عومير كرمي
على الرغم من الاحتجاجات غير المسبوقة والتحديات العميقة الأخرى التي واجهت إيران في الأشهر القليلة الماضية، قدّم المرشد الأعلى رسائل متفائلة بمناسبة العام الجديد بقوله بأن مجرد السيطرة على التضخم الجامح من شأنه أن يحل معظم العلل الإيرانية.
عندما ألقى المرشد الأعلى علي خامنئي خطابه السنوي بمناسبة العام الإيراني الجديد في 21 آذار/مارس، برزت لحظة واحدة كفيلة بكشف الكثير. فعندما أشار إلى دعم الرئيس بايدن للاحتجاجات الجماهيرية الأخيرة في إيران، بدأ الحشد يهتف “الموت لأمريكا!” فقال لهم خامنئي الذي بدا انزعاجه واضحاً من المقاطعة: “نعم، الموت لأمريكا، ولكن دعوني أتكلم!” وأوجز هذا التبادل التوجه الرئيسي لرسائل نوروز لهذا العام، والتي اتصفت بإصرار مصطنع على أن جميع الأمور على ما يرام حتى في الوقت الذي يتعامل فيه النظام مع موجات من التحديات الداخلية والخارجية. فبعد قمع الاحتجاجات الأبرز في البلاد منذ عام 1979 دون تقديم أي إصلاح، سعى خامنئي إلى التقليل من أهمية الاضطرابات الاجتماعية المستمرة والإيحاء بالعودة إلى الحياة الطبيعية بعد أسوأ مرحلة من وباء “كوفيد-19”.
سفينة في مياه أكثر هدوءاً
غالباً ما يستخدم خامنئي خطابه السنوي بمناسبة عيد النوروز لمشاركة أفكاره حول الشؤون الداخلية والخارجية، وهذا ما فعله عندما ألقى الخطابين لهذا العام، خطاب 21 آذار/مارس ورسالة عشية عيد النوروز في اليوم السابق. وعكست بعض خطابات النوروز الأخيرة ظروف إيران القاتمة؛ على سبيل المثال، ألقى خامنئي خطاب عام 2020 من غرفة منعزلة بعد أسابيع قليلة من تفشي الوباء، مما دفع المرشد الأعلى إلى وصف العام السابق بـ “المضطرب” والبلاد بـ “سفينة في بحر هائج”. كذلك، ألقى خطاباته لعامي 2021 و 2022 عن بعد بسبب مخاوف من فيروس كورونا. ولكن خطابَي هذا العام كانا بمثابة عودة إلى الأجواء الاحتفالية التقليدية للمناسبة في مدينة مشهد المقدسة.
وبدأت الاحتفالات برسالة عشية عيد النوروز في 20 آذار/مارس، والتي عادةً ما تكون خطاباً أقصر يلخص العام السابق ويرسم مسار العام المقبل، ويركز على القضايا المحلية. وفي إشارة إلى أن العام الفارسي 1401 كان “مليئاً بالأحداث” الجيدة والسيئة على حد سواء، أكد خامنئي أن وضع إيران العام آخذ في التحسن. كما أصر على أن “أهم قضية للأمة” هي الاقتصاد، وحث المسؤولين على استثمار المزيد من الوقت في تحسين معيشة الشعب. وفي الواقع، كان العام الماضي سيئاً للعملة الإيرانية، حيث وصل مؤخراً سعر صرف الدولار إلى مستوى قياسي بلغ 600,000 ريال في أواخر شباط/فبراير.
ويستخدم خامنئي رسائله السنوية عشية عيد النوروز أيضاً للكشف عن شعاراته السنوية. وركزت تسعة من الشعارات العشرة الماضية على الاقتصاد، وكذلك فعل شعار هذا العام: “عام السيطرة على التضخم وزيادة الإنتاج”. وفي هذا السياق، سلط خامنئي الضوء على التضخم باعتباره المشكلة الرئيسية في البلاد، موضحاً أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية والسلع الأساسية يؤثر بشكل غير متناسب على القطاعات الأكثر ضعفاً في المجتمع. وفي اليوم السابق لرسالته، نشرت صحيفة “اعتماد” الإصلاحية رسماً بيانياً قاتماً يُظهر ارتفاعات كبيرة في الأسعار خلال العام الماضي، من بينها زيادة بنسبة 125% للحوم، و250% للبصل، و82% للبيض، و78% للأرز.
لكن خامنئي اعتمد مقاربة متفائلة تجاه هذه القضايا. فقد لفت إلى أن جميع البلدان – من بينها الدول ذات الاقتصادات القوية والمتقدمة – تعاني من مشاكل مماثلة، مؤكداً أن بعضها “أسوأ منا في هذا الصدد” ومشيراً ضمنياً إلى الفضائح المصرفية الأخيرة في الولايات المتحدة وأوروبا. ومن أجل “إنقاذ البلاد” من هذه المشاكل، حث المسؤولين على تحسين الإنتاج المحلي. واعتبر أنه إذا حدت إيران من مشاكلها الاقتصادية، فـ “سيتم أيضاً حل” العديد من مشاكلها الأخرى – يُفترض في إشارة إلى الاحتجاجات والاضطرابات الاجتماعية التي هزت البلاد منذ أيلول/سبتمبر. وأشار خامنئي، متابعاً بلغة التفاؤل، إلى أنه على الرغم من عدم تحقيق الأهداف التي وضعها للعام الماضي بالكامل، تمكنت البلاد من خفض معدل البطالة لديها، وتحقيق نمو في القطاعات البارزة، وإعادة تشغيل “آلاف المصانع”.
توحيد المؤمنين والتطلع إلى الشرق والكذب بشأن أوكرانيا
حافظ خطاب خامنئي في 21 آذار/مارس بمناسبة يوم النوروز على هذا التوجه الإيجابي. فخلال خطاب العام الماضي، لاحظ الكثير من المراقبين التناقض بين مزاعمه بالانتصار على الوباء وقراره بالبقاء في طهران وتجنب الاحتفالات الرئيسية مرة أخرى. أما في هذا العام فعاد أخيراً إلى المسرح الكبير في مدينة مشهد، حيث تحَدَّث من دون ارتداء كمامة أمام حشود من المصلين في حرم الإمام الرضا، إلى جانب شخصيات بارزة مثل ابنه مجتبى وقائد «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني حسين سلامي.
وأعلن المرشد الأعلى، متجاهلاً الاضطرابات المستمرة التي يشهدها نظامه منذ الخريف الماضي، أن إيران في وضع جيد. وسأل: “هل سبق أن سمعتم بدولة وثورة استطاعتا مقاومة ضربات أقوى دول العالم؟” ثم هاجم الغرب على خلفية “تدخله” في شؤون طهران الداخلية وتسببه بـ”رهاب غير مسبوق من إيران” عبر وسائل الإعلام. ومن وجهة نظره، يتمثل هدف الغرب بتغيير جوهر “النظام الديمقراطي الإسلامي” في إيران وتحويله إلى ديمقراطية غربية “مزيفة” تطيع “القوى المتغطرسة العالمية”. واعتبر أن هذه القوى تسعى إلى تقويض “نقاط القوة” في إيران، مشيراً إلى مُثل الراحل آية الله روح الله الخميني وولاية الفقيه، وهي العقيدة التي تمنح المرشد الأعلى سلطته. ولكن بدلاً من إضعاف إيران، كان لهذه الجهود تأثير معاكس على ما يُعتقد – على حد تعبيره، “تلقى جميع أولئك الذين دعموا أعمال الشغب الأخيرة صفعة على وجوههم من الناس”.
وبعد أن أساء خامنئي توصيف الاحتجاجات بشكل فاضح، دعا جمهوره إلى المحافظة على وحدته في مواجهة “الحرب الهجينة” الأمريكية ضده، وعدم السماح للاختلافات الصغيرة في الرأي بتحويل المجتمع إلى أقطاب أو إحباط معنويات الشباب. وأشار إلى أن الإيرانيين هم أهل إيمان، وحتى أولئك الذين يبدون أقل مناصرةً من الناحية الدينية لـ “قضايا معينة” لا يزالون يؤمنون بشدة بـ “القرآن والله والأئمة”.
وطبق خامنئي النهج الوردي ذاته على الشؤون الخارجية الإيرانية. فقد اعتبر أنه على الرغم من محاولات العدو عزل طهران دولياً، إلا أن عكس ذلك قد حدث. فربما تراجعت علاقات النظام مع أوروبا، ولكن علاقته مع دول الشرق الأوسط قد تحسنت، بينما أصبحت علاقاته مع آسيا “أقوى بنسبة 100%”. والمثير للدهشة أنه لم يذكر اتفاق الحكومة الأخير مع المملكة العربية السعودية، ربما بدافع من إحساسه بضبط النفس نظراً للعداء القديم بين الرياض وطهران. وعلى أي حال، عكس خطابه موضوع “التطلع إلى الشرق” الذي انتشر عبر الخطابات الإيرانية العام الماضي، بما في ذلك عناوين وسائل الإعلام المتكررة مثل “غروب شمس دعاة التمثل بالغرب” و”بروز الشرق”. وردد الرئيس إبراهيم رئيسي هذا الموضوع في خطابه عشية عيد النوروز، مشيراً إلى أن النظام العالمي الجديد يستلزم التحول إلى آسيا والتأكيد على موقع إيران الجيوستراتيجي الذي لا يمكن الاستغناء عنه في هذا النظام.
وكان الاصطفاف مع الشرق واضحاً أيضاً عندما ناقش خامنئي حرب أوكرانيا. فخلال خطاب عيد النوروز العام الماضي – الذي ألقاه بعد أسابيع قليلة من غزو روسيا – لم يذكر خامنئي موسكو لكنه انتقد الغرب بشدة على خلفية “نفاقه” المفترض بشأن الحرب. ولكن منذ ذلك الحين، كثفت طهران دعمها لروسيا، فقدمت طائرات بدون طيار سهلت حملة القصف التي شنها الكرملين على الأهداف المدنية الأوكرانية. ولكن على الرغم من توفر أدلة واضحة على هذا الدعم العسكري، أكد خامنئي في خطابه بمناسبة عيد النوروز أن إيران ليست متورطة في الحرب، ملقياً بالأحرى اللوم على واشنطن على خلفية بدء الصراع وإطالة أمده لمصلحتها الخاصة.
ما هي التوقعات لعام 1402؟
على الرغم من أن خامنئي انتقد محاولات واشنطن المفترضة لإضعاف إيران وإحباط معنويات شعبها، إلّا أن خطابه بمناسبة يوم النوروز لم يشر على وجه التحديد إلى المفاوضات النووية المتعثرة أو التطورات الأخيرة في البرنامج النووي للنظام. وبدلاً من ذلك، كرر حجته القديمة بأن أفضل طريقة لمواجهة العقوبات الأمريكية ليست عبر الطرق الدبلوماسية، بل من خلال الجهود المحلية التي تجردها من فعاليتها. ولا يُعتبر هذا الموقف مفاجئاً بما أن النظام يقلل من احتمالات العودة إلى الاتفاق النووي لعام 2015 منذ أكثر من عام.
وعلى وجه التحديد، شدد خامنئي على ضرورة الاستمرار في تقليل اعتماد البلاد على الغرب، مشيراً إلى كيفية قيام الدول الأخرى الخاضعة للعقوبات بتحسين وضعها من خلال أساليب مثل “وضع الدولار جانباً والتداول بالعملات المحلية”. كما تذرع بمفهوم النظام القديم المتمثل بـ”اقتصاد المقاومة”، فحث المسؤولين على الاعتماد على السلطات والموارد الداخلية للبلاد في معرض سعيهم إلى توسيع الإنتاج المحلي. وبرأيه، يستلزم ذلك بناء الثقة في القطاع الخاص وتشجيع الأفراد على الانخراط في المجال الاقتصادي، وبالتالي تحسين سبل عيشهم وتسهيل النمو الوطني المستمر والسريع. ويساعد هذا الخطاب في توضيح السبب الذي يجعل خامنئي يعتبر فعلياً أخطر مجموعة من التحديات واجهها النظام منذ عقود فرصة لتعزيز مهمته الأوسع نطاقاً المتمثلة في إبعاد الجمهورية الإسلامية أكثر وأكثر عن الغرب.
.
رابط المصدر: