آنا بورشفسكايا
تمنح خبرة بوتين العميقة في المناورة بوقف إطلاق النار والاتفاقيات الإنسانية في سوريا سبباً وجيهاً للاعتقاد بأنه سيفعل الشيء نفسه في أوكرانيا.
بعد ثمانية أيام من الهجوم الروسي على أوكرانيا الذي تسبب بأكبر حرب في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، اتّفق البلدان على إنشاء ممرات إنسانية في المناطق التي تشهد “أعنف قتال” وفقاً لمستشار الرئيس الأوكراني ميخايلو بودولاك. كما اتفق الطرفان على “إمكانية تنفيذ وقف إطلاق نار [مؤقت] في المناطق التي ستتم فيها عمليات الإجلاء هذه”.
وتبدو هذه الأخبار سارّة. فقد قضى الآلاف نحبهم في هذه الحرب، وأصبح نحو مليون شخص من اللاجئين حتى كتابة هذه السطور. كما أن الاحتمال وارد جداً بأن تمتد الحرب خارج حدود أوكرانيا – وفي الواقع حدث ذلك بالفعل بمشاركة بيلاروسيا. ولم يشهد الغرب مثل هذه الاضطرابات منذ عقود.
لكن المشكلة هي أن سلوك الكرملين السابق يوحي بأنه لن يَصدق في كلامه. وسوريا هي خير مثال على ذلك. فمنذ أن تدخّلت روسيا في البلاد في أيلول/سبتمبر 2015 لإنقاذ الديكتاتور السوري بشار الأسد، توسطت موسكو في عدد من اتفاقيات خفض التصعيد، لتعود وتعزز موقعها على الأرض، وهو أمر أناقشه بالتفصيل مع أندرو ج. تابلر في ورقة بحث حديثة عن الدبلوماسية الروسية.
وفي سوريا، كان يتوق المسؤولون الغربيون إلى تصديق كلام بوتين واستمروا في الأمل في أن يكون الكرملين وسيطاً، إذ كان من الأسهل اعتبار روسيا جزءاً من الحل وليس جزءاً من المشكلة. وكما ذكرنا في ورقة البحث، استغل بوتين هذه النظرة من خلال وضع روسيا كمحاور لا غنى عنه بين عدد هائل من الأطراف المتحاربة في سوريا. ومع ذلك، لم تقدم حلاً حقيقياً قط.
وعلى المنوال نفسه، لم تسفر سلسلة اتفاقيات وقف إطلاق النار التي تم خرقها تحت أعين روسيا في سوريا على مر السنين عن ثقة تُذكر في قدرة فلاديمير بوتين على احترام اتفاقياته. فقد ذهب بوتين إلى سوريا بهدف رئيسي هو إنقاذ بشار الأسد من سقوط وشيك وإنشاء وجود عسكري استراتيجي لروسيا في شرق البحر المتوسط. ودعمت جميع أعمال الدولة الروسية، بما فيها الوساطة في اتفاقيات وقف إطلاق النار، هذا الهدف. وفي الواقع، ربّما تقدم التجربة السورية دون سواها دروساً قيّمة حول طريقة موسكو في ممارسة الدبلوماسية.
وحقيقة الأمر هي أن دخول الكرملين في المفاوضات ما هو إلا تكتيك لكسب الوقت، وتغيير تمركز قواته العملياتية، واكتساب نفوذ استراتيجي أكبر. فروسيا، على عكس الغرب، لا تفصل بين الذين يمارسون الدبلوماسية وأولئك الذين يذهبون إلى الحرب، بل تستخدم مجمل الأعمال الدبلوماسية والمعلوماتية والعسكرية والاقتصادية للضغط على خصمها وإضعاف عزيمته.
ويدرك بوتين الآن إلى أي مدى أخطأ في حسابات غزوه الأولي، ولكنه لا ينوي التوقف، بل مضاعفة عملياته. لذلك سيستفيد من التوقف الاستراتيجي المؤقت وتغيير مسار الأمور. وفي اليوم نفسه الذي وافقت فيه أوكرانيا وروسيا على وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية، صرّح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن روسيا ستواصل القتال في أوكرانيا حتى “النهاية”. كما أن بوتين نفسه أجرى مكالمة هاتفية مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وأخبره بالمثل. وقد نقلت “سي إن إن” عن مصدر في قصر الإليزيه قوله إن “الأسوأ لم يأتِ بعد”.
إن الشجاعة والعزم اللذين أظهرهما الشعب الأوكراني في مواجهة وحشية بوتين ألهمتا العالم. فقد كشفتا عن إخفاقات كثيرة بين القوات المسلحة الروسية التي تكبدت خسائر أكبر بكثير عندما واجهت خصماً أصغر. وبالفعل، انتشرت نكتة بهذا الشأن على وسائل التواصل الاجتماعي تقول: “يمكن للناتو التقدم بطلب الانضمام إلى عضوية أوكرانيا”. لكن عدم التناسق بين القوات لا يزال يرجح لصالح روسيا، وأصبح بوتين يفهم الآن نوع القتال الذي يخوضه. لذلك، من الممكن أن يحوّل كييف قريباً إلى حلب أو غروزني أخرى من أجل قلب الموازين وتغيير مجرى الأمور.
لقد حان الوقت لتلاشي النشوة الأولى للغرب وإفساحها المجال أمام تقييم أوعى وأدقّ للمرحلة الآتية. فهذه أفضل طريقة لإنقاذ أوكرانيا. وهنا يمكن استخلاص دروس مفيدة مما حدث في سوريا.
آنا بورشيفسكايا هي زميلة أقدم في “برنامج مؤسسة دايين وغيلفورد غليزر” حول “منافسة القوى العظمى والشرق الأوسط” التابع لمعهد واشنطن، ومؤلفة الكتاب “حرب بوتين في سوريا: السياسة الخارجية الروسية وثمن غياب أمريكا“. وقد نُشر هذا المقال في الأصل على موقع “ناينتين فورتي فايف” (19FortyFive).
.
رابط المصدر: