دارفور.. أزمة مشتعلة منذ عقود

 رشا رمزى

 

تجدد القتال في منتصف شهر يونيو الجاري في إقليم دارفور بسبب خلاف بين البدو العرب وأفراد من قبيلة المساليت؛ نتيجة خلاف على ملكية الأرض، وهو السبب المستمر والمتكرر منذ عقود. ونتيجة لذلك لقي في يونيو ما لا يقل عن 100 شخص مصرعهم حتى الآن، ونزح أكثر من 15600 شخص (2600 أسرة) إلى محلية سرف عمرة في شمال دارفور، بعد فرارهم من الاشتباكات القبلية المستمرة في محلية كلبس بغرب دارفور والتي تبعد حوالي 160 كلم شمال شرق مدينة الجنينة عاصمة الولاية، وتشهد اشتباكات قبلية خلفت قتلى وجرح، هذا بعد حرق 14 قرية بالكامل.

المتابع للوضع في دارفور سيلاحظ أن هذا الصراع على الأرض والموارد مستمر منذ عقود، واشتعل إبان حكم البشير الذي تم توجيه اتهامات له باستعداء القبائل على بعضها البعض، وأنه كان أحد أسباب الأزمة بتسليحه للقبائل العربية ليحاربوا القبائل من أصول افريقية. لكن أن يستمر هذا الوضع غير المستقر فيما بعد سقوط البشير هو الأمر الغريب؛ فمن المفترض أن تقل حدة هذه المشكلات، لكن ما حدث هو العكس.

الوضع الحالي

ارتفعت حصيلة قتلى أعمال العنف الأخيرة في دارفور بغرب السودان إلى أكثر من 125 مشردًا ونحو 50 ألف شخص وفق بيان صدر عن الأمم المتحدة يوم الثلاثاء (14 يونيو 2022).  وبدأت الاشتباكات وفقًا للبيانات الصادرة عن الأمم المتحدة في شهر أبريل 2022؛ فقد تم طرد أكثر من 84000 شخص من منازلهم في دارفور؛ وهو ضعف عدد الضحايا في الأشهر الخمسة الماضية. وكذلك طُرد عام 2021 أكثر من 445000 من منازلهم في المنطقة –وهو أكثر من خمسة أضعاف العدد الإجمالي عام 2020- وتمت سرقة ملايين الجنيهات السودانية نقدًا وماشية وسلعًا من قبل قوات الجنجويد.

ثم عادت الأحداث إلى الاشتعال في 6 يونيو بين أفراد من قبيلة القمير غير العربية وقبيلة الرزيقات العربية في منطقة كلبس وامتدت إلى سربا وجبل مون وصرف عمرة المجاورة. أثار هذا النزاع على الأرض بين أحد أعضاء قبيلة الرزيقات وآخر من القمير أعمال عنف في هذه المنطقة الحدودية مع تشاد. لذا نشرت الحكومة قوات الدعم السريع شبه العسكرية بالقرب من قرى القمير للسيطرة على الأوضاع، لكن قوات الدعم السريع قد تكون أحد أسباب اشتعال الأزمة مرة أخرى؛ لأن أغلب قواتها من العرب الرحل من ميليشيا الجنجويد المسلحة، الذين اتُهموا بارتكاب فظائع في دارفور تاريخيًا.

أسباب استمرار الأزمة

بالرغم من سقوط نظام البشير الذي أسهم بشكل كبير في تأزم الوضع في دارفور باللعب على وتر الصراع ما بين المساليت والزغاوة والرزيقات؛ هناك العديد من الأسباب التاريخية الموروثة من نظام البشير مثل تدني مستوى الخدمات في الإقليم، ومنها:

  • محاولات إزاحة القبائل الأفريقية -والتي منها قبائل القمير- من أرضها والاستيلاء على ممتلكاتها، مما تسبب مباشرة في إعادة اشتعال الصراع مرة أخرى.
  • الصراع بين القبائل العربية وغيرهم مشوب بالعنصرية؛ إذ يشير العديد من العرب “الرزيقات والزغاوة” إلى المساليت والفور بكلمة مهينة “نواب” التي تشير إلى كونهم عبيدًا. بل وصل الأمر إلى منعهم من النزول من الجبال بإطلاق النار عليهم.
  • الحكومات المتعاقبة روجت لـ “العروبة”، متجاهلة “الفور” السود في الحصول على الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة والكهرباء.
  • استبعاد المساليت من اتفاقية السلام التي وقعتها الحكومة وجماعات أخرى عام 2020 في جوبا عاصمة جنوب السودان، والذين يتشاركون الآن جميعًا في السلطة من خلال الوصول إلى الثروة المعدنية في دارفور، وذلك لعدم وجود ميلشيات مسلحة لهم.
  • وجود نزعات انفصالية قديمة يتم إحياؤها اليوم، حيث تروج دعاوى لانفصال المناطق الخاصة بالمساليت وانضمامها إلى تشاد. فقبائل المساليت يشعرون بالتميز لأنها المنطقة الوحيدة في السودان التي لم يتم احتلالها قط؛ فقد هزم شعب المساليت الجيش الفرنسي مرتين -في يناير ونوفمبر 1910- عندما حاولوا توسيع إمبراطوريتهم شرقًا تجاه تشاد، لذا كانت بلدة كرينيك من رموز مقاومة شعب المساليت للغزاة في ذلك الوقت.
  • وجود فراغ أمني بعد انسحاب قوات حفظ السلام وعدم تمكن القوات السودانية من فرض الأمن في الإقليم؛ بل هناك اتهامات وُجهت لقوات الدعم السريع إما بالاعتداء بشكل مباشر، أو بالتراخي في التدخل ووقف الاعتداءات لصالح القبائل العربية.
  • رصدت جماعات حقوقية وجود قوات فاجنر الروسية تعمل لتأمين التعدين عن الذهب في إقليم دارفور (تم نشر وحدة قوامها حوالي 500 جندي في دارفور عام 2018 لإجراء تدريب عسكري للجنود السودانيين)؛ والتي ارتكبت من الانتهاكات ضد السكان المحليين الكثير. ويعد وجودهم في حد ذاته وتعاونهم في مجال تعدين الذهب استفزازا للسكان المحليين لإحساسهم بالتهميش.

الموقف الدولي

فشل المجتمع الدولي في تحمل مسؤوليته تجاه حماية سكان دارفور، وكثير منهم ما زالوا يحتضرون أو يواجهون التهجير إلى أجل غير مسمى من ديارهم. وبالرغم من إدانة فولكر برثيس ممثل الأمين العام للأمم المتحدة بالسودان أعمال العنف في دارفور ووصفها بأنها “غير مقبولة”؛ إلا أن الأمر لم يخرج عن الإدانة. لسنوات عديدة. وكانت قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة تحاول الحفاظ على السلام، لكنها انسحبت في نهاية عام 2020 بعد انتهاء تفويضهم -وكان وجودهم لا يلقى قبولًا من قبل القبائل بسبب الانقسامات- لكن حتى عندما تم نشر القوات، لم يكونوا قادرين على وقف هجوم بهذه الضراوة.

ومن المعروف كذلك أنه بعد انتهاء أعمال حفظ السلام عادة تبدأ أعمال بناء السلام والأمن بالتعاون مع القيادات المحلية حتى يستمر الاستقرار؛ وهو ما لم يحدث في دارفور، خاصة أن الاسباب المعلنة للصراع هي أسباب اقتصادية اجتماعية في المقام الأول. ومن ثم أصبح هذا السلام الذي فرض بقوة السلاح أكثر هشاشة عما مضى.

جهود الحكومة السودانية

في إطار محاولة السيطرة على الوضع في دارفور، توجه الفريق أول محمد حمدان دقلو نائب رئيس مجلس السيادة إلى ولاية غرب دارفور لحضور مراسم توقيع اتفاق الصلح بين قبيلتي الرزيقات والمسيرية بجبل مون، تحت رعاية لجنة السلم والمصالحات بقوات الدعم السريع، وتفقد بعض المناطق التي تأثرت بالأحداث الأخيرة، فضلًا عن وقوفه على مجمل الأوضاع بولايات دارفور، وأعلن أنه قرر البقاء فيها حتى تُحل الأزمة.

وأعلن دقلو عن إنشاء صندوق خيري لدعم إعادة النازحين والعودة الطوعية وتوفير الخدمات الضرورية ومعالجة الأوضاع الانسانية بولاية غرب دارفور، على أن تكون ضربة البداية بإيداع أموال تستقطع من القوات النظامية (الجيش، الشرطة، الدعم السريع وجهاز المخابرات العامة).

وأكد الفريق دقلو مواصلتهم للعمل ميدانيًا لمعالجة كافة الاختلالات الانسانية والأمنية، وأعرب عن أسفه للأوضاع اللا إنسانية التي يعيشها النازحون بالمؤسسات الحكومية داخل مدينة الجنينة (عاصمة غرب دارفور). وأوضح أن المعالجات تستهدف أوضاع النازحين، مناشدًا جميع رجال الأعمال من أبناء السودان في الداخل والخارج والمنظمات الإقليمية والدولية للاستجابة للظرف الإنساني للنازحين بغرب دارفور. ودعا جميع مواطني دارفور إلى قطع الطريق أمام المخربين والمحرضين الذين يحاولون عرقلة عمليات العودة الطوعية للنازحين وإعادة الأوضاع إلى سابق عهدها، مشيرًا إلى أهمية بناء الثقة وتعزيز التعايش السلمي ووقف كل أشكال الفرقة والشتات لإنجاح الموسم الزراعي وتجاوز المرحلة الحرجة.

وعند وضع كل هذه التصريحات في الميزان؛ يتضح أنها تصريحات براقة لكنها لم تجد صدى لدى كل من الجانبين (العرب-الفور) في الإقليم؛ إذ لم يتم تقديم أي من الجناة المسؤولين عن هذه الأحداث وخاصة فيما يتعلق بانتهاكات الجنجويد/قوات الدعم السريع. وبالإضافة إلى ذلك، فيما يخص وجود وعمل مجموعة فاجنر وبالرغم من تصريحات الخارجية السودانية عدم وجود اي قوات لها في السودان؛ إلا أن هذه التصريحات لا تجد صدى لها في إقليم دارفور بين قبال الفور تحديدًا.

الآثار المترتبة على استمرار العنف في الإقليم

تترتب على استمرار العنف آثار اجتماعية واقتصادية قد تأخذ شكلًا سياسيًا لو لم تتم مواجهتها بحل الأزمة. فالعنف يترتب عليه المزيد من العنف وتعقد المشكلة نتيجة تراكم الثأر، وهو حادث فعليًا. وأهم هذه الآثار هي:

  • انتشار العنف سيزيد من انتشار الأعمال الإجرامية من تهريب وتجارة السلاح والتجنيد لصالح الجماعات الارهابية.. إلخ؛ رغبة في الانتقام من المجتمع من جهة، ومن جهة أخرى رغبة في الأخذ بالثأر.
  • هذا العنف يعد انتقاصًا من قدرة الدولة على بسط نفوذها؛ مما سيسهل من عمليات التنقيب غير الشرعي عن الذهب وتهريبه، وهذا ضد مصلحة السودان.
  • استمرار عدم استقرار الأوضاع سينتج عنه توقف الأنشطة الاقتصادية، مما سيسفر عن فشل الموسم الزراعي على سبيل المثال؛ الأمر الذي سيترتب عليه حدوث مجاعة.
  • عملية النزوح تضع النازحين في ظروف حياة مزرية غير آدمية؛ وقد تعرضهم (أغلبهم أطفال ونساء) لانتهاكات وسوء معاملة قد تودي بحياتهم.
  • الإحساس باستمرار الظلم ما بين المواطنين سيعيد للمسرح السياسي حركات العنف المسلح مرة أخرى، مما سيعقد عملية فرض الأمن.
  • قد يترتب على ذلك ظهور دعوات انفصالية ويتكرر سيناريو جنوب السودان مرة أخرى.

لذا، وبالرغم من توقيع كل من قبائل الرزيقات والمسيرية على اتفاقية للصلح برعاية نائب رئيس مجلس السيادة السوداني؛ فإنه بدون العمل على تحقيق العدل والعدالة؛ العدل بتقديم الجناة للمحاكمات السريعة الناجزة والعدالة بالاهتمام بتنمية الإقليم ورفع مستوى البنية الأساسية فيه، مع إشراك القبائل المحلية في تنفيذ هذه المشروعات؛ ستتحول هذه الاتفاقيات إلى حبر على ورق، وسيتجدد الصراع مرات عدة مستقبلًا.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/71034/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M