خطاب الرئيس قيس سعيد.. إشارات ورسائل للداخل والخارج

رامي شفيق

 

إشارات لافتة وعديد الرسائل التي بدت واضحة في خطاب الرئيس التونسي قيس سعيد، بمدينة المنستير شمال شرق العاصمة تونس، خلال تفقده إحياء ذكرى وفاة الرئيس المؤسس الحبيب بورقيبة، لا سيما ما تعلق بمسار المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. إذ وصفها سعيد بأنها “إملاءات تأتي من الخارج”. فيما عقب برفضه ذلك كونها تؤدي إلى مزيد من الأعباء الاقتصادية على المواطنين، بما يهدد السلم الاجتماعي وضرب مثلًا بوقائع محددة في التاريخ التونسي والتي عرفت بثورة الخبز خلال العام ١٩٨٤.

نحو ذلك لم تستطع تونس التوافق نحو اتفاق مع صندوق النقد الدولي، للحصول على قرض بقيمة 1.9 مليار لتعزيز مواردها المالية بعد أشهر من المفاوضات، بدعوى إصلاحات اقتصادية يشترطها الصندوق، ولا تحظى بموافقة ودعم من الاتحاد التونسي للشغل، خاصة ما يرتبط ببنود تتعلق بخفض دعم المواد الغذائية والطاقة، وإصلاح الشركات العامة وتخفيض الأجور.

وفي ذات السياق أوضح وزير الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين، نبيل عمار، في تعليقه على تعثر مفاوضات تونس مع صندوق النقد الدولي للحصول على القرض إن “الصندوق وضع شروطًا في حين أن تونس تريد إجراء إصلاحات”. وقال إنه “لا يمكن إجبارنا على إصلاحات جذرية خلال فترة قصيرة”.

بل إن المفاوضات مع صندوق النقد الدولي لا تزال مستمرة، وفق الوزير التونسي، مؤكدًا في حوار مع صحيفة “لا ريبوبليكا” الإيطالية أن الأولوية هي “التفكير في العدالة الاجتماعية وإلا سيكون هناك المزيد من التونسيين الذين سيهاجرون بشكل غير قانوني إلى أوروبا”. الوزير الذي من المتوقع أن يقوم بزيارة إلى إيطاليا خلال الأيام المقبلة، قال: “نحن نتفاوض مع صندوق النقد الدولي والحكومة الإيطالية تدعمنا كثيرًا” في هذا الصدد. وقد دعا نبيل عمار إيطاليا والاتحاد الأوروبي إلى “توسيع قاعدة التعاون خارج نطاق المهاجرين” لافتا إلى أن “تونس لديها الكثير من الإمكانات”.

إذًا، ليس ثمة شك أن تغيرات جيوسياسية تحيط بالسياسة الدولية، وتداعيات ذلك على كافة الأوضاع الإقليمية، وما يترتب على ذلك من محاولات القفز على الأدوار والمنافسة عليها. ويمكن فهم التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الإيطالي في حتمية استقرار ونمو تونس عبر منافستها للوجود الفرنسي في شمال أفريقيا، واستمرار خطة روما ورئيسة الوزراء جورجيا ميلوني، في استكمال الرؤية الاستراتيجية في تلك المنطقة المهمة في شمال أفريقيا والبحر المتوسط حيث موارد الطاقة والغاز.

الأمر الذي يمكن ملاحظته عبر جملة التصريحات التي صدرت عن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال مؤتمر صحفي في بروكسل قائلًا “إن التوتر السياسي الكبير جدًا في تونس والأزمة الاقتصادية والاجتماعية المستعرة في ظل غياب اتفاق مع صندوق النقد الدولي مقلقة للغاية”، ووفق ماكرون فإن ذلك “يؤدي إلى زعزعة كبيرة للغاية لاستقرار البلاد والمنطقة وإلى زيادة ضغط الهجرة على إيطاليا والاتحاد الأوروبي”، داعيًا إلى “العمل معًا” على المستوى الأوروبي لمساعدة تونس والسيطرة على الهجرة”.

وشدد الرئيس الفرنسي أنّه “على المدى القصير جدًا نحتاج إلى النجاح في وقف تدفق المهاجرين من تونس” موضحًا أنه تناول الموضوع مع رئيسة الوزراء الإيطالية خلال اجتماع ثنائي. وعليه، فالرئيس التونسي الذي وصف مهمته “لتحمل المسؤولية ولن يتخلى عن المسؤولية” يبعث بعدة رسائل سياسية تستهدف القوى الفاعلة في الداخل سيما المنظمة الشغيلة، وأخرى تتعلق بالدول الأوروبية، خاصة إيطاليا، التي جاءت تصريحاتها مؤخرًا تدعم بلاده في ملف صندوق النقد الدولي، وكذا ضرورة مساعدتها للخروج من الأزمة الاقتصادية على خلفية الخوف من تدفقات الهجرة غير الشرعية

إلى ذلك تتحرك آليات السياسة مرة عبر تصريحات الرئيس سعيد، وأخرى من خلال الدبلوماسية للاستفادة القصوى من تلك الأجواء، وممارسة أكبر قدر من توظيف تلك الاعتبارات لتحسين شروط التفاوض مع صندوق النقد الدولي، والسماح بخروج قيمة القرض للمرور بأمان من العثرة الاقتصادية وتبعاتها على كافة الأصعدة، خاصة أن البلاد اجتازت الانتخابات البرلمانية وانتظم مجلس نواب الشعب وانتخب هيئة المكتب ورئيس المجلس، وبذلك يأمل في التئام وضع البلاد على كافة الأصعدة.

المدقق في حديث الرئيس التونسي الخميس الماضي، يدرك تمامًا أن ثمة خطابًا يستهدف الشأن الداخلي أيضًا، كونه صرح بأنه لا يوافق على رفع الدعم رغم إقراره بما يحدث في هذا الأمر من تلاعبات واستغلال للمواد الغذائية التي تحظى بدعم الدولة، ويرى ضرورة العمل على توجيه الدعم لمستحقيه. فضلًا عن إشارة واضحة نحو مخاطبة المنظمة الشغيلة التي تقف حجر عثرة في وجه اشتراطات صندوق النقد الدولي، عبر مقولاته التي تشي أنه يرغب يقينًا في حلحلة الأزمة المالية والاقتصادية، ولكن ليس على حساب السلم الاجتماعي الذي عبر عنه قائلا “السلم الأهلي ليس باللعبة أو الأمر الهين”.

وهنا، يهدف الرئيس سعيد إلى مساحة مشتركة فيما بينه والاتحاد التونسي للشغل، حتى يستطيع الاستفادة من تلك الأجواء التي دفعت ملف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي نحو العلن، والتصريحات الداعمة لملف بلاده على خلفية تدفقات الهجرة غير النظامية، خاصة أن البيانات الرسمية تشير إلى أن إيطاليا تستقبل أعدادًا كبيرة من المهاجرين الوافدين من تونس عبر البحر الأبيض المتوسط، وتفيد الأرقام الرسمية بأن روما استقبلت أكثر من 32 ألف مهاجر في العام الماضي، من بينهم 18 ألف تونسي حيث تبتعد السواحل التونسية عن جزيرة لاميبدوسا الإيطالية نحو 150 كم فقط.

وفي المحصلة، نجد الرسائل السياسية التي استهدفت بالأساس متغيرات السياسة الدولية، وديناميات المنافسة بين الدول، ثم حرص الرئيس قيس سعيد على التهدئة مع المنظمة الشغيلة، واستحداث مساحات مشتركة فيما بينهما، بحيث تعينه على ممارسة أكبر قدر من المناورات التكتيكية في السياسة الخارجية، وتوظيف الاستقرار والهدوء في الداخل، بما يصب في حساب تحقيق الدعم لتونس في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بالصورة التي تمنحه المرور بعيدًا عن أي مواجهة مباشرة مع الاتحاد التونسي للشغل. من خلال ذلك كله يمضي الرئيس قيس سعيد نحو حشد كافة أوراقه وتوجهاته بغية تعزيز رؤيته في جمهورية تونسية جديدة.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/76626/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M