذهب إليه سابقاً من أن الليبرالية هي الخيار الإنساني الوحيد والشكل البشري الأخير من أشكال إدارة المجتمع مؤكداً إننا لا نشهد نهاية للحرب الباردة أو مرحلة من مراحل التاريخ ، بل “نهاية للتاريخ” ويعتبر ذلك حتمية تاريخية.
أما صموئيل هنتنغتون فقد ركّز على ” صراع الحضارات” واعتبره أمراً محتوماً باستهداف الإسلام بقيمه وتراثه كونه العدو الجاهز الذي يقف بوجه انتصار الليبرالية على المستويين السياسي والاقتصادي ، ليس هذا فحسب بل اعتبر البوذية والكونفوشيوسية في مواجهة أيضاً مع الحضارة المسيحية الغربية، لأن الفروقات من وجهة نظره ليست حقيقية، بل هي فروق أساسية أيضاً، فالحضارات تتمايز الواحدة عن الأخرى بالتاريخ واللغة والثقافة والتقاليد والدين، مشيراً أن تاريخ الإسلام خلال 14 قرناً يؤكد بأنه خطر على أية حضارة واجهها خصوصاً المسيحية.
لقد عرفنا أشكالاً من الإرهاصات الأولية الليبرالية الكلاسيكية في العديد من بلداننا العربية مثل مصر وسوريا والعراق ولبنان ، وخصوصاً في الثلاثينات من القرن الماضي وحتى نهاية الخمسينات ، وقد اقترنت تلك الأشكال بالدعوة لإعلاء قيم الحرية والحقوق السياسية والمدنية وبالتطور المستقل، لكن الموجة الجديدة من الليبرالية في التسعينات والتي اقترنت بسيادة نمط واحد متسيّد على العلاقات الدولية اختلفت عن دعوات الرواد في عالمنا العربي فقد كان هؤلاء مخلصون للقيم الليبرالية الحقيقية في حين أن دعاة الليبرالية الجديدة لا علاقة لهم بالقيم الليبرالية، بل إن ليبراليتهم لا تأخذ بنظر الاعتبار المصالح الوطنية العليا فكيف تكون ليبرالياً حقيقياً وتوافق على احتلال بلدك أو على ربطه بمعاهدات واتفاقيات مذلة ومجحفة وغير متكافئة، فقد كان الليبراليون الكلاسيكيون العرب دعاة تحرر ورفض للاستتباع وحسبنا هنا في العراق أن نستذكر مواقف كامل الجادرجي وحسين جميل ومحمد حديد وغيرهم، لكن جزع أو يأس أو عدم قدرة على التغيير اضطرت دعاة الليبرالية الجديدة الاستعانة بقوى خارجية على أوطانهم تحت تبريرات سياسية في جوهرها خارج دائرة الأطروحات الفلسفية والأخلاقية لليبرالية الكلاسيكية.
وإذا كان حال بلداننا يحتاج إلى تغيير جذري يأخذ بنظر الاعتبار القيم الليبرالية الكلاسيكية تلك التي تعلي من شأن الفرد والحرّية السياسية والمدنية واحترام حقوق الإنسان، إضافة إلى الحرّية الاقتصادية دون أن ننسى دور الدولة كضامن في العالم الثالث لتسريع التطور والتغيير، وتلك واحدة من خصائص التغيير الذي تنشده شعوب هذه المنطقة، وهو ما ذهب إليه قرار للأمم المتحدة لعام 2000 الذي نصّ على أن قضية الديمقراطية على المستوى العالمي هي ذات طبيعة استراتيجية وتستند إلى ثلاثة أسس:
الأول – لا وجود لنموذج عالمي واحد للديمقراطية
والثاني – التنوّع والطبيعة الغنية للشعوب وتجاربها
والثالث – المشترك الإنساني في التجربة البشرية بمعنى أنها نتاج تفاعل التجربة الإنسانية بحضاراتها المختلفة والمتنوّعة.
وأكّدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في الوثيقة الختامية لمؤتمر القمة العالمية 2015 أن “الديمقراطية قيمة عالمية تستند إلى إرادة الشعوب المعبّر عنها بحرية في تحديد نظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وإلى مشاركتها الكاملة في جميع نواحي حياتها” .
وكان زعماء العالم قد أعلنوا في إعلان الألفية الثالثة بألّا يدّخروا وسعاً لتعزيز الديمقراطية وتوطيد سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية وهو ما أكّدته في العام 2015 بتحويل عالمنا للتنمية المستدامة (جدول أعمال 2030).
وأستطيع القول أن الجيل الليبرالي العربي الأول يتمثل بـ: أمين الريحاني وطه حسين وأحمد لطفي السيد وسلامة موسى ويعقوب صروف وقاسم أمين وعبد الفتاح ابراهيم وكامل الجاردجي وحسين جميل ومحمد حديد وهاشم الأتاسي وفارس الخوري وخالد العظم وفرح انطوان وشبلي شميل ، ويمكن اعتبار محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ورفعت الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني وآخرين جزء من التيار الليبرالي العام وهؤلاء لا يربطون رابط مع تيار النيوليبرالية، خصوصاً وأن هؤلاء جميعاً أو غالبيتهم الساحقة كانوا دعاة تحرر من ربقة الاستعمار والاستبداد ودعاة حرية .
إن إخضاع الفلسفة للسياسة وهو منهج الليبراليين الجدد أفقد الفلسفة الليبرالية أي بعد فلسفي لدرجة لم يعد مفهوم الليبرالية الذي يدعون له على علاقة بالليبرالية الكلاسيكية ، والأمر سيّان سواء الليبرالية الجديدة الأمريكية والغربية اليمينية ، الشعبوية العنصرية، أم دعاة الليبرالية الجديدة في مجتمعاتنا حتى وإن تغلّفت بمهمة الوقوف ضد الاستبداد، فمثل هذه المهمة النبيلة لا ينبغي أن تتساوق مع الاستتباع وقبول الطغيان الخارجي بزعم التخلص من الاستبداد الداخلي، فأية ليبرالية رثة تلك التي تقبل بذلك؟ وللأسف لا يميّز البعض بين القواعد الديمقراطية والبعد الفلسفي لليبرالية من جهة وبين الليبرالية الجديدة ذات الوجه العنصري الاستعلائي، والتي اتخذت منحى شعبوياً في الغرب لا علاقة له بالاتجاه الليبرالي الكلاسيكي، ويزداد الأمر غرابة حين يتخذ الاصطفاف الطائفي والمذهبي والإثني في بلداننا من العباءة الليبرالية وسيلة لمشروعه السياسي، الذي لا علاقة له بالمنظومة الفلسفية الليبرالية.
ولعلّ النقد الأساسي الذي يواجهه الليبراليون الجدد، ولاسيّما في بلداننا هو عدم الربط بين الحرّية وضرورة التحرر ، وبين الممارسة الديمقراطية والتنمية للارتقاء بحاجات المجتمع وخصوصاً من الفقراء والمعدمين ، فضلاً عن ذلك إن استمرار الولاءات العشائرية والقبلية والطائفية والدينية، أي ما قبل الدولة وما دونها، تقف حائلاً أمام الفكرة الليبرالية بمعناها الكلاسيكي، بسبب غياب ثقافة مدنية وحقوقية تستند إلى المواطنة ، وهو الأمر الذي يصطدم مع الحداثة، لاسيّما بسيطرة الثقافة التقليدية والنزعة المركزية المتأصلة في الواقع العربي والدور الخارجي المتحكّم باقتصاديات بلداننا والذي أدى إلى إضعاف مبادئ السيادة لصالح العولمة.
رابط المصدر: