- تتبنى الصين منذ عام 2020 استراتيجية تهدف لإعادة هيكلة قطاع البتروكيماويات باتجاه توطين التكنولوجيا عالية الجودة في هذا القطاع، والتحوُّل إلى لاعب عالمي في مجالي المواد الكيميائية المتخصصة والدقيقة.
- مع أن الصين تعد حالياً المنتج الأكبر في مجال صناعة البتروكيماويات، إلا أنها تعاني من عجز تجاري في المنتجات البتروكيماوية. ويشكل الاستيراد القناة الأساسية القادرة على سد هذا العجز، وهو ما يزيد من اعتماد الصين على الخارج.
- ستستمر القاعدة العريضة للطلب المحلي الصيني من المواد الكيميائية والبتروكيماويات في توفير مساحة للاستثمار الأجنبي، أقلُّهُ حتى نهاية العقد، ما يشكل فرصة للشركات الخليجية الباحثة عن فرص استثمارية في السوق الصيني، وتنويع شراكاتها بعيداً عن صادرات النفط الخام التقليدية.
وقَّعت شركة سابك السعودية لصناعة البتروكيماويات، في أغسطس 2024، اتفاقاً مع حكومة إقليم فوجيان الصيني لبناء مصنع لتصنيع المركبات البلاستيكية الحرارية الهندسية في الإقليم. وكان هذا الاتفاق هو الأخير ضمن سلسلة اتفاقات مماثلة وقعتها شركات خليجية، منها شركة بروج الإماراتية، في انعكاس لتوسع التعاون بين الجانبين في صناعة المواد الكيميائية والبتروكيماويات.
تحلل هذه الورقة أبعاد هذا التعاون عبر التركيز على الطلب والأسعار في السوق الصيني وخطط الحكومة الصينية المستقبلية، وتأثير كل ذلك على الصادرات والاستثمارات الخليجية ذات الصلة.
الطريق نحو التنويع الاقتصادي
يتبنى منتجو النفط سياسة قائمة على التحوط ضد الانخفاضات المتوقعة في الطلب على النفط الناتجة عن التحول الطاقي، خصوصاً في قطاعات النقل والوقود الحيوي والتصنيع. ويقول تقرير لوكالة الطاقة الدولية صدر في 2023 “من المقرر أن يتباطأ نمو الطلب العالمي على النفط إلى حد التوقف تقريباً في السنوات المقبلة، مع ارتفاع الأسعار ومخاوف أمن الإمدادات التي أبرزتها أزمة الطاقة العالمية والتي تعمل على تسريع التحول نحو تقنيات الطاقة النظيفة”. وتعتقد الوكالة أن الطلب العالمي على النفط سيرتفع بنسبة 6%بين عامي 2022 و 2028 ليصل إلى 105.7 مليون برميل يومياً. لكن، في الوقت نفسه، تتوقع أيضاً انخفاض نمو الطلب السنوي من 2.4 مليون برميل يومياً في 2024 إلى 0.4 مليون برميل يومياً فقط في عام 2028. ويشير التقرير، بشكل أكثر تفصيلاً، إلى بعض القطاعات التي ستشهد تراجعاً أسرع من القطاعات الأخرى، بالقول إنه “من المقرر أن يتراجع استخدام النفط وقوداً للنقل بعد 2026، حيث يؤدي توسع المركبات الكهربائية ونمو الوقود الحيوي وتحسين الاقتصاد في استهلاك الوقود إلى تقليل الاستهلاك”.
وتُمثِّل صناعة المواد الكيميائية والبتروكيماويات مخرجاً مناسباً لمنتجي الطاقة التقليدية، عبر تجنُّب الأضرار الاقتصادية المحتملة الناجمة عن انخفاض الطلب على النفط من طريق تحويل أكبر قدر من النفط المستخرج إلى مواد كيماوية تحظى بطلب مرتفع في صناعات الطاقة النظيفة، مثل ألواح الطاقة الشمسية وتوربينات الرياح، إلى جانب صناعات ضرورية أخرى. لكن ذلك سيحتاج إلى درجات عالية من الابتكار التكنولوجي للتسريع من هذه العملية.
البتروكيماويات في الصين: صناعة في طور إعادة الهيكلة
بلغت مبيعات صناعة صناعة المواد الكيميائية والبتروكيماويات العالمية 4.7 تريليون دولار في 2022. وعلى رغم اتساع نطاق منتجات هذه الصناعة، يمكن تصنيف هذه المنتجات إلى أربعة قطاعات: المواد الكيميائية الأساسية، والمواد الكيميائية الزراعية، والمواد الكيميائية المتخصصة، والمنتجات الاستهلاكية. وفي 2020، جاءت الصين في المرتبة الأولى عالمياً بنسبة 29.1% من القيمة المضافة في إنتاج صناعة الكيماويات، مقارنة بـ 3.8% في 1995، طبقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. في المقابل، تركز نحو 49% من القيمة المضافة للقطاع في جميع بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في نفس العام، بانخفاض كبير من 82% في 1995.
وبلغت حصة الصين في السوق العالمية حوالي 15% قبل وباء كورونا، لكنها ارتفعت الآن إلى حوالي 40%. وتقول شركة استشارات اقتصادية في تقرير العام الماضي إن الصين تتمتع بحصة قدرها 55% من الإنتاج العالمي لحمض الأسيتيك، و50% من الإنتاج العالمي للكربون الأسود، وحوالي 45% من ثاني أكسيد التيتانيوم. إلى جانب ذلك، تنتج الصين نحو 65% من الطاقة المضافة للإيثيلين، وتستعد أيضاً لمضاعفة قدرتها المحلية على إنتاج الباراكسيلين، وهي مادة خام أساسية لإنتاج البوليستر.
واللافت هو سرعة التطوير وإعادة هيكلة المصافي والإنتاج في الصين مقارنة بالدول الغربية والآسيوية (الولايات المتحدة وألمانيا واليابان) المتقدمة في هذا المجال. ويقول التقرير “بالنسبة للعديد من هذه المنتجات الكيميائية، بدأت الصين بوصفها مستورداً صافياً، ثم بَنَت القدرة المحلية، وانتهت إلى أن أصبحت مصدراً رئيساً”. فضلاً عن ذلك، في عام 2022، بلغت نسبة الصين من الاستثمار في صناعة البتروكيماويات عالمياً 46%. وفي 2023، استحوذت الصين على ما يقرب من 60% من الزيادة في الطاقة الإنتاجية للبتروكيماويات في العالم.
ويدخل استخدام المنتجات البتروكيماوية في مختلف الصناعات الصينية، ويتراوح من البوليمرات البلاستيكية ومواد البناء ومكونات المنسوجات إلى المواد الخام للتركيب الكيميائي. وشهد الطلب الصيني على البتروكيماويات ارتفاعاً، حيث تضاعف على مدى السنوات السبع الماضية.
وترسم هذه البيانات صورة واقعية لصناعة البتروكيماويات الصينية. لكنها ليست مكتملة. فعلى الرغم من أنها المنتج الأكبر، تعاني الصين من عجز تجاري في المنتجات البتروكيماوية. وبلغ العجز التجاري الصيني في المواد الكيميائية 16% من إجمالي عجز التجارة الخارجية في عام 2018، وهي زيادة بنحو الضعف مقارنة عام 2015. يرجع ذلك إلى ارتفاع الطلب في السنوات الماضية، وقدرة السوق الصيني على امتصاص الزيادة العالمية في الإنتاج. وأحد العوامل المحفزة لهذا الارتفاع في واردات المنتجات البتروكيماوية النمو السريع في صناعات الطاقة النظيفة، من قبيل ألواح الطاقة الشمسية وتوربينات الرياح والسيارات الكهربائية والبطاريات التي تعد هذه المنتجات مكونات رئيسة فيها.
لكن، يوجد سبب آخر يمكن استنتاجه من هذا التناقض، وهو حاجة الصين للمنتجات البتروكيماوية ذات القيمة المضافة العالية، وهو ما تعاني الصناعة المحلية من نقص في إنتاجها. أي أن الصناعة المحلية تعاني من نقص في الابتكار التكنولوجي اللازم للنهوض بجودة سلاسل التوريد. ويشكل الاستيراد القناة الأساسية القادرة على سد هذا العجز، وهو ما يزيد من اعتماد الصين على الخارج. ولا يبدو الارتفاع في معدلات الاستثمار في السوق المحلي الذي تدعمه الدولة بقوة قادراً بمفرده على إعادة توجيه الصناعة نحو سلاسل التوريد عالية القيمة أو تحسين قدرتها التنافسية. بل يمكن أن تؤدي هذه المعادلة إلى نتائج عكسية، إذ يؤدي الفائض في رأس المال المتاح للشركات الصينية للتوسع في استثماراتها إلى المزيد من إغراق السوق بمنتجات ذات قيمة منخفضة.
لكن، منذ إطلاق استراتيجية “صنع في الصين 2025″، باتت الشركات الصينية أكثر استعداداً لقيادة التحول من إنتاج البتروكيماويات الأساسية لأقمشة البوليستر والتغليف البلاستيكي، إلى تصنيع منتجات ذات قيمة أعلى مثل الاستومرات البولي أوليفين (POE) لحماية خلايا الطاقة الشمسية، والبولي إيثيلين المستخدم في فصل بطاريات الليثيوم-أيون، وألياف الكربون المستخدمة في تصنيع شفرات توربينات الرياح.
السير في الاتجاه الصحيح؟
يظهر تفوق الصين في المنتجات الكيميائية منخفضة القيمة في الفرق من حيث القدرة التصديرية بين المواد الكيميائية السلعية (مثل الصابون وغيره)، والمواد الكيميائية المتخصصة. وباتت الصين مصدراً صافياً في القسم الأول، لكنها لا تزال مستورداً صافياً في القسم الثاني. يعود ذلك إلى حاجة المنتجات المتخصصة إلى معدات وتكنولوجيا أكثر تطوراً من المواد الكيميائية السلعية، وهو ما ساعد في تعزيز نفوذ الشركات الأجنبية في القطاع على مدار العقود الماضية. على سبيل المثال، ذكرت وزارة الصناعة وتكنولوجيا المعلومات في عام 2018 أن 32% من 130 مادة كيميائية أساسية لا يمكن إنتاجها في الصين، وأن الصين لا تزال تعتمد على الاستيراد لسد العجز في أكثر من 50% من جميع المنتجات الكيميائية الدقيقة.
لكن، منذ 2020، تتبنى بيجين استراتيجية تهدف لإعادة هيكلة القطاع باتجاه توطين التكنولوجيا عالية الجودة في القطاع، والتحوُّل إلى لاعب عالمي في مجالي المواد الكيميائية المتخصصة والدقيقة. يأتي ذلك ضمن استراتيجية الصين الأوسع للتحوُّل إلى الاكتفاء الذاتي في مجال البتروكيماويات على وجه التحديد بحلول 2030، أي مع نهاية خطتها الخمسية الخامسة عشرة (2026-2030). وتتشكل ملامح الاستراتيجية الصينية من الآتي:
أولاً، تقليص هيمنة الشركات الأجنبية على الإنتاج عالي الجودة من طريق زيادة الدعم الحكومي للشركات المحلية على الاستحواذ على حصة أكبر من السوق، وسن قوانين ولوائح تقلص من الملكية الفكرية للشركات الأجنبية.
ثانياً، تعميق الميزة التنافسية للسوق الصيني عبر الإبقاء على بيئة تشريعية وتنظيمية للصناعة أقل تقييداً، بحيث تمنح حرية لعمل الشركات المحلية.
ثالثاً، وضع وزارة الصناعة والتكنولوجيا خططاً للتركيز على الاستثمار، خصوصاً بين الشركات الحكومية، على المواد الكيميائية الدقيقة والمتخصصة استناداً إلى رؤية بيجين أن هذا القطاع سيحدد مستقبل الطلب العالمي في المستقبل.
رابعاً، ربط البيئة الإنتاجية المحلية بشركات الابتكار والطاقة النظيفة والمتجددة التي تشكل النسبة الأكبر من زبائن سوق المواد الكيميائية، بهدف تعزيز القدرات التكنولوجية والابتكارية لهذه الشركات.
خامساً، الاستمرار في تعزيز مكانتها العالمية في هذا المجال.
التحديات
على رغم كل الإصلاحات الداخلية، قد يشهد الطلب الصيني تراجعاً في خلال الأعوام المقبلة، سيتسبب حتماً في تراجع الطلب العالمي. وعلى سبيل المثال، ظهرت بوادر تراجُع في الطلب على مادة البولي بروبلين منذ 2020، على رغم زيادة عدد الشحنات (شكل 1). والسبب في ذلك خليط من العوامل الداخلية والخارجية التي تجتمع معاً، منذ 2021، لتشكل عائقاً أمام تسريع وتيرة الطلب الداخلي وقدرة السوق المحلي على امتصاص المعروض، وهو ما تسبب مؤخراً في صعود أزمة “فائض القدرة الإنتاجية” الصينية في مجالات عدة، ومن بينها صناعة المواد الكيميائية والبتروكيماويات. وهذا بدوره يشكل طارداً للاستثمارات من الشركات الأجنبية التي لا ترى كلفة مرتفعة دون عائد مناسب للتوقعات.
شكل 1: الطلب الصيني على مادة البولي بروبلين منذ 2020
أحد أهم الأسباب الداخلية للتراجع في أداء الاقتصاد الصيني هو التراجع في قطاع العقارات، منذ عام 2021، والتراجع في عدد السكان، وأزمة الديون المتفاقمة، إلى جانب التباطؤ في الاستهلاك المحلي. وقد أثرت هذه الأزمة في الفروق السعرية والهوامش الربحية للمواد الكيميائية والبوليمرات. على سبيل المثال، تظهر بيانات “أي سي أي أس” عدم انخفاض فروق الأسعار عن تكاليف النافثا، بين عامي 2003 و2021، إلى أقل من 400 دولار للطن. وقد بلغ متوسط فروق الأسعار للبولي بروبلين في نفس الفترة حوالي 562 دولاراً للطن. لكن من يناير 2022 وحتى يوليو 2024، بلغ متوسط فروق الأسعار فقط 239 دولاراً للطن.
إضافة إلى ذلك، فإن دفع الصين باتجاه الوصول إلى الاكتفاء الذاتي في صناعة المواد الكيميائية والبتروكيماويات يُقلل من حصص صادرات الدول المنتجة في الخارج، ومن ثم الطلب العالمي. وتقدر “أي سي أي أس” أن الطاقة المحلية في الصين هذا العام ستتجاوز 100% من الطلب المحلي، ارتفاعاً من 60% فقط في عام 2010.
ظهرت آثار هذا التراجع في صورة انخفاض في عائدات الدول المصدرة للصين، ومنها دول الخليج. فقد انخفضت مبيعات السعودية من البولي بروبلين إلى الصين بمقدار 168 مليون دولار في عام 2023 مقارنة بعام 2022. وجاء ذلك بسبب انخفاض الطلب والأسعار، حيث استوردت الصين 349 ألف طن من المملكة في عام 2023، مقارنة بـ 458 ألف طن في عام 2022. وتقدر البيانات أن مبيعات دولة الإمارات من المواد الكيميائية والبتروكيماويات للصين انخفضت بحوالي 26 مليون دولار في الفترة بين يناير ويونيو 2024 مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، بينما انخفضت مبيعات السعودية بحوالي 85 مليون دولار. ولا يقتصر التراجع على دول الخليج، بل يشمل مصدرين آخرين مثل روسيا وكوريا الجنوبية وتايوان (شكل 2).
شكل 2: التراجع في مبيعات الدول المصدرة إلى الصين
وبناء على انخفاض الأسعار، يظهر التأثير المباشر لهجمات الحوثيين في البحر الأحمر. فبالنسبة للمصدرين الخليجيين، فإن انخفاض الأسعار المشار إليه سابقاً، بالتزامن مع ارتفاع تكاليف الشحن والتأمين يعمق من خسائر المصدرين، خصوصاً إلى أوروبا. وفي سبتمبر، ارتفعت أقساط التأمين على السفن المبحرة في البحر الأحمر من 0.7% إلى ما يصل إلى 2% من قيمة السفينة، بحسب بيانات رويترز. ولا يوفر طريق رأس الرجاء الصالح بديلاً أقل كلفة أيضاً.
في المقابل، شهدت صادرات الصين من المواد الكيميائية والبتروكيماويات استمراراً في الارتفاع في عام 2024 مقارنة بعام 2023، فيما تركزت الوجهات بشكل أكبر على منطقة جنوب شرق آسيا. وتشير تقديرات “أي سي أي اس” إلى إمكانية تسبب الزيادة المستمرة في الصادرات الصينية إلى اعتماد الكثير من الدول المستوردة سياسات أكثر حمائية لحماية أسواقها المحلية، على غرار صادرات بيجين من منتجات الطاقة النظيفة والمتجددة. ومن ثم، قد تشهد الفترة المقبلة فرض رسوم جمركية على الصادرات الصينية من البتروكيماويات أيضاً.
التداعيات على دول الخليج
تحتل شركة وانهوا للكيماويات، وجيجيانغ للبتروكيماويات (ZPC)، وهينغلي للبتروكيماويات، وسينوبيك الخطوط الأمامية في استراتيجية التحوُّل الصينية. يتزامن ذلك مع دفع دول الخليج لعقد المزيد من الشراكات في مجال إنتاج المواد الكيميائية والبتروكيماويات مع الأسواق الآسيوية، خصوصاً الصين. على سبيل المثال، حوالي 25% من إجمالي صادرات دول الخليج ووارداتها من البتروكيماويات يجري مع الصين.
وتتقدم شركتا أرامكو السعودية وبروج الإماراتية الصفوف فيما يتعلق بالاستثمارات الخليجية في الصين. وتسعى الشركتان إلى توسيع حصصهما في الأسواق التي تشهد نمواً كبيراً، وتعزيز برنامج تحويل النفط إلى مواد كيميائية، وتثبيت الطلب على النفط الخام مستقبلاً. ومنذ عام 2010، نجحت أرامكو في بناء شراكات استثمارية مع شركات صينية في أقاليم فوجيان، وتيانجين، هيباي، وجيجيانغ، ولياونينغ.
وفي خلال 2023 وحدها وقعت أرامكو اتفاقات لشراء حصص في (وإقامة شراكات متعددة مع) مجموعتي نورينكو وبانجين شينتشنغ الصناعية، ورونغشنغ للبتروكيماويات، وجيانغسو شنغهونغ للبتروكيماويات، وشركة شاندونغ يولونغ للبتروكيماويات، وشركة هنغلي للبتروكيماويات، وسينوبيك. بينما وقَّعت شركات بروج الإماراتية وأدنوك وبورياليس اتفاقات، في يوليو 2024، مع شركتي وانهوا الكيميائية، ووانرونغ للمواد الجديدة لإنشاء مجمع للبولي أوليفينات بطاقة 1.6 مليون طن سنوياً في الصين.
تستند الدوافع الصينية من إبرام الشراكات المكثفة مع الشركات الخليجية ليس فقط على ضمان توسيع نطاق الطلب المحلي والوصول للاعتماد الذاتي، وإنما أيضاً توطين تكنولوجيا تحويل النفط الخام إلى مواد كيميائية متقدمة. على سبيل المثال، يؤدي استخدام التكنولوجيا الجديدة في وحدة واحدة من وحدات التكسير التحفيزي إلى تحويل ما يصل إلى 40%من إنتاج المصفاة إلى المواد الخام البتروكيماوية. في حين تعمل الشركات الخليجية، وعلى رأسها أرامكو، على تقنيات قد تقود إلى إمكانية تحويل ما يصل إلى 70-80%من إنتاج المصفاة إلى مواد بتروكيماوية. وتسمح هذه التقنيات المتقدمة أيضاً بالقدرة على استخدام منتجات وقود التكرير منخفضة القيمة كمواد خام للتكسير. إلى جانب ذلك، تتوافق مساعي الشركات الخليجية مع الرؤية الصينية في الاعتماد أكثر على مصادر الطاقة النظيفة في المصافي، سعياً لتقليص نسبة الكربون في كل طن من المنتجات البتروكيماوية.
خلاصة واستنتاجات
تبدو الصين عاقدة العزم على تحقيق الاكتفاء الذاتي في صناعة المواد الكيميائية والبتروكيماويات أيضاً لخدمة أهداف النمو الاقتصادي على المدى الطويل. على رغم ذلك، ومثل الصناعات الأخرى التي ركزت الحكومة الصينية على تنميتها في خلال العقد الماضي، بدأت ملامح فائض القدرة الإنتاجية في الظهور نتيجة انخفاض الطلب المحلي ومن ثم انخفاض الأسعار. وثمة توقعات بأن يستمر الطلب السنوي الصيني عند مستويات 1-3%.
وعلى الرغم من تراجع الطلب إلى مستوى أقل من التوقعات، فإن القاعدة العريضة للطلب المحلي الصيني ستستمر في توفير مساحة للاستثمار الأجنبي، وهو ما لن يتراجع في أي وقت قريب طالما لم يصل السوق الصيني إلى القدرة على الابتكار التكنولوجي، والاكتفاء الذاتي فيه، قريباً، وطالما ظل هدف الوصول للاكتفاء الذاتي من المواد الكيميائية والبتروكيماويات بحلول عام 2030 أولوية حكومية، وهو ما يشكل فرصة استراتيجية بالنسبة للشركات الخليجية الباحثة عن فرص استثمارية في السوق الصيني، وتنويع شراكاتها بعيداً عن صادرات النفط الخام التقليدية.
ومن ثم يُتوقع أن يتسبب ذلك في تراجع الطلب مقارنة بالتوقعات، أو على الأقل نموه بشكل أبطأ منها، على المستويين القصير والمتوسط. كما يُرجح أيضاً استمرار الأسعار في الانخفاض على المدى القصير، بالتزامن مع ارتفاع تكاليف الشحن والتأمين، وهو ما سيكون له تبعات سلبية على عوائد المصدرين. لكن التحدي الأكبر بالنسبة للشركات الخليجية سيكمن في الاستراتيجية الصينية لنقل التكنولوجيا بهدف الوصول للاعتماد الذاتي، الذي يتبعه الهيمنة المطلقة على السوق الصيني من قبل الشركات الصينية، مع تقليص حصص الشركات الأجنبية على المدى المتوسط.
ويتبين مما سبق أن الشركات الخليجية قد تواجه عدة تحديات أهمها: تراجع الطلب العالمي نتيجة تباطؤ الطلب في السوق الصيني، وانخفاض أسعار المنتجات المصدرة وارتفاع التكلفة، وسعي الصين للوصول للاعتماد الذاتي عبر هيمنة الشركات الصينية على السوق. وبناء على ذلك من المهم زيادة التركيز على تنويع وجهات الصادرات الخليجية من المنتجات الكيميائية والبتروكيماويات باتجاه دول آسيوية أخرى. ينبغي في هذا الإطار التموضع كلاعب عالمي في المنتجات الدقيقة والمتخصصة، وهو ما سيسمح للشركات الخليجية بالتنافس في آسيا مع الصين أكبر مصدر في المنطقة. لكن الصادرات الصينية لا تزال مستندة على المنتجات الاستهلاكية والأقل تعقيداً، ومن ثم لا يزال أمام الشركات الخليجية فرصة، حتى نهاية العقد، لكسب حصص ثابتة وطويلة المدى في آسيا.
وتظل الحاجة ماسة للتخفيف من معضلة انخفاض الأسعار العالمية عبر التقليل من تكلفة الإنتاج والشحن والتأمين. وربما تكون الصادرات الخليجية إلى آسيا غير متضررة بشكل مباشر من أزمة البحر الأحمر مقارنة بالصادرات الخليجية إلى أوروبا. لكن ارتفاع تكاليف الشحن بشكل عام عالمياً له تبعات سلبية مباشرة على الهوامش الربحية للمواد الكيميائية والبوليمرات. أحد أهم الروافد التصديرية التي يمكن من طرقها تعويض بعض الخسائر السوق الهندي الذي يشهد طلباً مرتفعاً مدفوعاً بمبادرات الحكومة لدعم قطاع التصنيع، وارتفاع مستويات استهلاك البلاستيك، ونمو صناعة التعبئة والتغليف، إلى جانب تركيز الهند أيضاً على توسيع صناعتها البتروكيماوية التحويلية.
وعلى رغم استمرار الصين بتبني بيئة تنظيمية فضفاضة في صناعة المواد الكيميائية والبتروكيماويات لتشجيعها، وهو ما يوفر فرصة بالنسبة للشركات الخليجية الساعية للاستثمار في السوق المحلي، لا يُرجَّح استمرار هذا الوضع على المستوى المتوسط مع زيادة الدفع الحكومي باتجاه الاعتماد الذاتي في هذه الصناعة. ولمراقبة ذلك بشكل دقيق، ينبغي دراسة الخطة الخمسية الخامسة عشر (2026-2030) فور صدورها لاكتساب صورة أوضح للخطط الحكومية المستقبلية. ومن ثم، ينبغي الاستعداد من الآن عبر التحوط. في هذا الإطار، ينبغي أن تقام بعض الشراكات المستقبلية مع الشركات الصينية على الأراضي الخليجية بالتوازي مع التوسع في السوق الصيني. سيشكل ذلك ضمانة لاستمرار ربحية هذه الشراكات على المدى الطويل واستمرارها. وسيوفر ذلك أيضاً حماية للشركات الخليجية من عدم اليقين التنظيمي واللوائحي في الصين، خصوصاً مع اشتداد التنافس مع الغرب. إلى جانب ذلك، ستكتسب الشركات الخليجية مناعة من أي رسوم جمركية تفرض على المنتجات البتروكيماوية الصينية مع الدخول في مرحلة سعي الصين لإغراق السوق العالمي، وهو ما يتوقع حدوثه. هذا الإطار سيساعد الشركات الخليجية على تبادل التكنولوجيا والابتكار المعرفي في المستقبل، بدلاً من نقل تكنولوجيا التحويل المتقدمة في المصافي إلى الصين من قبل الشركات الخليجية فقط.