أعلنت الولايات المتحدة وجود محاولات للتدخلات الأجنبية في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهو ما كان قد حدث من قبل روسيا في انتخابات عامي 2016 و2020، طبقًا لبيانات استخباراتية أمريكية تم رفع السرية عنها، إلا أن هذه المرة تؤكد الولايات المتحدة على وجود تدخل، أو محاولات للتدخل، ليس من روسيا فقط بل من الصين وإيران أيضًا.
وأعلنت وزارة الخارجية الأمريكية أنها ستتخذ إجراءات لمنع استخدام وسائل الإعلام المدعومة من مؤسسات خارجية، مثل الكرملين، كغطاء للقيام بأنشطة تأثير سرية تستهدف الانتخابات، عن طريق إدخال سياسة جديدة لتقييد التأشيرات لأفراد معينين في وكالات الإعلام الروسية، مثل “RT” و”سبوتنيك” وغيرها، بالإضافة إلى الإعلان عن عرض “مكافآت من أجل العدالة” بقيمة 10 ملايين دولار لمن يقدم معلومات معينة عن أي جهات أو مؤسسات تحاول التدخل في الانتخابات. وهو ما يجعلنا نتساءل عما حدث من تدخل في الانتخابات الرئاسية السابقة، ومدى تأثيره والقدرة على التدخل أو التأثير في الانتخابات المقبلة.
التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية السابقة
كانت الدوافع وراء التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعامي 2016 و2020 متعددة الأوجه، حيث سعت روسيا إلى تحدي وتقليص النفوذ الأمريكي على الساحة العالمية. ومن خلال التدخل في الانتخابات الأمريكية، هدفت روسيا إلى زعزعة استقرار أحد أهم خصومها، وزرع الفتنة بين حلفائها، والتشكيك في مصداقية المؤسسات الديمقراطية الأمريكية. استغلت روسيا أيضًا الانقسامات الاجتماعية والسياسية العميقة التي تعاني منها الولايات المتحدة بشكل واضح في السنوات الأخيرة، واستخدمتها بشكل فعال كأسلحة لتفاقم الاستقطاب وإضعاف التماسك المجتمعي.
أيضًا كان العملاء الروس، خاصة في انتخابات 2016، مهتمين بشكل خاص بترشيح دونالد ترامب، الذي أعرب عن إعجابه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتن ورغبته في تحسين العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا وقتها، حيث رأى الكرملين فرصة تولي مرشح تتوافق سياساته مع السياسات الروسية، بدرجة على الأقل، منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن لم يبق الوضع بنفس الدرجة في الدورة الانتخابية لعام 2020 والتي طغى فيها بشكل أكبر الرغبة في استغلال الانقسام الواضح في المجتمع الأمريكي، وهو ما يشير إلى تغيير الأهداف الاستراتيجية الروسية مع الوقت بين انتخابات 2016 و2020.
أولًا الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016: تميزت الانتخابات الرئاسية لعام 2016 بالتدخل الكبير من جانب الحكومة الروسية، طبقًا لما كشفته تقارير الاستخبارات الأمريكية، فكان هذا التدخل في المقام الأول من خلال وكالة الاستخبارات العسكرية “GRU”، والكيانات التي ترعاها موسكو مثل وكالة أبحاث الإنترنت “IRA”. أطلقت وكالة أبحاث الإنترنت حملات مكثفة عبر منصات التواصل الاجتماعي، بما في ذلك فيسبوك وإكس وإنستجرام. بالإضافة إلى إنشاء حسابات وصفحات مزيفة تروج لمحتوى مثير للانقسام، وتضخيم القضايا السياسية، وتأجيج الاستقطاب بين الناخبين الأميركيين. ووفقًا لتقرير صادر عن لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ الأمريكي، أنفقت وكالة أبحاث الإنترنت ما يقرب من 100 ألف دولار على إعلانات تستهدف فئات سكانية محددة، مع التركيز على قضايا مثل المهاجرين والقضايا العرقية وحيازة الأسلحة.
استخدمت روسيا كذلك، حسب التقارير الأمريكية، استراتيجيات لنشر نظريات المؤامرة، والروايات المحفزة للانقسام. وقد تم نشر منشورات على المدونات، وصور ساخرة، ومقاطع فيديو تستهدف الناخبين لزرع الفتنة وتقليل الثقة في نزاهة الانتخابات. وكان هذا التكتيك حاسمًا في نشر فكرة مفادها أن العملية الانتخابية يمكن أن تكون ملوثة، وبالتالي تشويه سمعة النتيجة. أيضًا اخترق عملاء روس أنظمة الكمبيوتر التابعة للجنة الوطنية الديمقراطية وحملة هيلاري كلينتون، المرشحة الرئاسية وقتها، وحصلوا على الكثير من البيانات والاتصالات، التي تم وصفها بأنها لا تقدر بثمن. وكان للإفراج اللاحق عن هذه المعلومات من خلال منصات مثل “ويكيليكس” عواقب وخيمة، حيث أفقدت التسريبات الثقة عند البعض في كلينتون، وعند البعض الآخر في نزاهة العملية الانتخابية ككل في ظل حدوث اختراقات ووجود ثغرات في الأمن السيبراني بهذا الشكل.
ثانيًا الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2020: مع استعداد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لإعادة انتخابه في عام 2020، تطورت جهود التدخل الروسي، مما يعكس محاولة الولايات المتحدة للاستفادة مما حدث في انتخابات 2016 والتصدي للتدخلات الروسية، إلا أن الجهات الفاعلة الروسية استمرت في الحملات التي تهدف إلى زرع الانقسام بين الناخبين الأمريكيين، مع التركيز على القضايا الاستقطابية مثل التوترات العرقية والصحة العامة، خاصة أثناء جائحة كوفيد-19. وأشارت تقارير الاستخبارات الأمريكية إلى أن هذه الجهود كانت تستهدف الجانبين الديمقراطي والجمهوري؛ في محاولة لتعزيز الشعور بالفوضى وانعدام الثقة في العملية الانتخابية.
وبناءً على البنية الأساسية التي أنشئت في عام 2016، أصبحت عمليات الاستخبارات الروسية أكثر تعقيدًا، باستخدام القدرات السيبرانية للتسلل وتعطيل الأنشطة السياسية. وفي حين كانت عمليات الاختراق المحددة رفيعة المستوى أقل بروزًا في عام 2020، لا يزال هناك دليل على جهود منسقة للتأثير على الخطاب العام وسلوك الناخبين.
وأدى وعي واشنطن بالتحركات الروسية بعد خبرة انتخابات 2016 إلى تكييف استراتيجيات العملاء الروس على الوضع، حيث استخدموا العديد من المنصات المختلفة مع محاولة إخفاء هويتهم بأشكال مختلفة، للتقليل من فرص كشفهم، وشمل ذلك استخدام جهات فاعلة غير روسية كوسطاء أو التظاهر بأنهم جزء من حركات سياسية مشروعة، بحسب تقارير الاستخبارات الأمريكية.
أدى التدخل الروسي إلى انخفاض الثقة في المؤسسات والعمليات الانتخابية، وتغذية نظريات المؤامرة والتشكك بين الشعب الأمريكي. ولا يهدد هذا التآكل في الثقة شرعية الانتخابات فقط ولكن أيضًا المبادئ الأساسية للديمقراطية الأمريكية، والتي تبني عليها واشنطن مكانتها العالمية، ونفوذها. أظهرت أيضًا هذه العمليات وتكرارها وجود ثغرات كبيرة في الأمن السيبراني الأمريكي، وهذا بالرغم من استفادة واشنطن من الهجمات السيبرانية الروسية في 2016 فإنها لم تستطع مقاومتها بشكل كامل في 2020، وهو ما يعد أيضًا ضربة قوية لصورة الولايات المتحدة سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي.
المشهد الحالي والعواقب المحتملة
مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية لعام 2024، يبدو أن أنشطة التدخل الروسية مستمرة وتتطور بشكل متزايد، حيث مازالت روسيا تستفيد من منصات وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات المراسلة لنشر معلومات تستهدف المرشحين السياسيين والقضايا الرئيسة التي من المرجح أن تلقى صدى لدى الناخبين الأمريكيين. هذا بالإضافة إلى الاستمرار في العمل على تضخيم السرديات السياسية المثيرة للانقسام، مع التركيز على مواضيع خلافية مثل الهجرة والقضايا العرقية والرعاية الصحية والسياسة الخارجية.
وطبقًا للتقارير الاستخباراتية وتصريحات بعض المسؤولين الأمريكيين، فإن روسيا قامت ببعض العمليات السيبرانية التي تهدف إلى اختراق أنظمة الأحزاب السياسية والحملات والبنى التحتية للأمن السيبراني. وعلى الرغم من وجود تدابير أمان أكثر صرامة منذ عام 2016 فإن نقاط الضعف لا تزال قائمة، مما يجعل سرقة البيانات وتعطيلها ممكنًا.
بالإضافة إلى ذلك، لا تزال البيئة الاجتماعية والسياسية في الولايات المتحدة شديدة الاستقطاب، بل ومن الممكن القول إن الانقسام داخل المجتمع الأمريكي أصبح أعمق وأكبر، وهو ما يوفر أرضًا خصبة للعملاء الروس الذين يسعون إلى استغلال الوضع لتضخيم حالة الاستقطاب وبالتالي الغضب وعدم الرضا. ومن المتوقع أن تستمر التكتيكات السابقة المتمثلة في خلق روايات مثيرة للانقسام عن المرشحين السياسيين والحركات السياسية، واستغلال قضايا مثل الوضع الاقتصادي، والإجهاض، والقضايا العرقية، وغيرها لتعميق التفتت المجتمعي.
وبالنظر إلى أنماط التدخل السابقة، يمكننا توقع استخدام روسيا لبعض المنظمات كواجهة لخلق جبهة للمعارضة المشروعة مع إخفاء النفوذ الروسي، مما يزيد من تعقيد محاولات محاسبة أي جهات فاعلة متورطة في التدخل الخارجي. من الممكن أيضًا محاولة تعطيل البنية التحتية للتصويت عبر الإنترنت، فعلى الرغم من تنفيذ تدابير أمنية كبيرة فإن الهجمات الإلكترونية المنسقة التي تستهدف البنية التحتية للانتخابات قد تحدث. وقد يؤدي تعطيل قواعد بيانات تسجيل الناخبين أو عملية التصويت نفسها إلى إثارة الشك حول شرعية الانتخابات، بغض النظر عن النتيجة الفعلية.
أيضًا من الممكن أن تعتمد روسيا بشكل أكبر على استخدام الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا، حيث أنها قد تستفيد من تقدم التقنيات التكنولوجية بشكل ملحوظ منذ آخر دورة للنتخابات في 2020، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، لصياغة حملات أكثر دقة، وأقل تعرضًا للكشف. وقد يتضمن هذا إنشاء مقاطع فيديو مزيفة أو محتوى رقمي مقنع آخر مصمم للتأثير في الناخبين، وربما حتى انتحال شخصيات مؤثرة لإضفاء مصداقية على الروايات المستخدمة لتحقيق الأهداف الروسية.
ومن أهم الأهداف التي تحاول روسيا التوصل لها هو عدم استقرار المشهد السياسي الأمريكي من خلال زرع الخلاف بنجاح في الولايات المتحدة، يمكن لروسيا تقويض مصداقية الديمقراطية الأمريكية، مما يثير تساؤلات حول فاعليتها على الساحة العالمية. ويمكن أن يخلق هذا الاضطراب فرصًا لروسيا لتعزيز نفوذها في المناطق التي تم فيها تحدي القيادة الأمريكية التقليدية.
بالإضافة إلى ذلك، يعد نجاح روسيا في الاختراق والتدخل في الانتخابات هذه المرة هدفًا أهم في ظل اقتراب الحرب الروسية الأوكرانية من مرور 3 أعوام على بدايتها، ففي حالة انشغال الولايات المتحدة بوجود اضطرابات وانقسامات داخلية وعدم رضا عن الوضع سواء خلال فترة الانتخابات، أو حتى بعد إعلان النتيجة؛ فمن الممكن أن تحصل موسكو على فرصة أفضل للتقدم سواء على مستوى النفوذ السياسي والدبلوماسي، او حتى على المستوى الميداني في حال انشغال واشنطن، وبالتالي الناتو، عن دعم كييف.
ويلاحظ أنه بالرغم من أن إعلان الولايات المتحدة أشار إلى وجود محاولات للتدخل في الانتخابات من الصين وإيران أيضًا هذا المرة فإن التركيز الأكبر، سواء على المستوى الرسمي أو حتى على المستوى الإعلامي، كان على التهديد الروسي. وقد يكون ذلك نابعًا من امتلاك روسيا خبرة أكبر في هذا الملف مما يجعلها أكثر قدرة على القيام بعمليات بدون أن تنكشف، هذا بالإضافة إلى قدرتها على التركيز على الأهداف الأكثر فاعلية، مما يجعل تهديد التدخل الروسي أكبر من أي تدخل خارجي آخر.
ولكن من اللازم أن ننظر إلى مدى فاعلية هذا التدخل على أرض الواقع، فبالرغم من نجاح روسيا في التدخل في الانتخابات الرئاسية من قبل، إلا أن مدى فاعلية هذا مازال محل جدال إلى الآن، حيث يجادل البعض أن أحد أسباب تفوق ترامب على كلينتون في 2016 كان التدخل الروسي، وأن يقظة الولايات المتحدة وتطور الأمن السيبراني فيها كان أحد أسباب فشله في الانتخابات التالية في 2020 حيث استطاعت واشنطن تحجيم فاعلية هذا التدخل، ولكن في حالة صحة هذه الفرضية هذا سيعني أن بطبيعة الحال سيكون التصدي الأمريكي في هذه المرة أقوى، مما سينتج عنه انخفاض فاعلية هذا التدخل بشكل كبير.
إلا أن رد الفعل الأمريكي يشير إلى وجود قلق كبير حول التدخل الروسي مما يدحض الفرضية الأولى. بينما يجادل البعض الآخر أن خطورة التدخل الروسي تكمن في تأثيرها على المدى البعيد، وأن الاستقطاب والانقسام في الشارع الأمريكي الناتج عن التدخل الروسي سيصبح أعمق مع الوقت وستكون نتائجه كارثية على واشنطن على المدى البعيد. ولكن عند النظر بموضوعية فإن الانقسام وحالة الاستقطاب في الولايات المتحدة كانت موجدودة بالفعل من قبل انتخابات 2016، وبالرغم من أن هذا لا ينفي استغلال روسيا لهذا لتحقيق مصالحها فإن حقيقة الأمر تشير إلى أن القائمين على المشهد السياسي في واشنطن لا يساعدون بأي درجة من الدرجات عل خفض حالة الاستقطاب هذه.
وفي الختام، بالرغم من نجاح موسكو في التدخل وربما التأثير بدرجة من الدرجات في الانتخابات الرئاسية الأمريكية فإننا لا يمكن أن نعزي تدهور حال المشهد السياسي الأمريكي بالكامل لهذا التدخل ولا حتى بنسبة كبيرة، فمسؤولية حالة الاستقطاب الضخمة والانقسام العميق في الشارع الأمريكي ترجع إلى كلا الحزبين؛ الجمهوري والديمقراطي بالكامل، وظهر هذا بشكل واضح في المناظرة الرئاسية الأخيرة بين كامالا هاريس ودونالد ترامب، وفي حملاتهما بشكل عام، حيث يعتمد كلاهما على مهاجمة وتشويه الآخر بدلًا من تقديم حلول أو استراتيجيات واضحة للتعامل مع القضايا الملحة في الشارع، وغيرها من الشواهد التي تشير إلى هذا. ومن الطبيعي بالنسبة لروسيا استغلال وجود ثغرة كهذه في الدولة التي تعد العدو الأكبر لها، أو على الأقل المتحدي الأساسي لها على الساحة العالمية، لأكبر شكل ممكن لتحقيق مصالحها ومحاولة التفوق عليها.