يتعين على إدارة ترامب أن تشير بهدوء، ولكن بحزم إلى بغداد بأن إضفاء الطابع الرسمي على “قوات الحشد الشعبي” بوصفها “حرساً ثورياً عراقياً”، سيُمثل تحدياً غير مقبول للمصالح الاستراتيجية الأمريكية.
على مدار سنوات، شكلت “هيئة الحشد الشعبي العراقي”، تهديداً جلياً على الأمن القومي الأمريكي والمدنيين العراقيين على حد سواء، حيث يشغل إرهابيون مصنفون من قبل الولايات المتحدة مناصب قيادية عليا في الهيئة “(بما في ذلك رئيس مجلس الإدارة ورئيس الأركان). وقد استغل هؤلاء القادة هيكل الجماعة لتخصيص رواتب حكومية لعشرات الآلاف من أفراد الميليشيات التي تنتمي لجماعات مصنفة إرهابية مثل “كتائب حزب الله “و”عصائب أهل الحق“. ورغم التلاعب الصارخ الذي تمارسه العناصر المدعومة من قبل إيران والمتهمة بقتل القوات العراقية والقوات الأمريكية على حد سواء، تنظر بغداد حالياً في مشروعي قانون من شأنهما إضفاء الشرعية بشكل أكبر على “الحشد الشعبي” كمؤسسة أمنية وطنية دائمة.
يتضمن مشروعا القانون المطروحان “قانون الخدمة والتقاعد”، الذي قام الكاتب بتحليله مؤخراً، والذي يُعد في الأساس مسألة داخلية بين الميليشيات، تتمحور حول إقصاء القادة المتنافسين. أما المشروع الثاني، وهو الأهم، فهو “قانون هيئة الحشد الشعبي” المُعدل، والذي من شأنه أن يُضيف العديد من الأحكام إلى “قانون هيئة الحشد الشعبي” رقم 40، وهو التشريع الأساسي الذي تم إقراره لتنظيم تجنيد الميليشيات في حالات الطوارئ عام 2016.
وفي خضم الكثير من التطورات العالمية، قد يُعذر تجاهل الإدارة الأمريكية لهذه القضية التي قد تبدو متخصصة، ولكن السماح بتمرير هذا التشريع بهدوء سيكون مدعاةً للندم الشديد لاحقاً. من أبرز الجوانب المثيرة للقلق في مشروع القانون أن المسودة المُعدلة لـ”هيئة الحشد الشعبي” تُكرس وجود الحشد ومقاتليه، البالغ عددهم نحو 238 ألف عنصر، كقوة مسلحة موازية مخولة بالتحرك على الساحتين المحلية والإقليمية وفقاً لما يقرره قادتها. وهذا من شأنه أن يُكرس كياناً مشابهاً لـ”الحرس الثوري الإيراني” داخل المنظومة الأمنية العراقية – ليس فقط بوصفه هيئة طوارئ تم تشكيلها من قِبل رئيس الوزراء وتُشرف عليها هيئة مؤقتة (كما كان دورها الأصلي خلال الحرب ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” وبعدها في عام 2014)، بل كمؤسسة مكتملة الصلاحيات، تُشبه وزارة قائمة، سيكون من العسير جداً إصلاحها لاحقاً، ناهيك عن حلها.
علاوةً على ذلك، سيُعرف مشروع قانون “هيئة الحشد الشعبي” الحشد رسمياً بوصفه ضامناً للنظام السياسي العراقي الذي يقوده الشيعة منذ عام 2003 – في خطوة مشابهة لدور “الحرس الثوري الإيراني” الذي تأسس بعد الثورة لضمان استقرار النظام السياسي في إيران . إن منح هذا الدور لـ”لحشد الشعبي” من شأنه أن يحوله إلى قوة رجعية مُخولة للحفاظ على النظام السياسي، مما يؤدي إلى عسكرة العمليات السياسية بما في ذلك عملية تسجيل المرشحين، والتصويت، وتشكيل الحكومة، وربما تشجيعها على قمع الاحتجاجات أيضاً، كما حدث في عام 2019 عندما ارتكب “الحشد الشعبي” انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ضد المحتجين والمجتمع المدني. ومن الجدير بالذكر أن هذه الانتهاكات ما زالت مستمرة حتى اليوم بحق العراقيين الذين يُعبرون عن شكوكهم إزاء استئثار “الحشد الشعبي” بالسلطة دون أي رقابة.
ولتجب وقوع هذه النتائج أمام أعينها، ينبغي على إدارة ترامب أن تُبلِغ بغداد بوضوح اعتراضات واشنطن الحازمة. ولحسن الحظ، قد لا يتطلب الأمر جهوداً أمريكية شاقة، بل يكفي توجيه إشارة خاصة إلى كل من رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، ورئيس البرلمان، تُفيد بضرورة عدم إحالة “قانون هيئة الحشد الشعبي” إلى البرلمان للمصادقة النهائية. من جهتها، تواجه بغداد في الوقت الراهن وضعاً بالغ الحساسية في الشرق الأوسط، حيث تتواجد القوات الأمريكية بقوة كبيرة، في الوقت الذي تحاول فيه الميليشيات العراقية البقاء بعيداً عن قوائم الاستهداف. علاوة على ذلك، ما زالت واشنطن تمتلك نفوذاً واسعاً وقوياً، ولكن هذا النفوذ سيظل فعّالاً فقط إذا أرسلت الإدارة رسالة واضحة خلف الكواليس حول كيفية استثمار هذا النفوذ في حال قرر المسؤولون العراقيون تشكيل “حرس ثوري إيراني” آخر في قلب المنطقة.
إذا كان مثل هذا التحذير قد تم توجيهه بالفعل، فإن الحكومة الأمريكية تستحق الثناء على حرصها على متابعة هذه التفاصيل الدقيقة، لا سيما في وقت لم يتم فيه تعيين سوى عدد قليل جداً من المسؤولين الأمريكيين الجدد لتولي الملف العراقي. ومع ذلك، يجب على صانعي السياسات في واشنطن وسفارة بغداد تعزيز هذه الرسالة التحذيرية على وجه السرعة، فبمجرد ترسيخ “الحشد الشعبي” ككيان دائم من خلال إقرار تشريع تنفيذي مفصل، سيكون من المستحيل العودة إلى الوراء، وستُصبح التحديات المستقبلية أمام صانعي السياسة الأمريكيين أكثر تعقيداً إذا ما أرادوا لاحقاً منع إنشاء “حرس ثوري عراقي”. وفي الواقع، ينبغي على القادة في بغداد أن يدركوا أن الولايات المتحدة لن يكون لديها الكثير من وسائل الضغط “الهادئة” المتبقية في ذلك السيناريو، وستضطر إلى اللجوء إلى وسائل ضغط “صاخبة” مثل فرض عقوبات على “الحشد الشعبي” بالكامل، كما فعلت مع “الحرس الثوري الإيراني”. وهي خطوة قد يكون لها تأثيرات مالية واسعة على بقية النظام المالي العراقي، نظراً لأن “الحشد الشعبي” هو قوة تدعمها الحكومة مالياً.
علاوة على ذلك، يتساءل بعض العراقيين عن سبب ادعاء إدارة ترامب بأنها تتبع سياسات مختلفة عن سابقتها، بينما تتصرف بشكل مشابه جداً في الواقع (على الأقل حتى الآن، باستثناء رفضها الأخير منح العراق إعفاءً لشراء الغاز الإيراني). وسيُعد التحرك الحكيم لإحباط أي اختراق تشريعي يتعلق بـ “قوات الحشد الشعبي” مؤشراً إيجابياً على أن الولايات المتحدة يقِظة ومتابعة لما يجري في العراق، وهي الطريقة التي يمكن لواشنطن من خلالها ردع مغامرات الجماعات الإرهابية المدعومة من إيران، والتي تستهدف القواعد العسكرية الأمريكية بهجمات صاروخية أو باستخدام الطائرات المسيرة، أو حتى في عمليات اختطاف أو اغتيال تستهدف الأمريكيين. إحدى الطرق الفعالة لتعزيز هذه الرسالة دون فرض عقوبات فورية على “الحشد الشعبي” بالكامل- بما في ذلك العديد من أعضائه غير الإرهابيين – هي تسريع تصنيف شركة المهندس العامة، “شركة المهندس”، باعتبارها النسخة العراقية لـ “شركة خاتم الأنبياء” التابعة لـ “الحرس الثوري الإيراني”. وقد فرضت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عقوبات عليها باعتبارها مصدراً رئيسياً لتمويل التهديدات الإرهابية.