طرحت زيارةُ رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، إلى سورية ومباحثاته مع الرئيس بشار الأسد، في 16 يوليو 2023، السؤالَ عما إذا كان البلَدان سيتوصلان إلى حلول للقضايا العالقة بين الطرفين، والتي كثيراً ما جعلت العلاقات بينهما ضمن سقوف متدنية. وبالإضافة إلى كونها الزيارة الأولى لرئيس وزراء عراقي منذ عام 2011، فهي الأعلى مستوى عربياً منذ الانفتاح العربي على دمشق.
تُسلِّط هذه الورقة الضوء على القضايا ذات الاهتمام المشترك، والعقبات التي تواجه تطوير العلاقات بين بغداد ودمشق.
الدوافع العراقية
لم يتفاعل العراق مع قرار مقاطعة سورية عربياً، واستمرت القنوات الدبلوماسية نشطة طوال العقد السابق بين البلدين الجارين، لكنْ العلاقات بينهما ظلت مصبوغة بطابع الحذر والتردد والبرودة في أحيان كثيرة، فلم تَقُم بين العراق وسورية علاقات استراتيجية منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003، وبقيت العلاقات مُتذبذبة. حتى إن المشاركة العسكرية للميليشيات العراقية في الحرب السورية نُظِر إليها على أنها جاءت في إطار المشروع الجيوسياسي الإيراني، وليست نتيجةَ قرار سياسي سيادي عراقي، وذلك في ظل حصر العلاقات بين البلدين ضمن المستوى العسكري/الأمني (الميليشاوي) المرتبط بإيران بدرجة كبيرة، فيما غاب المستوى السياسي عنها، فقد اقتصرت قنوات التواصل بين البلدين على الزيارات التي كان يقوم بها فالح الفياض رئيس هيئة الحشد الشعبي لدمشق. وأثّر هذا الوضع بشكل جلي في تفاعلات البلدين، فرغم أن اجتماعات اللجنة السورية-العراقية المشتركة تواصلت خلال الأعوام السابقة، إلا أنه لم يُجر تفعيل قراراتها.
وشكّلت كارثة الزلزال الذي ضرب مناطق شمال غربي سورية في فبراير الماضي، فرصةً لتنشيط العلاقات بين البلدين، فقد ساهم العراق، رسمياً وشعبياً، في عملية دعم لوجستي ومساعدات إغاثية عاجلة، لكن الأهم أنها ولّدت مقاربة عربية تجاه سورية مختلفة انخرط العراق فيها، وكان من بين أطراف اجتماع عمّان التشاوري حول سورية الذي انعقد في مطلع مايو الماضي، والذي فتح الباب لعودة سورية إلى جامعة الدول العربية، كما تمظهرت في قمة الرياض التي انعقدت في 19 مايو.
ويبدو واضحاً أن الحراك العراقي اليوم هو استثمارٌ للمتغير العربي تجاه سورية، ومحاولةٌ من قبل حكومة محمد شياع السوداني لفتح صفحة جديدة من التعاون السياسي عبر البناء على القواسم المشتركة بين البلدين، في ظل وضع يرى العراق فيه أن جزءاً من مشكلاته تأتي من سورية التي لا يتفاعل نظامها بالشكل المطلوب لحل هذه المشكلات. ويمكن تحديد دوافع زيارة السوداني لدمشق بالآتي:
- حل مشكلة الحدود والانفلات الأمني الحاصل فيها، والتي تستنزف طاقات عسكرية كبيرة، وبخاصة في مواجهة فلول تنظيم “داعش” الذين ينتقلون على الجانبين بسهولة، ما دفع الحكومة العراقية إلى بناء جدار في مناطق واسعة منها. وعلى رغم الاتفاقيات الأمنية بين البلدين فإنّ الجانب السوري لا يقوم بدوره في ضبط الحدود وحمايتها. ويتخوف العراق مما يسمى “عودة داعش”، واحتمال تسرُّب عناصره إلى الأراضي العراقية، فضلاً عن أن العراق مَعنيٌّ بحل مشكلة عوائل أفراد التنظيم من التابعية العراقية الموجودين في مخيم الهول في شمال سورية الذي تديره قوات سورية الديمقراطية “قسد”.
- إيجاد حل لمشكلة المخدرات: ازدادت في الفترات الأخيرة كميات حبوب الكبتاجون المهرَّبة إلى الأراضي العراقية من سورية، وأصبحت مشكلة المخدرات تؤرق الأوساط العراقية جراء انتشارها الكثيف بين أوساط الشباب، بالإضافة إلى أن العراق بات ممراً للمخدرات القادمة من إيران وسورية إلى دول الخليج، الأمر الذي يؤثر في موقف العراق تجاه هذه الأطراف. ومع أن إعلان عمّان نصّ على أن سورية “ستتعاون مع الأردن والعراق في تشكيل فريقَي عمل سياسيين/ أمنيين مشتركين منفصلين خلال شهر لتحديد مصادر إنتاج المخدرات في سورية وتهريبها، والجهات التي تنظم وتدير وتنفذ عمليات تهريب عبر الحدود مع الأردن والعراق، واتخاذ الخطوات اللازمة لإنهاء عمليات التهريب، وإنهاء هذا الخطر المتصاعد على المنطقة برمتها”، إلا أن الجانب السوري لم يلتزم بشكل عملي بإيجاد آليّات تنسيق مع العراق لمواجهة المخدرات.
- مناقشة مشكلة المياه: مشكلة المياه بين العراق وسورية مشكلة مزمنة وكانت على الدوام أحد عناصر توتير العلاقات بين الطرفين، وقد ساهمت الظروف المناخية وتخفيض تركيا لمنسوب المياه المتدفقة إلى نهر الفرات في عودة ظهور هذه الإشكالية، إذ يتهم العراق سورية بعدم الالتزام بالحصة المقررة في الاتفاقيات بين الطرفين والبالغة 58% من كمية المياه المتدفقة إلى الفرات، ويصر الجانب السوري على تحميل تركيا كامل المسؤولية، والقول إن ما تُفرِج عنه تركيا لم يعد يكفي حاجات سورية الأساسية، في حين يتهم العراق الجانب السوري بتخفيض إطلاقات المياه من سد الطبقة تجاه العراق.
- حل مشكلة اللاجئين السوريين في العراق: يستضيف العراق نحو 260 ألف لاجئ سوري، تعيش الغالبية العظمى منهم في إقليم كردستان، وكثير من هؤلاء يعيشون في مخيمات مؤقتة، ما يجعلهم يعانون من وضع إنساني مُتردٍّ، وفق مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين. والعراق، مثل بقية دول الجوار التي تستضيف لاجئين سوريين، مَعنيٌّ بالتوصل إلى تفاهم مع دمشق حول عودة هؤلاء اللاجئين إلى بلدهم.
المصالح السورية
تكمن الأهداف والدوافع السورية في توثيق العلاقات مع العراق في الآتي:
- حاجة النظام السوري إلى توسيع دائرة انخراطه عربياً وتمتين علاقاته الإقليمية في سياق إعادة تأهيله، لذا كان العراق أحد الوُجهات الأساسية لزيارات وزير الخارجية السوري فيصل المقداد الإقليمية، وقد شكّل العراق أحد روافع الحراك العربي الهادف إلى إعادة العلاقات العربية مع سورية.
- تُعد السوق العراقية مهمة لسورية اقتصادياً، فهي من أكبر أسواق الشرق الأوسط، وتحتوي على فرص كبيرة لتصريف المنتجات السورية، ويساعد عامل القرب الجغرافي في تسهيل عمليات النقل والتجارة وتقليل التكاليف والوقت لإيصال المنتجات إلى العراق. وقبل التطورات المرتبطة بـ “الربيع العربي” كان العراق أحد الشركاء الاقتصاديين الإقليميين المهمين لسورية. وتطمح سورية لإعادة تشغيل خط نفط كركوك-بانياس، الذي تعرَّض لتوقف متكرر عن العمل منذ تأسيسه في الخمسينات آخرها منذ عام 2014، والذي تبلغ طاقته نحو 300 ألف برميل يومياً، وتصدير جزء من النفط العراقي عبر الموانئ السورية، وهو ما سيوفر موارد نفطية لدمشق في ظل سيطرة الأكراد على حقولها النفطية في الشرق السوري، وضغط إيران للحصول على مقابل فوري، سواء على شكل أموال أو تنازل دمشق عن أراض وأصول اقتصادية. كما يستفيد النظام من حاجة العراق إلى تنويع مراكز تصدير نفطه بعد الأزمة مع تركيا حول تصدير النفط عبر ميناء جيهان.
- حاجة النظام السوري إلى ما يسمى “توحيد الساحات” ولكنْ في مواجهة تركيا، نظراً لأن البلدين لهما نفس المشاكل مع تركيا، والتي تشمل وجود القوات التركية على أجزاء من أراضيهما، بالإضافة إلى مشكلة المياه. ويأمل النظام السوري، بعد أن فقد ورقة الضغط العربية على تركيا نتيجة تحسُّن علاقات أنقرة بأغلب الدول العربية، في الاستفادة من موقع العراق في العلاقات التركية للضغط على الرئيس رجب طيب أردوغان لتحقيق الشروط السورية لتطبيع العلاقات بين الطرفين.
العقبات والعوائق
على الرغم من مصالح البلدين في تعزيز العلاقات بينهما، فإن هذا المسار الثنائي ينطوي على تحديات عدة، من أهمها:
- يختلف الطرفان حول قضايا جيوسياسية حساسة على رأسها الوجود الأمريكي؛ فالعراق يتعاون مع التحالف الدولي لمحاربة “داعش” بقيادة الولايات المتحددة، وهو يحتاج إلى الأخيرة لدعم الجيش العراقي وتأهيله، في حين أن دمشق ترفض الوجود الأمريكي في مناطق شرقي الفرات وفي قاعدة التنف، وتسعى إلى إخراج القوات الأمريكية من تلك المناطق، وبالتالي تتعارض سياسة البلدين في هذا المجال. كما يشكل العامل الأمريكي أحد عوامل عرقلة تطوير العلاقات بين البلدين، إذ تفرض الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية على نظام الرئيس الأسد من خلال ما يسمى “قانون قيصر”، ومن ثم ستكون هذه العقوبات محدِّداً مهماً في تطور العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
- اندماج العراق بالمقاربة العربية؛ فقد بات العراق جزءاً من المقاربة التي تم التوافق عليها عربياً بعد اجتماع عمّان التشاوري، والتي تبنَّتها القمة العربية في الرياض، ما يعني أن علاقات بغداد-دمشق ستتأثر بحجم الزخم العربي، ولا يوجد مقاربة عراقية منفصلة تجاه دمشق، بل هناك مفاوضات حول قضايا خلافية بين البلدين.
- اعتماد مبدأ التبادلية: يُدرِك العراق أهمية ما يملكه من موارد لتحقيق أهدافه الخارجية، لذا لن يعطي سورية دون أن يأخذ، ويبدو ذلك واضحاً من خلال محاولات الجانب العراقي عرقلة الصادرات القادمة من سورية إلى العراق ورفع الرسوم الجمركية عليها. وقد ظهرت دعوات صريحة في بغداد لمساومة النظام السوري على التجارة مقابل تغيير سياساته المائية تجاه العراق. وكان لافتاً تركيز السوداني على دور الاقتصاد بوصفهِ أساساً لترسيخ العلاقات بين الأطراف، ولا يبدو أن النظام السوري لديه ما يُغري العراق في ظل وجود بدائل من تركيا ومصر. وفيما يتعلق بخط النفط، ثمة ما يشير إلى أن العراق غير جاد في إعادة تشغيله نظراً للتكاليف الباهظة لإصلاح الخط البالغة أربعة مليارات دولار، ويبرز ذلك من خلال مقترح أن يصلح كل طرف الأعطال الموجودة في أراضيه، وهي تكلفة لا تستطيع سورية تحملها في هذه الظروف، فضلاً عن أن الخط يعبر مناطق غير مستقرة في الباديتين السورية والعراقية، ناهيك عن قانون “قيصر” الذي يهدد أي طرف يُريد العمل بمشاريع الطاقة في سورية.
الاستنتاجات
السؤال المطروح بعد زيارة السوداني لسورية: هل العلاقات السورية-العراقية ستتحول إلى علاقات ذات طابع استراتيجي؟ وهل يمكن بالفعل مأْسستها كما دعا الرئيس السوري؟ والأهم هل ستتحرر هذه العلاقة من هيمنة إيران الثقيلة التي توظف علاقات الطرفين لخدمة المشروع الإيراني في المنطقة؟
تُبشِّر السياقات الاستراتيجية التي جرت بها زيارة السوداني لدمشق، وأهمها التحولات الإقليمية ونهوض السياسة الخارجية للعراق، بإمكانية صناعة مسار مُغاير للعلاقات بين الطرفين يختلف عما كانت عليه على مدار أكثر من نصف قرن، حيث تحكَّمت الأيديولوجيا والحسابات الأمنية والمناكفات السياسية بالعلاقات الثنائية. ورغم الحديث عن العمق الاستراتيجي الذي يمثله كل طرف للآخر، ظلت الجغرافية مهملة ومن دون قيمة للطرفين. وما يعزز هذا الاتجاه، الاهتمام العراقي بالجيوبوليتيك الإقليمي باعتبارهِ مدخلاً للولوج إلى تحقيق أهداف استراتيجية كبرى، وحاجة سورية إلى الرافعة العراقية بما تنطوي عليه من أسواق وخطوط أنابيب النفط، بالإضافة إلى مشاريع جيوسياسية طموحة تأمل سورية الانخراط فيها.
لكن قراءة المشهد بموضوعية تكشف عن وجود العديد من المعوقات أمام إمكانية تحقيق قفزة في علاقة البلدين، بعضها على شكل اشتراطات، من نوع تسهيل حركة التجارة السورية إلى العراق مرتبط بحل القضايا الخلافية العديدة، والتي لا يبدو أن دمشق لديها الإرادة أو القدرة على حلها، مثل مشكلات الحدود والمياه والكبتاجون، وبعضها تقف خلفه العقوبات الأمريكية، حيث يخشى العراق من احتمال أن تطال العقوبات الأمريكية شركاته وقطاعاته المالية، فضلاً عن إيران، التي ربما لا ترغب في أن يكون للبَلدانِ سياسة مستقلة أو هوامش مناورة واسعة، وبخاصة إذا ازدادت ارتباطاتهما بالمحيط العربي.
والأرجح أن العلاقات العراقية-السورية ستبقى متأرجحة بانتظار انكشاف ثمار نتائج المسار العربي، وستبقى السياسة العراقية حذرة تجاه سورية التي بدا واضحاً أنها تريد زجّ الحكومة العراقية في صراعات مع تركيا، بسبب قضايا المياه والوجود التركي في مناطق عراقية، في حين أن بغداد لديها أدوات واستراتيجيات مختلفة للتعامل مع الجانب التركي، فضلاً عن أن تركيا أصبحت جزءاً من مشاريع العراق الاستراتيجية. كما ترغب دمشق في دفع الجانب الرسمي العراقي إلى تبنّي وجهة نظرها تجاه الوجود الأمريكي في سورية والعراق، وهو أمر مُتعذَّر حالياً بسبب الارتباطات الأمنية والسياسية بين بغداد وواشنطن.
ومن المحتمل أن تشهد المرحلة المقبلة انشغالاً بالمسائل التفصيلية في القضايا محل الخلاف بين الطرفين، من قبيل تفعيل عمل اللجان المشتركة، نزولاً عند مطلب عراقي بهذا الخصوص، لكن ذلك سيواجَه بما يمكن وصفه بـ “عجز سوري” عن التقدم في أي ملف.
وخلاصة القول إن التوصل إلى مخرجات مناسبة لحل القضايا بين الطرفين ينتظر توفر ظروفاً أكثر نضجاً؛ فالهدف العراقي هو إلزام سورية بتنفيذ الاتفاقيات وبروتوكولات التفاهم العديدة حول قضايا تعتبرها بغداد مُلحَّة، فيما تريد دمشق أن تأخذ أكثر مما تعطي، وهذا ما يُبقي العلاقات بين الطرفين مرتبكة وغير فاعلة.
.
رابط المصدر:
https://epc.ae/ar/details/brief/afaq-alalaqat-alsuwria-aleiraqia-fi-daw-ziarat-alsuwdani-lidimashq