محمد علي جواد تقي
يسعى البعض لأن يكون من أبطال المرحلة القادمة من جائحة “كورونا المستجد” من خلال مقاطع مسجلة تبث على مواقع التواصل الاجتماعي يتحدث فيها اشخاص يفترضون وجود ما يشبه المؤامرة على سكان العالم، ومحاولة التلاعب بالمصائر بذريعة انتاج لقاحات لهذا المرض الوبيل، وقد حاول البعض الربط بين شركة مايكروسوفت، ورئيسها؛ بيل غيتس، وعمليات انتاج هذا اللقاح، واتهام الشركة بأنها تنفذ اجندة مشبوهة لمشروع قديم يحاكي تحديد النسل.
والتخلص من أعداد كبيرة من البشر لاهداف مختلفة من خلال هذا اللقاح الذي يتهم بانه يؤدي الى موت بطئ لملايين البشر، فيما راح البعض الاخر يتحدث عن نوايا -مفترضة ايضاً- بتحويل سكان العالم الى حواسيب! من خلال حقن الناس بذريعة لقاح ضد كورونا المستجد، بينما يتلقون شرائح متناهية الصغر مرتبطة بالاقمار الصناعية تقوم بمراقبة تحركات الناس وسلوكهم ومتابعة ذلك من خلال الذكاء الاصطناعي لمعرفة المعارض من المؤيد للنظام السياسي.
المتحدثون في هذه المقاطع يظهرون حرصاً كبيراً للتأكيد بأنهم دعاة للوعي والتثقيف، وتحذير الناس من مرحلة ما بعد كورونا، وبغض النظر عما اذا صحّت هذه المعلومات، أو لا، فان النتيجة امامنا واحدة وهي؛ إظهار عجز انسان اليوم من فعل أي شيء امام تطورات مذهلة يصعب عليه مواكبتها، ثم تحييده وجعله مستقبلاً للمعلومات في بيته وحسب، بعد أن مضى فترة من الزمن في الحجر المنزلي وهو يتابع منذ انتشار المرض في الصين.
سلسلة من التسجيلات عبر التواصل الاجتماعي تتحدث عن نظرية المؤامرة –بين الدول المتقدمة وليس الدول المتخلفة والمقهورة- بين الصين، والولايات المتحدة، بل وأدخل البعض اطراف اوربية في قضية انتاج وظهور هذا الفايروس من مختبرات خاصة بالاسلحة البايولوجية، وقد تحدث البعض عن هروب خفّاش من احدى المختبرات والتسبب بالكارثة!
هذه القصص والحكايات التي صاغها اصحابها وهم يعدونها حقائق يكشفون عنها لأول مرة لخدمة البشرية، تؤدي الى نفس النتيجة، وهي منع الناس في مختلف بقاع العالم من الحركة، لاسيما في الدول الاسلامية ذات القاعدة السياسية والاجتماعية الهشّة، بدعوى الحجر المنزلي تجنباً للعدوى القاتلة.
وفي العراق والبلاد العربية رفعنا شعار “خليك بالبيت”، والمثير في الامر أن القليل ممن يتحدث عن البدائل والنمط الجديد المفترض للحياة لتستمر بشكل مثمر وصحيح، علماً أن الحجر المنزلي من حيث المبدأ له أثرٌ كبير في الحد من العدوى وانتشار المرض بين الناس، ولعل المثال الأبرز؛ العراق طيلة الاشهر الاربعة الماضية، اذ كان محظوظاً بين سائر الدول المحيطة به ودول العالم في النسبة الأقل من الاصابات والوفيات، مع نسبة جيدة من المتعافين قياساً بتعداد السكان، والفضل يعود الى عدم وجود شبكات نقل مكتظة بالناس، ولا توجد مراكز تجارية وأسواق ومراكز ترفيه وصالات سينما ولعب القمار وملاهي ليلية.
فمن حقنا ان نسأل عن مصير العقول المبدعة للشباب الجامعي، وقدرات وكفاءات الخريجين، ثم المهنيين؟ ثم ما مصير الروح الوثابة للتلاميذ الصغار الذين كنت أراهم قبل ذلك يتقاطرون على المدارس في ساعات الصباح الباكر شوقاً الى التعلّم؟ هؤلاء وسائر المشتغلين بالمنشآت الانتاجية والمؤسسات الحكومية يجب ان يكونوا حبيسي البيوت يتابعون من هواتفهم النقالة تلكم المقاطع المشحونة بالمقاطع الغريبة والمثيرة.
التهويل في ظل “كورونا المستجد” وفلسفة التأخر
إغلاق المؤسسات الانتاجية والتعليمية وحتى الخدماتية تذكرنا باقتصاد الزراعة والرعي في القرون الماضية، عندما كان سكان العالم يعتمد على الرعي والزراعة في اقتصاده، قبل اكتشاف النفط واختراع الآلة، كما لو أن ثمة يداً أوقفت كل شيء لغايات غير معروفة، و جردت الناس من كل حركة منتجة ونافعة، وتركت حرية بسيطة للتبضع بالخضار والفاكهة وبعض السلع الاستهلاكية الضرورية الى جانب الدواء، بما تجود به المخازن، والشيء المتطور الوحيد المتاح للناس هو الشبكة العنكبوتية، وما تقدمه من خدمات اتصال مجانية ومواقع تواصل اجتماعي، بما يمكن تسميته بتخلف مقنّع من الصعب تحسسه.
والتخلف هنا لن يتجلّى في الصناعة والتقنيات المتطورة الآخذة بالصعود دائماً، إنما الخشية من التخلف الثقافي والفكري المسبب لفقدان الوعي وانعدام الإرادة، علماً أن “العالم كان في السابق أقلّ شراً بالقياس بشرور العالم حتى بقدر آلاف الاجزاء في الحاضر، بسبب عدم وجود الآلة بكثرة في الحياة، والتي وضعت اليوم بأيدي الذين لا يرجون ثواب الله –تعالى-، وايضاً بسبب عدم صيرورة المادة آنذاك محوراً بدل الانسان الذي جعله الله المحور في الحياة”، يقول سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي في “كل فرد حركة وفلسفة التأخر”.
ان فلسفة التأخر يمكن ان نجدها في تداعيات “كورونا المستجد” على مجمل اوضاع العالم، وقد أشار الى الامام الشيرازي الى نقاط عدّة في هذا المجال نقتطف ثلاث منها تنطبق على الواقع في بلادنا:
الاولى: التشاؤم
فأين ما يولّي الانسان شطره يجد الصعوبة البالغة في استحصال بصيص أمل بالخروج من نفق هذا الفايروس، حتى راحت بعض التقارير والدراسات الطبية تسلب الناس تفاؤلهم بالتخلص من هذا الفايروس بفضل حرارة الصيف كونها تهدد حياته وتذيبه في درجات الحرارة المرتفعة في بلدان مثل العراق، والقول بأن لا تأثير لحرارة الصيف على انتشاره، بمعنى أنه ربما يعيش حتى في درجة حرارة فوق الخمسين درجة! بينما اذا تطلّع الانسان الى ما حوله من طبيعة و أفراد في الأسرة والمجتمع يجد “الحياة جميلة، والاحياء حركة وبهاء، وحتى المشكلات والمآسي هي نوع من الجمال وتحفيز للتقدم”.
ويضيف الامام الشيرازي في هذا السياق نقلاً عن بعض الفلاسفة قولهم: بان “الله لا يخلق إلا ما كان خيراً محضاً، او كان خيره أكثر من شره، أما اذا كان شرّه أكثر فلا يخلقه سبحانه، وقال بعض الحكماء: اصنع من الليمونة الحامضة مُربىً حلواً”.
الثاني: هدر الفرص
في الاوضاع الراهنة من الصعب جداً الحديث عن اغتنام الفرص واستثمارها عندما يكون العالم والطالب والمهني والحرفي رهين بيته يخشى أن يتخطفه الفايروس في كل لحظة، لذا فهو محكوم بالتخلف والتأخر دون إرادة منه، ولعل أبرز وأخطر ما يتعرض للهدر حالياً؛ الزمن والمادة –كما يعبر عنها سماحة الامام الشيرازي- والقرآن الكريم أول من تحدث عن مدى أهمية الفرص في الحياة: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً}. والامثلة لا تعد في حياة المعصومين، وكيف كانوا لا يفوتون ثانية واحدة في عمل شيء معين، سواءً في عبادة، او تعليم الاحكام، او التواصل مع الناس، وحتى مزاولة الاعمال العادية كما فعل أمير المؤمنين بزراعته منطقة شاسعة في أطراف المدينة وتحولت الى بستان عظيم للنخيل توارثها الأئمة من بعده وتحولت الى مورد الى مورد مالي ضخم.
ويتحدث الامام الشيرازي عن “المادة” حيث يستشهد براوية عن المعصوم من أن “إلقاء النواة، وصب فضل الماء من الإسراف”، الى جانب الحديث الشهير لأمير المؤمنين: “انتهزوا الفرص فانها تمر مر السحاب”، ويعلّق سماحته بان الفرص تشمل “الفرص المادية والمعنوية”.
الثالث: عدم الاستمرارية
حالة الجمود والتوقف عن الحركة في مجمل الاعمال تثني الانسان عن التواصل مع مسيرة أعماله، “بزعم أن الامر لا ينفع، او بسبب الكسل عن السير نحو الهدف، بينما ليس الكسل إلا حالة نفسية مكذوبة يمكن دفعها بتربية النفس كسائر الصفات والملكات والاحوال”.
ويستشهد سماحته بالطبيعة من حول الانسان وكيف أنها “تعلم الانسان على الاستقامة والاستمرارية، كما هو الحال في النباتات والحيوانات” التي لا تنمو ولا تتكاثر بشكل صحيح إلا بالاستمرارية في أخذ عناصر الحياة، “فعدم الاستقامة في أي بعد من أبعاد الحياة دليل خور النفس وضعف الفهم، ومن سلك هذا المسلك، دلّ سلوكه على احتوائه على فلسفة التأخر التي يجب ان يتخلص منها”.
إن التهاون في أمر “كورونا المستجد” له عواقب وخيمة لا يجلها اليوم أحد، فالجميع يسمع ويرى في محيطه الاجتماعي ومن خلال متابعة الاخبار كل لحظة، إنما الأشد فتكاً وخطورة؛ الاستسلام للتهويل والترويع، ثم استسهال حالة الجمود تحت شعار “خليك بالبيت”، من شأنه التكبد بخسائر كبيرة، اكبر مما تعده الاحصائيات من مليارات الدولارات لشركات الطيران والمصارف والمصانع والمرافق الخدمية والترفيهية والمراكز التجارية، ليشمل الخسائر المعنوية على المدى البعيد ذات التأثير على النفوس فتقتل الارادة، والعزيمة، والهمّة، وكل ما يحفز الانسان للحركة والتقدم.