أثار اقتراح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في نهاية نوفمبر 2022 بإنشاء مركز مشترك لتصدير الغاز يضم روسيا وأوزبكستان وكازاخستان، الكثيرَ من الجدل حول فرص نجاح هذا المشروع، ومستوى تأثيره في الأطراف الإقليمية وبلدان أخرى ينظر المشروع في احتمال انخراطها فيه بشكل أو بآخر. وعلى الرغم من أن الاقتراح الروسي قوبل للوهلة الأولى بكثير من التشكيك، فإن حسابات الكرملين كما يبدو انطلقت من رهان طويل الأمد على استعادة التحالفات المفقودة مع بلدان آسيا الوسطى، وحاجة هذه البلدان إلى وضع آليات لعلاقات تعاون استراتيجي مع موسكو.
تبحث هذه الورقة في فرص نجاح المشروع، والمزايا التي يحملها للأطراف التي قد تنخرط فيه، والعقبات التي تعترض طريق تنفيذه.
استعادة الشريك الكازاخي
بعد فترة طويلة نسبياً من الفتور في العلاقات، وصلت إلى حد اتخاذ تدابير روسية تقييدية ضد الصادرات الكازاخية التي تَعبُر أراضي روسيا الاتحادية، وهي خطوة غير مسبوقة في تاريخ التحالف بين البلدين الجارين، حملت الزيارة الأولى لرئيس كازاخستان قاسم جومارت توكاييف بعد إعادة انتخابه إلى موسكو، في نهاية نوفمبر الماضي، مضامينَ مهمة على صعيد محاولات ترميم العلاقة، وإيجاد آليات مشتركة لتطوير التعاون واستعادة الزخم السابق فيها. لذلك لم يكن غريباً أن تُطرح فكرة إنشاء اتحاد لتصدير الغاز تحديداً خلال هذه الزيارة، قبل أن يُعيد الرئيس الروسي طرحها بشكل مفصل خلال قمة “الاتحاد الاقتصادي الأوراسي” التي عُقدت في بِشكيك، عاصمة قيرغيستان، في 9 ديسمبر الجاري.
كانت علاقات البلدين قد شهدت توتراً متصاعداً على خلفية مواقف أستانة من الحرب الأوكرانية، ورفْضها قرارات موسكو بضم أجزاء من الأراضي الأوكرانية، وذهبت موسكو نحو فرض عقوبات على كازاخستان، من بينها وقف مرور الصادرات الكازاخية عبر أراضيها، وأسفرت هذه الخطوة عن أضرار بالغة على الاقتصاد الكازاخي المنهك أصلاً، خصوصاً أن 90% من هذه الصادرات الكازاخية، بما في ذلك إمدادات الطاقة، تمر عبر أراضي روسيا. ومع شروع أستانة في البحث عن بدائل لخطوط التصدير إلى خارج البلاد، اتخذ الكرملين خطوات لنزع فتيل التوتر واستعادة التعاون مع كازاخستان، وهو الأمر الذي ظهرت نتائجه خلال زيارة توكاييف. فقد تم التأكيد خلال الزيارة بشكل خاص على أن كلا البلدين لديهما آفاق واسعة للتعاون المتبادل في مختلف قطاعات الاقتصاد، وشدد الطرفان على الطابع الاستراتيجي للعلاقات، ونوقشت بالتفصيل حاجة الطرفين في الظروف الدولية الراهنة إلى ترتيب آليات إعادة توجيه الصادرات والانفتاح على أسواق جديدة.
وفيما يتعلق بمسألة التفاعل الروسي مع كازاخستان، لوحظت الحاجة إلى إنشاء بنية حديثة تحتية للنقل. وهنا من المهم ملاحظة أنه على الرغم من تنوع علاقات كازاخستان بالدول الأخرى، والتوجه بشكل أساسي نحو الصين وأوروبا والولايات المتحدة، فإن أكثر من 30 مشروعاً استراتيجياً كبيراً في قطاعات حيوية في كازاخستان، وبالذات الطاقة النووية والهندسة الميكانيكية والصناعات الكيماوية وصناعة سكك الحديد، ينفَّذ بمشاركة شركات روسية. هذا المدخل جعل طرح الرؤية الروسية لخطوط إمداد الغاز المشتركة عنصراً مهماً ومقبولاً إلى حد بعيد من جانب كازاخستان التي لا تبدو قادرة على إيجاد بدائل سريعة للتعاون المهم مع موسكو.
تلعب كازاخستان دوراً مهماً بوصفها مركزاً للتجارة والنقل، وهي تتمتع بميزة جيوسياسية استثنائية، حيث تمر طرق النقل البري من أوزبكستان وقيرغيزستان وطاجيكستان عبر أراضي كازاخستان، مما يمنحها صفة بلد العبور ويسهم في نمو التجارة المتبادلة. ويسمح الوصول إلى بحر قزوين لكازاخستان بممارسة النشاط الاقتصادي الخارجي مع دول بحر قزوين. وفي هذه الحالة أيضاً، يمكن لروسيا استخدام الممرات المؤدية إلى الصين، مع توفير الربحية الكاملة لتدفقات السلع، لكنْ من الضروري لاستكمال هذه الرؤية بناء طرق نقل جديدة بالكامل، بما في ذلك النقل الجوي والسكك الحديد.
ومن المهم ملاحظة أن كلا البلدين يتعاونان بشكل فعال في قطاع النفط والغاز، وتم تنفيذ مشروع خط الأنابيب الرئيسي لـ”اتحاد خط أنابيب بحر قزوين” وتشغيله، والذي من خلاله يُسلَّم النفط المنتج في كازاخستان إلى الاتحاد الروسي، ثم يُصدَّر من روسيا عبر سواحل البحر الأسود. ووصلت الطاقة الإنتاجية لخط الأنابيب هذا إلى مستوى 67 مليون طن نفط سنوياً، وبين عام 2001 إلى عام 2020، تم توريد أكثر من 578 مليون طن من النفط من كازاخستان عبر خط الأنابيب إلى السوق العالمية. وفي عام 2021، صُدِّرَ 53 مليون طن من نفط كازاخستان عبر محطة نوفوروسيسك البحرية الروسية، ونُفِّذ جميع صادرات النفط بشكل أساسي من خلال ممرات النقل التي تمر عبر روسيا. وفي الوقت نفسه، تصدّر روسيا 10 ملايين طن من النفط سنوياً إلى الصين عبر أراضي كازاخستان.
وأكبر مُشتري النفط الكازاخي هي النمسا وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا وسويسرا وهولندا ورومانيا واليونان والهند. وفي عام 2022، خططت كازاخستان لتصدير 69 مليون طن سنوياً إلى هذه الدول، لكن هذه الخطط تأثرت بالحرب الأوكرانية والأزمة بين موسكو وأستانة. وعموماً تصل القدرات الإنتاجية لكازاخستان إلى نحو 90 مليون طن سنوياً كما أظهرت معدلات الإنتاج في السنوات الماضية.
من ناحية أخرى، تخطط كازاخستان حالياً لشراء الغاز الطبيعي من روسيا، من أجل توسيع التحول إلى مركز لنقل الشحنات إلى دول آسيا الوسطى والصين. ومع تنفيذ الخطط، يمكن أن تصل مشتريات الغاز إلى حجم يبلغ أكثر من 10 مليارات متر مكعب في السنة. وفي الوقت نفسه، ينمو استهلاك الغاز المنزلي في كازاخستان بنسبة 7% سنوياً، وبحلول عام 2030 من المخطط تحويل غالبية التجمعات السكنية الكبرى إلى استخدام الغاز، حيث يعيش نحو 65% من السكان، وستُغطَّى نسبة الـ 35% المتبقية بعد عام 2030، لذا فإن استهلاك الغاز في كازاخستان سوف يتزايد بقوة في المستقبل. وفي الوقت الحالي، تبلغ إمكانات التصدير حوالي 11 مليار متر مكعب سنوياً، وهو ما لا يكفي لاقتصاد متنامٍ. كما أن تطوير العلاقات الاقتصادية مع الصين يعتمد بشكل مباشر على الشراكة بين كازاخستان وروسيا، لذلك فإن فكرة إنشاء “اتحاد غاز ثلاثي”، تشارك فيه روسيا وكازاخستان وأوزبكستان تمثل طريقة للخروج من المشكلة المتوقعة المرتبطة بنقص الغاز.
بدأت كازاخستان وأوزبكستان، اللتان زادت طاقتهما الصناعية والإنتاجية بالرغم من نقص مواردهما الغازية، في مواجهة مشكلة متزايدة تتمثل بنقص الغاز، لذا فإن التعاون مع روسيا يشكل هدفاً استراتيجياً لهذه الدول. والعنصر الأهم هنا على صعيد احتمال عرقلة تنفيذ المشروع يكمن في التدابير العقابية الغربية التي تخشى كازاخستان وأوزبكستان من الخضوع لها، لذا سيتعين على روسيا تقديم مساعدات اقتصادية هائلة وموجهة إلى دول آسيا الوسطى من أجل الحفاظ على نفوذها الجيوسياسي في المنطقة.
اتبعت القيادة الكازاخية سياسة خارجية براغماتية منذ تسعينات القرن الماضي، فقد قامت بالمناورة والحفاظ على علاقات العمل مع روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين. سمح هذا النهج المتعدد بإقامة علاقات اقتصادية متبادلة المنفعة؛ فمن السوق الروسية تشتري كازاخستان المنتجات النفطية، وفحم الكوك، والوقود المعدني، والمعادن الحديدية، والمعدات المنزلية والصناعية، والمعدات الزراعية وغيرها من المعدات الخاصة. وبسبب نقص التقنيات والموارد الحديثة، تستقطب كازاخستان الشركات الأجنبية لتطوير قطاع الموارد الهيدروكربونية، وفي هذا المجال تحتل الشركات الأمريكية والأوروبية مكانة مهمة.
المخاوف الغربية والوضع الداخلي في آسيا الوسطى
لا تزال فكرة إنشاء اتحاد غازي ثلاثي بين روسيا وكازاخستان وأوزبكستان تحتاج إلى دراسة مفصلة، فضلاً عن كونها تحتاج إلى إنشاء كيان قانوني موحد، ووضع آليات للتعامل مع الإجراءات التقييدية من جانب الغرب. وجاء طرح الفكرة الروسية بعد مرور أسابيع قليلة على قيام واشنطن بخطوات لترسيخ التعاون مع أوزبكستان بصفتها شريكاً أساسياً للولايات المتحدة في منطقة آسيا الوسطى.
وبعد طرح الفكرة مباشرة، برزت الصعوبات التي يمكن أن تواجه بلدان المنطقة. فقد سعت أوزبكستان إلى التقليل من خطورة الفكرة على العلاقات مع الغرب، ورفْض المصطلحات الروسية التي ظهرت حول المركز المراد تأسيسه، إذ جرى التأكيد في تصريحات رسمية أن الهدف ليس “تأسيس اتحاد غازي” كما قالت موسكو، وأوضح نائب رئيس الوزراء ووزير الطاقة الأوزبكي زورابيك ميرزا مخمودوف، أنه “حتى لو أُبرِمَت اتفاقية غاز مع روسيا فإن هذا لا يعني تحالفاً”. وبحسب قوله، فإن موسكو وطشقند تتفاوضان على توريد الغاز الروسي عبر كازاخستان المجاورة، لكنه “سيكون عقداً فنياً”. وبدوره قال وزير الطاقة الكازاخي بولات أكشولاكوف إن الدول تناقش القدرات الفنية لأنظمة نقل الغاز، وليس إنشاء اتحاد غاز.
دفعت هذه التصريحات وغيرها خبراء في الغرب إلى توقُّع الفشل المسبق للعرض الروسي، وبدأت تتحدث عن ردود فعل سلبية من جانب أوزبكستان وكازاخستان. وهذا ما دفع الرئيس الروسي إلى إعادة طرح الموضوع خلال اجتماع “الاتحاد الاقتصادي الأوراسي” في بشكيك، في 9 ديسمبر الجاري، موضحاً أن الطلب على الغاز سوف ينمو في منطقة آسيا الوسطى ومحيطها، لذلك ومع مراعاة التزامات التصدير تناقش قيادة هذه الدول وروسيا إمكانية زيادة إمدادات الغاز الروسي. ووفقاً لبوتين، قد يتطلب ذلك تحديث البنية التحتية لتوصيل الغاز، وحتى إنشاء خطوط أنابيب غاز جديدة.
مع ذلك، فإن النقاش الدائر على ما يبدو، دفع واشنطن إلى فحص أوسع لفاعلية العلاقات الأمريكية-الأوزبكية. ففي 13 ديسمبر، عقد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن جلسة محادثات مع نظيره الأوزبيكي، وقالت وزارة الخارجية الأمريكية إن الولايات المتحدة تدعم بالكامل استقلال أوزبكستان وسيادتها الإقليمية، كما ترحب بالإصلاحات الجارية في البلاد. ولتعزيز هذه الأقوال بالأفعال على ما يبدو، نشرت وكالة “رويترز” معلومات تفيد بأن أوزبكستان، بعد “تخليها” عن اتحاد الغاز مع الاتحاد الروسي، زادت وارداتها من الغاز من تركمانستان بمقدار 1.5 مليار متر مكعب.
يفتح هذا السجال، ودخول واشنطن السريع على خط النقاشات، المجال أمام مشكلات جدية تواجه الكرملين الذي يراهن على أن الحاجة الاقتصادية المباشرة قد تكون أكثر إغراءً لبلدان المنطقة من الوعود السياسية طويلة الأمد. لكنْ على العكس من ذلك، فإن مدير معهد المشكلات الإقليمية في موسكو ديمتري زورافليف أعرب عن اعتقاده بأن العلاقات بين روسيا ودول آسيا الوسطى ستزداد سوءًا خلال المرحلة المقبلة. ووفقاً له، بالنسبة لهذه الدول، فإن مقياس استقلالها هو العلاقة مع روسيا.
وفي الوقت نفسه، وبالعودة إلى إمدادات الغاز، تجدر الإشارة إلى أن الواردات التركمانية غير قادرة على حل مشكلة تزويد سكان أوزبكستان وكازاخستان بموارد الطاقة. ويذكر أنه في أوزبكستان يوجد نقص في الغاز، فقد أوقفت الدولة تماماً تصدير هذه المادة الخام من أجل توفير حاجة السكان. ومنذ 6 ديسمبر، بعد بداية الطقس البارد، حتى في العاصمة طشقند حدث فشل في إمداد بعض المناطق بالتدفئة بسبب نقص الغاز. وفي 7 ديسمبر، اُتِّخِذَ قرار بوقف تشغيل محطات تعبئة الغاز في وادي فرغانة مؤقتاً. وفي وقت سابق، أُغلِقَت محطات الوقود في طشقند ومحيطها. لذلك، من المشكوك فيه أن تكون تركمانستان قادرة على تدفئة أوزبكستان المجاورة بالكامل بوقودها الأزرق.
وظهرت المشكلة نفسها في كازاخستان أيضاً. فقد تُركت بعض المدن والبلدات في البلاد، التي تشهد صقيعاً يصل إلى 30 درجة تحت الصفر، من دون تدفئة، وحتى من دون كهرباء. بالإضافة إلى ذلك، أعلنت شركة تشغيل الشبكة الكهربائية الكازاخية في 15 ديسمبر أنها قد تحدّ من استهلاك الكهرباء من قبل المؤسسات الصناعية الكبيرة بسبب نقص التوليد. كما لا ينبغي تجاهل أن ارتفاع أسعار الغاز تسبب في احتجاجات غرب كازاخستان مطلع عام 2022، والتي أسفرت عن أحداث يناير الدامية. وبعد ذلك، طلبت البلاد كميات إضافية من الغاز من روسيا. وفي بداية أغسطس 2022، أعلن وزير الطاقة في كازاخستان، بولات أكشولاكوف، أن الشركة الوطنية “قازاق غاز” كانت تتفاوض مع شركة “غازبروم” الروسية حول شروط تزويد المناطق الشمالية والشرقية من الجمهورية بالغاز. وبحسبه، من المخطط في المرحلة الأولى تزويد حوالي 4 مليارات متر مكعب من الغاز مع إمكانية زيادتها إلى 7-10 مليار متر مكعب.
تقف جمهوريات آسيا الوسطى، إذن، أمام اختيار صعب بين تلبية حاجاتها المباشرة التي تضمن تعزيز السلم المجتمعي ومنع تفاقم حالات التذمر، وهذا أمر يعتمد على إمدادات الطاقة من روسيا، وبين استقرار نظامها السياسي وعلاقاتها بالغرب، وخصوصاً مع الولايات المتحدة.
قدرات كامنة ضخمة
بالطبع ينبغي أيضاً عدم تجاهل حقيقة أن كازاخستان نفسها لديها احتياطيات كبيرة من الغاز، تصل إلى 3.8 تريليون متر مكعب. وإنتاج كازاخستان كبير جداً، فوفقاً لبيانات عام 2021، بلغ إنتاج الغاز الخام هناك 53.8 مليار متر مكعب. ومع ذلك، فإن 70% من الاحتياطيات القابلة للاستخراج هي غاز مصاحب من حقول النفط ومكثفات غاز، ويتطلب مثل هذا الغاز معالجة أولية باهظة الثمن. ويأتي أكثر من 80% من إنتاج الغاز الحالي في البلاد من ثلاثة مشاريع، هي: حقل كاراشاجاناك للنفط ومكثفات الغاز، وحقول النفط والغاز كاشاجان وتنجيز، والتي طُورت جميعها بالاشتراك مع مستثمرين غربيين.
وقد تطور وضع مماثل في صناعة الغاز في أوزبكستان، إذ تقدر احتياطيات الغاز الطبيعي في البلاد بنحو 1.86 تريليون متر مكعب. ويُنتَج ما يقرب من 60 مليار متر مكعب من الغاز في أوزبكستان سنوياً، ولكن وفقاً لعدد من التقديرات يبلغ العجز حوالي 20 مليار متر مكعب سنوياً.
وحتى وقت قريب، كانت أوزبكستان تصدّر الغاز إلى الصين وروسيا ودول آسيا الوسطى. ففي عام 2019 بلغ حجم الإمدادات إلى الصين 8 مليارات متر مكعب، وإلى روسيا 4.5 مليار، وإلى المناطق الجنوبية من كازاخستان 2.5 مليار، وإلى دول أخرى في آسيا الوسطى 500-550 مليون متر مكعب. ولكن في عام 2020، بسبب الانخفاض الحاد في إنتاج الغاز، اضطرت أوزبكستان إلى قطع إمدادات التصدير عملياً وتوجيه المواد الخام لتلبية احتياجات السكان.
وتُصدّر تركمانستان الغاز إلى أوزبكستان، لكن في حدود الاستخدام المُلِحّ فقط. ومن أجل التوسع الجاد في الصادرات، فإن من الضروري الاستثمار في القدرات الإنتاجية. وفي الوقت الحالي يُنتَج الغاز في تركمانستان من قبل الشركات الصينية، ويهدف إلى إمداد الصين بالغاز حصرياً.
وهنا يظهر أن روسيا وحدها، التي تدفعها الحاجة ومواجهتها الحالية مع الغرب، تُعد الطرف الجاهز للاستثمار وتغطية احتياجات المنطقة. وهي تتمتع حالياً بقدرات إنتاجية فائضة، لذا فهي قادرة على إمداد الدول المجاورة بغازها. وفي الوقت نفسه، ليست هناك حاجة إلى بناء بنية تحتية، إذ يوجد نظام خطوط أنابيب الغاز في وسط آسيا الذي يربط خطوط أنابيب الغاز لروسيا وكازاخستان وأوزبكستان وتركمانستان، والذي يبلغ طوله 2662 كيلومتراً وسعته 80 مليار متر مكعب سنوياً.
فرص نجاح المشروع من وجهة نظر موسكو
تُراهن موسكو على أن بلدان آسيا الوسطى، باستثناء تركمنستان، تحتاج بقوة إلى التحالف مع موسكو لتلبية حاجاتها من الغاز، وتطوير بناها التحتية وقدراتها لاحقاً لاستثمار الثروات المحلية. ومن وجهة النظر الروسية تتوافر أثناء تنفيذ المشروع السعات المتاحة لخط أنابيب الغاز بخارى-الأورال، الذي يُمَدّ عبر أراضي كازاخستان (تبلغ سعة هذا الخط أكثر من 8 مليارات متر مكعب من الغاز سنوياً)، ونظام نقل الغاز الإجمالي بين روسيا وتركمنستان الذي يتمتع بإمكانيات هائلة لضخ الغاز (أكثر من 50 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً)، لذلك فإن اقتراح الجانب الروسي له ما يبرره، مع الأخذ في الاعتبار نمو استهلاك الغاز في جمهوريات آسيا الوسطى. والمشروع، عند تنفيذه، ينطوي على فرص حقيقية لتزويد أسواق باكستان والهند، والتي يمكن أن تحل محل أسواق دول الاتحاد الأوروبي. وفي الوقت نفسه، سيكون من الضروري إشراك أفغانستان وإيران في المشروع، من أجل وضع خطوط جديدة لنظام نقل الغاز للتحالف الثلاثي.
تبعاً لذلك، يبدو أن “اتحاد الغاز الثلاثي” الذي اقترحه الجانب الروسي يتمتع بمزايا وآفاق واضحة، وبالنسبة للمشاركين في المشروع سيكون الغاز الروسي متاحاً بأسعار معقولة، وستتولد عنه مساهمات مالية لضخ الغاز وخلق الوظائف، وهو أمر مهم بحد ذاته. وترى موسكو أنه سيكون على كازاخستان وأوزبكستان فهم أن المشروع المقترح يمثل فرصةً تاريخية لاستخدام المزايا التي توفرها روسيا. وفي الوقت نفسه، تُجادل الدوائر الروسية أن هذا المشروع الاستثماري من شأنه إزالة جميع التهديدات العسكرية والاقتصادية والجيوسياسية التي قد تشعر بها جمهوريات آسيا الوسطى، لأن روسيا والصين، مع توسُّع الإمدادات، ستعملان بشكل مشترك على حماية استثماراتهما، فضلاً عن دخول الهند وباكستان بوصفهما مستفيدين أساسيين من المشروع. كما تنطلق موسكو من الرهان على أن التدابير التقييدية الغربية ضد بلدان آسيا الوسطى هي مجرد مسألة وقت، ومرتبطة بالدرجة الأولى بمدى نجاح موسكو في فرض تسوية مقبولة للأزمة الأوكرانية.
عقبات جدية
بالإضافة إلى مسألة العقوبات الغربية على الأطراف المتعاونة مع موسكو، تظهر مجموعة من العقبات الجدية التي تقلل من فرص تنفيذ المشروع، منها انتفاء الحاجة إلى المشروع عند أطراف مهمة فاعلة في سوق الغاز في المنطقة، بينها تركمنستان التي تبرز لديها الفرصة لزيادة إمدادات الغاز إلى أوزبكستان وكازخستان، حيث تمتلك البلاد قاعدة موارد كبيرة وإنتاجاً غير مكلّف. لكن السؤال المطروح بالنسبة لتركمنستان هو: كيف يمكن ضمان الطلب وجذب الاستثمارات لتوسيع الطاقات الإنتاجية؟
تواجه تركمانستان صعوبات كبيرة في مواردها الاستثمارية الخاصة، فقد اُستخدِمَ رأس المال الصيني بشكل أساسي لتزويد الصين بالغاز. لذلك، لا يُعرف مَن سيصبح مصدر الاستثمارات الرأسمالية لتطوير الاحتياطات التركمانية من أجل تعزيز التصدير إلى أوزبكستان؛ فكل شيء يعتمد على مسألة كمية الغاز التركماني التي ستحتاج إليها دول آسيا الوسطى. وعلى سبيل المثال، تنطلق كازاخستان تقليدياً من رغبتها في تلبية السوق المحلية بالكامل بإنتاجها الخاص، ومثلها أوزبكستان التي لا تهدف إلى زيادة الواردات بشكل حاد، إذ تحاول طشقند الموازنة بين الاستهلاك والإنتاج الخاص بها، وهذا يعني عدم توقع زيادة كبيرة في واردات كازاخستان وأوزبكستان من الغاز، الأمر الذي لن يكون جذاباً لتركمانستان وروسيا .وفي الوقت ذاته، تناقش تركمانستان بنشاط مع الاتحاد الأوروبي إمكانية بناء خط أنابيب غاز عبر بحر قزوين في سعة مخفضة، بمقدار 10-12 مليار متر مكعب، لتزويد أذربيجان بهذا الغاز. والحقيقة هي أن قاعدة موارد أذربيجان آخذة في التدهور، لكن الاهتمام بغاز بحر قزوين في الاتحاد الأوروبي لا يزال قائماً. وبالمناسبة، تشتري أذربيجان أيضاً الغاز الروسي. لذلك، يجري النظر في إمكانية قيام تركمنستان بتزويد الغاز لتلبية احتياجات أذربيجان الداخلية، على أن ترسل غازها في الوقت ذاته إلى الاتحاد الأوروبي، وهذا لا يتطلب استثمارات كبيرة.
ما سبق يضع أساساً للاقتناع بأن الفكرة الروسية تواجه صعوبات تتعلق بأن بلدان المنطقة لديها بدائل جيدة وأكثر أمناً لجهة العلاقات مع الغرب. وتحليل التصريحات الصادرة عن كازاخستان وأوزبكستان يوصل إلى نتيجة مفادها أن الحسابات الأكثر واقعية تدل على اقتناع كل من هذين البلدين بأن التقارب مع الكرملين سيؤدي عاجلاً أو آجلاً إلى العزلة الدولية فضلاً عن الخضوع للعقوبات، كما جرى مع بيلاروسيا. بالإضافة إلى ذلك، يوفر أي تحالف قوي مع موسكو فرصةً إضافية للتدخل في الشؤون الداخلية لهذه البلدان. كما يمكن أن يؤدي “تحالف الغاز الثلاثي” إلى استيلاء الروس على شركات النفط والغاز الوطنية. لكن في المقابل من المستحيل أيضاً وقف التعاون نهائياً، لأن روسيا ليست فقط بلد العبور الرئيس للمواد الخام، ولكن أيضاً الشريك التجاري والاقتصادي الرئيس لهذه البلدان.
استنتاجات
يواجه الاقتراح الروسي بإنشاء تحالف ثلاثي لنقل الغاز الطبيعي مع كازاخستان وأوزبكستان عقبات جدية، تكمُن في احتدام الصراع على المنطقة، ودخول واشنطن بقوة على خط السجالات الإقليمية، فضلاً عن المخاوف المحلية لبلدان آسيا الوسطى من الطموحات الروسية المستقبلية. ومع أن فرص نجاح المشروع لا تبدو واقعية على المدى المنظور، لكن هذا لا يمنع توجه أوزبكستان وكازاخستان نحو توسيع التعاون في مجال الطاقة بشكل حذر مع موسكو، لتلبية الاحتياجات الآنية، ومنع تدهور الموقف في العلاقات الاقتصادية والتجارية مع موسكو، وفي الوقت ذاته سوف يعمل البلَدان على تعزيز النقاشات مع الغرب لوضع استراتيجيات مستقبلية فيما يتعلق بمشاريع الطاقة.
من جهة أخرى، لا يمكن تجاهل دور الصين وتأثيرها في المشروع المطروح، وكان ملاحظاً أن الصين حتى الآن لم تدعم الفكرة الروسية أو تعارضها، نظراً لأن نجاحها قد يصب في مصلحة الصين لجهة استقرار وارادات النفط والغاز وتوسيعها، لكن في المقابل لدى الصين استثمارات مهمة للغاية في تركمنستان، وقد تكون لها مصلحة مباشرة في تعزيز حضورها في هذا القطاع الحيوي في كازاخستان وأوزبكستان أيضاً.
.
رابط المصدر: