مايكل هيرتسوغ
تمثل خطة السلام التي اقترحها الرئيس دونالد ترامب تحولاً عميقاً في المفهوم العام من كل محاولة سابقة منذ عام 1993 – والتي شارك في معظمها كاتب هذه السطور بصورة نشطة – لمعالجة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وباعتبارها خطة يمكنها أن تؤثر على العناصر الأساسية للأمن القومي الإسرائيلي، فإنها تستحق أن تكون موضوعاً للمداولة العامة بعيداً عن صخب الحملة الانتخابية [في إسرائيل] .
لقد كان المفهوم العام الذي استرشَدتْ به إسرائيل في المفاوضات السابقة يستند إلى أن هذا صراع بين حركتين وطنيتين لهما مطالب وسرديات تاريخية متناقضة حول نفس القطعة من الأرض بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط. ولا يمكن للمرء أن يتجاهل الواقع الديموغرافي، ولا ينبغي لأحد أن يفترض أن الفلسطينيين سيتخلون عن سرديتهم الخاصة. لذلك، إذا أرادت إسرائيل ضمان مستقبلها كدولة يهودية وديمقراطية، فعليها أن تسعى جاهدة لإيجاد واقع جديد – واقع متفق عليه بشكل متبادل، وغير مفروض – على أساس الانفصال السياسي وتقسيم الضفة الغربية.
يجب على هذا الواقع الجديد أن يتغلب على السرديات التاريخية، ويعمل على إيجاد توازن بين احتياجات إسرائيل الأمنية الجوهرية والتطلعات السياسية الفلسطينية، وتحقيق نهاية للصراع. لقد حقق العديد من رؤساء الوزراء الإسرائيليين التوازن الذي رغبوا فيه في نقاط شتى بشكل مختلف عن بعضهم البعض، لكنهم جميعاً (بمن فيهم بنيامين نتنياهو) دخلوا في مفاوضات على أساس هذا المفهوم.
وحالياً، وللمرة الأولى، بالتشاور مع إسرائيل، تقدم الولايات المتحدة خطة مفصلة تضم خريطة لحل جميع القضايا الأساسية بشكل كامل – وتنعكس بشكل قاطع لصالح السرد التاريخي للحركة القومية اليهودية. فهي لا تخلص إلى نتيجة حاسمة بشأن مسألة احتياجات كل طرف من أطراف الاتفاق فحسب، بل حول مسألة من هو على حق أيضاً. كما لا تعالج فقط القضايا التي خلقتها حرب الأيام الستة عام 1967 (“ملف 67”)، بل أيضاً تلك الناشئة عن حرب 1948 (“ملف 48”)، من بينها إعادة النظر في خطوط الهدنة لعام 1949. وهي تُعيد تشكيل مناطق ما بعد عام 1948 وما بعد عام 1967، وكتصحيح تاريخي، تقترح (نظرياً) نقل بعض المناطق التي يسكنها مواطنون عرب – إسرائيليون (“المثلث”) إلى الدولة الفلسطينية الجديدة.
وتجادل إدارة ترامب بأن المفهوم القديم قد فشل، وبالتالي فإن الأمر يتطلب مفهوماً جديداً. وفي الواقع، وحسب تقديري، لم نقترب قط من تحقيق انفراجة كان من شأنها أن تؤدي إلى التوصل إلى اتفاق حول الوضع النهائي؛ ولم ننجح قط بصورة كاملة في سد الثغرات حتى في واحدة من القضايا الأساسية.
وهذه المساحة قصيرة جداً لتحليل سبب حدوث ذلك. وبصرف النظر عن ذلك، فبعد أكثر من 25 عاماً من الفشل، وصلنا اليوم إلى النقطة التي لا أستطيع أن أرى فيها أن الطرفين يملكان أي فرصة لدمج الحد الأدنى من مطالبهما في اتفاق من شأنه أن يحل القضايا الأساسية وينهي الصراع وجميع المطالبات المتبادلة. وفي غضون ذلك، ابتعد الجانبان بصورة أكثر عن إمكانية التوصل إلى اتفاق – في واقعهما المادي والسياسي وفي تصوراتهما أيضاً.
صحيح أنه لا ينبغي تقديس مفهوم قديم لم ينجح، وأنه من المناسب إعادة النظر في افتراضاتنا الأساسية. ولكن هل خطة ترامب تشكل المفهوم البديل الصحيح لإسرائيل؟ علينا الإجابة في البداية على العديد من الأسئلة الأولية.
هل توفر خطة ترامب وسائل عملية لإسرائيل لتلبية احتياجاتها الأمنية في واقع ما بعد الاتفاق؟ نعم، بالتاكيد. فالدولة الفلسطينية ستكون منزوعة السلاح فعلياً. وستتحمل إسرائيل المسؤولية الأمنية عن كامل الأراضي والسيطرة على وادي الأردن. كما ستتحكم في المجال الجوي، والفضاء البحري، والطيف الكهرومغناطيسي، وأكثر من ذلك.
لقد كانت لدينا نقاشات جادة حول العديد من هذه البنود في الماضي، وليس فقط مع الفلسطينيين بل مع أصدقائنا الأمريكيين أيضاً. واليوم، وللمرة الأولى، قبِلت الإدارة الأمريكية بشكل كامل النسخة الإسرائيلية الأكثر توسعية فيما يتعلق بالترتيبات الأمنية في اتفاقية ما.
ومع ذلك، تثير الخطة بعض التساؤلات الهامة. فإسرائيل مطالَبة بتعويض الفلسطينيين عن الـ 30 في المائة من الضفة الغربية المخصصة لها بموجب الخطة من خلال مقايضات إقليمية “قابلة للمقارنة إلى حد معقول”. وأساس هذا الحساب هو 100 في المائة من أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، اللتين كانتا تحتلهما الأردن ومصر، على التوالي، حتى عام 1967. إن القيام بهذه الحسابات على أساس خريطة خطة السلام يبيّن أن المقايضات الإقليمية ستكون بنسبة 2: 1 تقريباً لصالح إسرائيل. وهذا يعني أن على إسرائيل أن تمنح فلسطين مساحة كبيرة من الأرض تعادل أكثر من ضعف مساحة غزة. وسيكون معظمها في النقب بالقرب من الحدود المصرية.
وفيما يلي بعض الأسئلة التي تدعو إلى مناقشة استراتيجية عامة: لماذا يكون ضم عشرات المستوطنات المعزولة وإنشاء سلسلة من الجيوب السيادية داخل أرض فلسطين (عندما سيتولى “جيش الدفاع الإسرائيلي” على أي حال المسؤولية الأمنية على الأراضي بأكملها) أكثر أهمية من الاحتفاظ بالأراضي في النقب، والتي تمنح إسرائيل عمقاً استراتيجياً وتشكل أرض التدريب الرئيسية لـ “جيش الدفاع الإسرائيلي”؟ وماذا يعني إنشاء حدود إسرائيلية -فلسطينية جديدة (مفتوحة؟ مغلقة؟) يتجاوز طولها 1300 كيلومتر (حوالي 810 أميال) والمحافظة عليها؟ ماذا يعني وجود عشرات الجيوب الفلسطينية في الأراضي الإسرائيلية و 15 جيب إسرائيلي في الأراضي الفلسطينية؟ بالإضافة إلى ذلك، هل تطبيق السيادة هو الحل الوحيد لحماية كل مصلحة إسرائيلية؟ وأين يكمن التوازن بين مزايا وضع أراضٍ معينة تحت السيادة الإسرائيلية، ومساوئ فتح الباب أمام المواطنة لمئات الآلاف من الفلسطينيين الذين يعيشون في تلك الأراضي؟
هل يمكن أن تكون خطة ترامب أساساً للمفاوضات؟
لا أستطيع أن أتصور موافقة أي زعيم فلسطيني على التفاوض على أساس خطة تشترط قيام دولة فلسطينية وفقاً للائحة من المعايير، التي قد يبدو بعضها للفلسطينيين مثل التخلي عن سردهم الخاص؛ وبعضها الآخر (تجريد غزة عن السلاح) لا تملك أي فرصة للتحقق؛ وما زال البعض الآخر (مستوى عالٍ من الديمقراطية وحقوق الإنسان) غير موجود حالياً في أي دولة عربية.
وفيما يتخطى كل هذه العقبات، يرى الفلسطينيون دولة منكمشة ومنقسمة ومحاطة بطوق من الأراضي الإسرائيلية، عاصمتها في بعض الأحياء الملحقة بالقدس الشرقية. فمليارات الدولارات التي وعدت بها الخطة للفلسطينيين لن تجعل الأمر أكثر سهولة عليهم، بل إن هذا الوعد قد يكون له حتى تأثير عكسي. وبالتالي تم رفض خطة ترامب من قبل الغالبية العظمى من الجمهور الفلسطيني (كما هو موضح في استطلاعات الرأي)، وأي زعيم فلسطيني قد يخلف الرئيس محمود عباس – آخر جيل من مؤسسي الحركة الوطنية الفلسطينية، والذي يركز على إرثه المشين بشكل جليّ – سيضطر إلى تعزيز موقفه من خلال إعلان الحرب عليها.
وإذا لم تكن خطة ترامب منصة للمفاوضات، فما هو الهدف منها إذاً؟ من الواضح أن الإجابة على ذلك ستتأثر بنتائج الانتخابات المقبلة في كل من إسرائيل والولايات المتحدة. ولكن على أي حال، فمن المعقول الاعتقاد بأن الخطة ستترك بصمة من خلال إنشاء نقطة مرجعية قوية جديدة لأي زعيم إسرائيلي في المستقبل.
وعلى المدى القصير على الأقل، تتمتع إسرائيل بقدرة حاسمة للتأثير على كيفية تطور الوضع. وتتمتع بدعم غير مسبوق من إدارة أمريكية صديقة وتستفيد من رياح القومية التي تهب في جميع أنحاء العالم، وتُعيد فتح الاتفاقيات الإقليمية القديمة (مثل روسيا في القرم والهند في كشمير)، والحضيض التاريخي الذي سقطت فيه الحركة الوطنية الفلسطينية، والبرودة إلى حد ما التي يتعامل بها العالم العربي مع الفلسطينيين، والتي تبشر بتحول إقليمي هائل.
وعلى هذا الأساس، تستطيع إسرائيل أن تختار الشروع في ضم الأراضي في الضفة الغربية من جانب واحد – والتي امتنعت عن القيام به لمدة دامت 53 عاماً. وقد ينطوي ذلك على ضم أجزاء معينة من الأراضي وصولاً إلى تحقيق رؤية أرض إسرائيل بأكملها. فهل سيخدم هذا أمن إسرائيل ومستقبلها على المدى الطويل كدولة يهودية وديمقراطية؟
ويرد أنصار الضم على التحذيرات المتعلقة بالتداعيات السلبية المحتملة الواضحة (إغلاق الباب أمام التوصل إلى اتفاق؛ تقويض الوضع الأمني في مناطق [الضفة الغربية]؛ تقويض العلاقة المهمة للأردن وإسرائيل معها؛ إبطاء التطبيع مع الدول العربية؛ تأجيج حملة نزع الشرعية الدولية ضد إسرائيل، وأكثر من ذلك) بالقول إنه حتى لو تحقق بعض منها، فسوف يتم التغلب عليها من خلال فرصة تاريخية لن تتكرر لتأمين المصالح الإسرائيلية الحيوية التي لا يجب أن نُفوّتها – وفي نهاية المطاف سيتقبل العالم هذا الواقع. ويضيفون أيضاً أنه على أي حال، لا يوجد شريك فلسطيني للتوصل معه إلى اتفاق في ظل الشروط الإسرائيلية المتوافق عليها بالإجماع، ويجب عدم مكافأة الفلسطينيين على الرفض. ونظراً لأن لديهم بالفعل كياناً ذاتي الحكم وتم عرض عليهم المزيد منه يحملون فيه الجنسية، ويصوتون ويحافظون على حياة مجتمعية منفصلة، فقد تمت إزالة اللدغة من خطر الانزلاق إلى دولة ثنائية القومية.
وعلى الرغم من وجاهة بعض هذه الحجج، فإن تنفيذ الخطة من جانب واحد قد يكون بمثابة اتخاذ طريق الهاوية، والذي يمكن أن يؤدي إلى واقع خطير وغير مستقر. وفيما يلي سيناريو لا يقل واقعية عن ذلك المتفائل:
ستشير إجراءات الضم الإسرائيلية للعالم بأسره إلى أن إسرائيل تغلق الباب على الانفصال من خلال اتفاقية، وتتخذ خطوات من جانب واحد نحو إعادة تحديد حلبة الصراع. وفي الوقت المناسب، قد تدفع هذه الرسالة الفلسطينيين إلى إعادة تحديد الساحة في اتجاه دولة واحدة مع حقوق متساوية للجميع ـ وفي مرحلة ما، قد يفوزون بدعم دولي كبير في هذا الصدد. وحتى اليوم، هناك تعاطف واسع مع هذه الفكرة بين الشباب الفلسطيني، والذي سيتزايد [بمرور الوقت].
وفي مثل هذا الوضع، ليس هناك ما يضمن استمرار وجود السلطة الفلسطينية. وبمرور الوقت، قد تتداعى هذه السلطة و”الجزر” الفلسطينية في أراضي [الضفة الغربية] داخل الغلاف الإسرائيلي، مما يزيد من التحديات الديموغرافية والسياسية لإسرائيل. ولن تأتي الضغوط المطالبة بالثنائية القومية بالضرورة من السلطات العليا فحسب، بل ستكون مدفوعة من القاعدة إلى القمة؛ وقد ثبتت بالفعل عينة منها من خلال التدفق الفلسطيني إلى مناطق القدس الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية. وحتى لم نذكر عواقب التفاعل المتبادل بين الفلسطينيين من أراضي [الضفة الغربية] والإسرائيليين العرب، وكلاهما يُعامل كوحدة واحدة في خطة ترامب.
وقد يجادل المرء حول احتمالات تحقق مثل هذا السيناريو الثقيل الوطأة، ولكن من المستحيل صرف النظر عنه. ألا تبرر مراهنة كهذه على مستقبل إسرائيل إجراء عملية استفتاء؟
يتعيّن على إسرائيل ألا تتبنى خطة ترامب باعتبارها مخططاً عملياً صارماً. عليها أن تعمل على تثبيت الحالة المتقلبة على الأرض، وتضع الخطة كبرنامج للفصل بدلاً من التمازج، وتطمح إلى القيام بذلك بحذر وبصورة تدريجية، مع حماية مصالحها وأصولها الأمنية، ويفضَّل أن يتم ذلك في إطار التفاهمات الإقليمية. ففي نهاية المطاف، لقد حذرَنا أكثر الناس حكمة في سفر الجامعة من “ثَرْوَةٌ مَصُونَةٌ لِصَاحِبِهَا لِضَرَرِهِ”.
رابط المصدر: