وأخيرا نجح جيروم باول ومن خلفه مجلس الاحتياطي الفيديرالي الأميركي (البنك المركزي) في الوصول الى اللحظة التي انتظرها عالم الاقتصاد والأعمال ليتنفس الصعداء، بعد تشنج واضطراب كبيرين، عانت منهما مختلف الأسواق العالمية على مدى عامين، بعد رفع للفوائد الى أعلى مستوى بلغته منذ نحو ربع قرن كانت خلالها القلوب والأنظار تتطلع إلى هدف رئيس وحيد، وهو خفض معدلات التضخم التي أرخت بثقلها على مختلف اقتصادات العالم وأسعار النفط والمعادن، والمصارف وأسواق الأسهم والعقارات وشركات التكنولوجيا.
لن يكون الرئيس الأميركي السابق والمرشح الجمهوري دونالد ترمب سعيدا بقرار باول، في وقت يجب رصد استطلاعات الرأي المقبلة لمعرفة مدى تأثير هذا القرار على شعبية المرشحة الديمقراطية ونائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس. وكان آخر استطلاع أجرته “إيبسوس وآي. بي. سي. نيوز” أظهر أن 46 في المئة من الناخبين يثقون بترمب لإدارة الاقتصاد، في مقابل 39 في المئة لكامالا (مع هامش خطأ 2 في المئة). لكن هاريس في مطلق الأحوال ستنام مبتهجة الليلة لأنها في أمس الحاجة إلى هذا التحفيز النقدي والمالي في البلاد قبل 48 يوما من الانتخابات، في الخامس من نوفمبر المقبل، على الرغم من أنها كانت ضد ترشيح باول للمرة الأولى لقيادة الفيديرالي عام 2018 خلال وجودها في مجلس الشيوخ، ولا بد أن تشكر في سرها حكمة الرئيس الأميركي جو بايدن الداعي إلى استقلالية البنك المركزي في وضع السياسات النقدية والالتزام بها.
للمزيد إقرأ: جيروم باول الناخب الأكبر في أميركا
ويختصر رئيس الاحتياطي الفيديرالي موقفه في هذا الشأن بقوله: “الدول الديمقراطية حول العالم، مثل الولايات المتحدة، لديها بنوك مركزية مستقلة. والسبب هو أن الناس أدركوا على مر الزمن أن عزل البنك المركزي عن السيطرة السياسية المباشرة يمنع توجيه السياسة النقدية بما يخدم ربما المسؤولين في المناصب بدلاً من مصالح الشعب بشكل عام”.
الذهب قفز الى أعلى مستوى على الإطلاق إثر قرار الفيديرالي، وتراجع العائد على سندات الخزانة الأميركية، وتراجعت العقود الآجلة لخام برنت تسليم نوفمبر خمسة سنتات إلى 73.65 دولارا
وإذ يصادف هذا القرار الذي تلا “زوبعة” كشفت حجم “عدم اليقين” العالمي، عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية، ليس واضحا ماذا سيكون تأثيره أولا على تعويم ثقة المستثمرين والمستهلكين الذين يتخوف بعضهم من وصول الرئيس ترمب للرئاسة، وقد بدأوا بالفعل بالتحصن بالذهب الذي قفز الى أعلى مستوى على الإطلاق إثر قرار الفيديرالي، 2592.39 دولار للأونصة، مساء أمس بتوقيت لندن، وصعدت العقود الأميركية الآجلة للذهب 0.2 في المئة إلى 2598.60 دولار عند التسوية. وانخفض العائد على سندات الخزانة الأميركية لأجل عامين إلى 3.6 في المئة، بينما تراجع العائد على سندات الخزانة لأجل عشر سنوات إلى 3.68 في المئة.
متداولون في بورصة نيويورك، 23 أغسطس 2024
وبالنسبة للنفط، تراجعت العقود الآجلة لخام برنت تسليم نوفمبر/تشرين الثاني خمسة سنتات إلى 73.65 دولار للبرميل عند التسوية. كما انخفضت العقود الآجلة للخام الأميركي تسليم أكتوبر/تشرين الأول 28 سنتا إلى 70.91 دولار للبرميل.
توقعات الفائدة للمستقبل 2025 -2026
وفي وقت سابق تلقت أسعار النفط، بعض الدعم من احتمال اتساع أعمال العنف في الشرق الأوسط وهو الأمر الذي قد يتسبب في اضطراب الإنتاج في منطقة محورية بعد تفجيرات متزامنة لأجهزة اتصال لاسلكية “بيجر” تابعة لـ”حزب الله” في لبنان.
قبل ساعات قليلة، وللمرة الأولى منذ أربع سنوات أيام خفض الفائدة إثر جائحة “كوفيد-19″، وبعد عشر زيادات متتالية منذ مارس/آذار 2022، قرر رؤساء البنوك الإقليمية الـ12 لمجلس الاحتياطي الفيديرالي، بغالبية 11 صوتا، بدء مسار خفض الفائدة الأميركية بنصف نقطة كاملة 0.50 في المئة، من أعلى مستوى بلغته 5.25-5.50 في المئة، لترسو اليوم على 4.75 – 5.00 في المئة. ويرى صناع السياسات النقدية أن سعر الفائدة القياسي سيخفض نصف نقطة مئوية أخرى بحلول نهاية هذا السنة الجارية، ونقطة مئوية كاملة أخرى في 2025، ونصف نقطة مئوية نهائية في 2026 لينتهي في نطاق 2.75 -3.00 في المئة.
هذا القرار سيريح، ولا شك، الاقتصادات والمقترضين من أفراد وشركات والمستثمرين الكبار ورواد الأعمال، وسيدفع نحو تجنب الركود، أو تأجيله في الولايات المتحدة تبعا لتطورات نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية ومن ثم تأثيرها على الاقتصاد-القاطرة لاقتصادات العالم. ويُتوقع أن يشكل تيسيرا ثابتا للسياسات النقدية مع خفض أكبر من المعتاد في تكاليف الاقتراض في أعقاب القلق المتزايد في شأن سلامة أسواق العمل والوظائف.
تأنى الفيديرالي فأصاب أهدافه… حتى الآن
أفضل وصف لقرار الفيديرالي اليوم أنه قرار متأن، فهو لم يكن أقل حذرا من نظيريه، البنك المركزي الأوروبي وبنك إنكلترا، الحريصين على عدم إغفال أخطار قد لا تزال كامنة لإشعال فتيل التضخم من جديد، من دون القدرة للسيطرة عليه في الوقت والزمان المناسبين.
يرى صناع السياسات النقدية أن سعر الفائدة سيخفض نصف نقطة مئوية أخرى في نهاية 2024، ونقطة مئوية كاملة في 2025، ونصف نقطة نهائية في 2026 لينتهي في نطاق 2.75 -3.00 %
كان انتظار باول حكيما وخطرا في الوقت نفسه، فوصول نسبة التضخم في الولايات المتحدة إلى 2,5 في المئة، نزولا من أكثر من 7 في المئة منذ عامين، وهي نسبة قريبة جدا من نسبة الـ2 في المئة المستهدفة، دليل كبير على دقته في التحرك في أسعار الفائدة صعودا أو نزولا، وعدم تأثره بعوامل قد تبدو حاسمة، مثل حالة الذعر التي ألمت بالمستثمرين في الأسواق العالمية في الأسبوع الأول من أغسطس/آب الماضي، أو أسبقية مصارف مركزية أخرى عريقة في خفض سعر الفائدة في بلدانها. إلا أن تلك العوامل لم تشكل ضغطا على قراره.
رئيس بنك الاحتياطي الفيديرالي جيروم باول يتحدث في مؤتمر صحافي بعد إعلان خفض الفائدة في مبنى مجلس الاحتياطي في واشنطن، 18 سبتمبر 2024
لقد كان انخفاض التضخم إلى هذه النسبة المتدنية، مع استمرار التمسك بسعر فائدة مرتفع، تراوح بين 5.25 و5.50 في المئة، قد يشكك بالالتزام بالمواعيد اللاحقة لخفوضات إضافية ومتتالية، لجهة مستوى الخفض والمدة التي سيحتاجها. وهذا ما عبر عنه كينيث بروكس، رئيس أبحاث الشركات والعملات الأجنبية وأسعار الفائدة في “سوسيتيه جنرال”، في معرض المقارنة مع أزمات كبرى سابقة، إذ قال قبل قرار الخفض: “لا نعرف حتى الآن أي نوع من الدورة ستكون هذه؟ هل ستكون مثل عام 1995 عندما كانت هناك خفوضات بمقدار 75 نقطة أساس فقط أو مثل عامي 2007-2008، عندما كان هناك 500 نقطة أساس”.
إقرأ أيضا: “جاكسون هول” يرسم مصير الفوائد والتضخم والأزمات المالية المقبلة
وقال صناع السياسات في لجنة تحديد أسعار الفائدة في البنك المركزي الأميركي في أحدث بيان لهم: “لقد اكتسبت اللجنة ثقة أكبر في أن التضخم يتحرك على نحو مستدام صوب اثنين في المئة، وتقدر أن الأخطار التي تهدد تحقيق أهداف التوظيف والتضخم متوازنة تقريبا”.
قد لا يمنع خفض أسعار الفائدة من دخول الولايات المتحدة في ركود شامل في المدى المنظور، وفقا لمزاج المستثمرين، فمنهم من ينتظر، ومنهم من يعتبر أن الخفض المتواضع للفائدة جاء متأخراً للغاية
وكان الاقتصاد الأميركي على عتبة الخروج من ركود كبير عام 1994 دفعت أسعار الفائدة إلى ارتفاعات جذرية، وكذلك في عامي 2007 و2008، إثر أزمة الديون والرهون العقارية التي أدخلت البلاد في ركود كبير. وهذا ما يدفع الى القول بأن قرار الفيديرالي، وهو أول خطوة في مسيرة متدرجة لخفض الفوائد، قد لا ينتج المفاعيل المرجوة بالسرعة المطلوبة كما يؤمل.
وقد لا يمنع خفض أسعار الفائدة من دخول الولايات المتحدة في ركود شامل في المدى المنظور، وفقا لمزاج المستثمرين، فمنهم من ينتظر، ومنهم من قد يعتبر أن الخفض المتواضع في سعر الفائدة قد جاء متأخراً للغاية بحيث لا يمكن إنقاذهم.
في انتظار المشهد الأمني والسياسي والعقاري
مما لا ريب فيه أن قرار الفيديرالي يعتبر جريئا وينم عن ثقة في المناخ الاقتصادي العام، كما يبث جرعة كبيرة من الثقة لدى المستثمرين المترقبين، بهدف إحداث صدمة إيجابية تعزز حيوية الأسواق من جهة، وترسي استقرارا مريحا من جهة ثانية.
نشر أسعار الرهن العقاري في لوس أنجلوس، قبل وقت قصير من إعلان رئيس بنك الاحتياطي الفيديرالي جيروم باول عن خفض أسعار الفائدة، 18 سبتمبر/أيلول 2024
يبقى السؤال الأهم، ما تأثير قرار الاحتياطي الفيديرالي حقا مع ما يشهده العالم المترابط من صراعات وتقلبات حادة لا سيما في المشهد السياسي الأمني، وتقييم الانعكاسات الواقعية الملموسة على الاقتصادات والمؤشرات خصوصا، الرهن العقاري، وفرص العمل وأداء الأعمال وشركات التكنولوجيا والصناعات العملاقة بعيدا من الحسابات المالية الصرفة.
إقرأ أيضا: “إثنين الإنهيارات” المالية… زوبعة في فنجان ياباني
والأهم أيضا معرفة من سيكون على رأس السلطة في الولايات المتحدة بعد الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني، وتاليا مسار الركود أو الخروج من عنق الزجاجة. فكل الناس، ومصارف العالم وشركاته، يعلمون أنه إذا عطس الاقتصاد الأميركي فسيصاب العالم بالزكام.