“دافوس الروسي”… اقتصادنا بخير ينمو ويتوسع شرقا

في زمن الحرب الروسية-الأوكرانية، حقق منتدى سانت بطرسبورغ الاقتصادي الدولي السابع والعشرين نجاحا لافتا. كان واضحا أن لهذا المنتدى، الذي أطلق عليه سابقا اسم “دافوس الروسي”، هدفين واضحين هذه السنة؛ أن يُظهر للعالم أن روسيا بخير في الظروف الحالية، وأن يستميل الشرق والجنوب العالمي إلى شراكات جديدة تخفف عزلتها.

رسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في كلمته الافتتاحية في المنتدى الذي انعقد من 5 إلى 8 يونيو 2024 خطوط التواصل الاقتصادي لروسيا مع العالم وقال: “على الرغم من كل العقبات التي نواجهها والعقوبات غير الشرعية المفروضة علينا، تبقى روسيا من المشاركين الرئيسيين في التجارة العالمية وتوسع بسرعة الخدمات اللوجستية وجغرافيا التعاون الجديدة. إننا نعزز العلاقات مع دول آسيا (نمو بنسبة 60 في المئة بين سنتي 2020 و2023) والشرق الأوسط (100 في المئة) وأفريقيا (69 في المئة) وأميركا اللاتينية (42 في المئة)”. وذكّر أن نحو 19,000 شخص من أكثر من 100 دولة يشاركون في هذا الحدث الضخم، وحدد خطابه هذا إيقاع الجلسات التي تلت ذلك.

من العالمية إلى المحلية الروسية

من المفيد التذكير أن منتدى بطرسبورغ نظم للمرة الثالثة في ظل الغزو الروسي لأوكرانيا، بعدما انطلق للمرة الأولى في سنة 1997 وحظي بدعم رسمي من الرئيس الروسي منذ سنة 2007.

 

EPA EPA

افتتاح منتدى سانت بطرسبرغ خلال إلقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كلمته 

وضم المنتدى هذه السنة محورا رئيسا بعنوان “أهداف الدورة الاقتصادية الجديدة لروسيا ومقاصدها” بالإضافة إلى محور آخر يتعلق بأولويات روسيا، التي شملت “القيم التقليدية” في عنوانه الرئيس. لكن كان هناك تركيز كبير أيضا على الانتقال إلى اقتصاد عالمي متعدد الأقطاب، إذ تطمح روسيا إلى القيام بدور كبير من خلال شراكات جديدة مع دول في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية.

 

ثلاثة إنجازات رئيسة تحققت في السنوات القليلة الماضية، استقرار الاقتصاد الكلي، نمو فئة المستثمرين الأفراد، وتطوير أدوات تسمح بالمرونة المالية خلال الأزمات

 

إلفيرا ناببولينا، محافظة البنك المركزي

عُقدت جلسات حوارية تجارية منفصلة بين ممثلين عن الجانب الروسي وصناع القرار وغرف التجارة من الصين والهند وأفريقيا وأميركا اللاتينية ورابطة أمم جنوب شرق آسيا (آسيان) وأنحاء أخرى من العالم. ومن المثير للاهتمام انعقاد جلسات ركزت على علاقات روسيا مع أذربيجان ودولة الإمارات وسلطنة عمان. وكشف يوسف عبد اللاييف، المدير التنفيذي لوكالة ترويج الصادرات والاستثمارات في جمهورية أذربيجان، أن “هناك 1900 شركة مسجلة في أذربيجان – منها 1300 ناشطة – وهي مشاريع مشتركة روسية أذربيجانية”. ومن جهة أخرى، أبرز المؤتمر أن التجارة الروسية مع سلطنة عمان ارتفعت بنسبة 60 في المئة في سنة 2023.  وقال مكسيم ريشيتنيكوف، وزير التنمية الاقتصادية الروسي، “نرى كيف تتطور عمان بثقة، وكيف ينمو اقتصادها وتتحسن جودة حياة مواطنيها، بالإضافة إلى الطلب على الاتصالات التجارية الخارجية والاستثمارات المشتركة. كما نرى عمان مدخلا رائعا لدول الخليج العربي، التي تقدر سوقها بأكثر من 2 تريليون دولار أميركي”.

رابع أكبر اقتصاد في العالم

ركزت الجلسات المتعلقة بمستقبل الاقتصاد الروسي على مجموعة واسعة جدا من الموضوعات، وحرصت على عرض طموحات البلاد وإنجازاتها على الرغم من العقوبات. وأكد المتحدثون مرات عدة أن البنك الدولي قدر أخيرا أن روسيا أصبحت الآن رابع أكبر اقتصاد في العالم بناء على معيار تعادل القوة الشرائية، متجاوزة ألمانيا في نهاية سنة 2023. وذكر أندره ماكاروف، رئيس لجنة الموازنة والضرائب في مجلس الدوما للجمعية الاتحادية الروسية، أن ذلك هو الهدف الذي حددته روسيا لنفسها قبل سنوات عدة لعام 2025.

 

.أ.ب .أ.ب

رئيسة البنك المركزي الروسي إلفيرا نابيولينا، تتحدث خلال في منتدى سانت بطرسبرغ، 6 يونيو 2024. 

في غضون ذلك، سلطت إلفيرا نابيولينا، محافظة البنك المركزي الروسي، الضوء على ثلاثة إنجازات رئيسة تحققت في السنوات القليلة الماضية – استقرار الاقتصاد الكلي، ونمو فئة المستثمرين الأفراد، وتطوير أدوات تسمح بالمرونة المالية خلال الأزمات. وأضافت، “في سنة 2018، كان لدينا نحو 100 ألف مستثمر في السوق، والآن لدينا نحو 3.8 ملايين مستثمر. وتضاعفت النسبة المئوية لمواطنينا في مجموع الاستثمارات مرات عدة”.

وأبرز مكسيم أوريشكين من الإدارة الرئاسية أن ذلك ترافق مع ارتفاع مؤشر التفاؤل الاجتماعي للبلاد بمعدل قياسي في السنة الماضية.

 

بناء على الأرقام من يناير إلى مايو 2024، شهدنا نموا في السوق الداخلية للسيارات الجديدة بلغ 70% تقريبا مقارنة بالعام الماضي، مع بيع نحو 800 ألف مركبة

 

ألبرت كريموف، نائب وزير الصناعة والتجارة الروسي

في جلسة أخرى في المنتدى عن “الميلاد الثاني” لقطاع السيارات الروسي، ذكر ألبرت كريموف، نائب وزير الصناعة والتجارة الروسي، أن النمو المستقر كان الخطوة المنطقية التالية في أعقاب سنة 2022، التي شكلت سنة الأزمة والتحديات الخطيرة في القطاع، وسنة 2023 التي كانت سنة التعافي. وقال كريموف: “بناء على الأرقام المستمدة من يناير/كانون الثاني إلى مايو/أيار 2024، شهدنا نموا في السوق الداخلية للسيارات الجديدة بلغ 70 في المئة تقريبا مقارنة بالعام الماضي، ببيع نحو 800 ألف مركبة. ونحن نتقدم قليلا على التوقعات التي لدينا في إستراتيجيتنا”.

زخم جديد في قطاعي الضيافة

إدعى المتحدثون في جلسة أخرى أن رحيل العلامات التجارية الغذائية العالمية الكبرى أحدث زخما جديدا أتاح تقدم جهات محلية في قطاع الضيافة والمطاعم والمقاهي. وقال أوليغ بارويف، المدير العام لشركة “فكوسنو إي توتشكا” التي حلّت محل “ماكدونالدز” بعد خروج تلك الشركة العملاقة من البلاد: “نحن أكبر مجموعة في القطاع. نستقبل أكثر من مليوني زائر يوميا، ونقدم أكثر من 40 ألف طن من اللحم البقري سنويا”.

وأضاف أن المستثمرين في القطاع يبدون اهتماما شديدا الآن بالعمل مع المزارعين الروس لضمان الحصول على كميات أكبر من المنتجات المحلية العالية الجودة، بالإضافة إلى أصناف حلال في قائمة الطعام، “فنحن نتوسع في المناطق ذات الغالبية المسلمة، ولديهم هذه المتطلبات”.

تطوير صناعة الإلكترونيات الدقيقة

في جلسة عن ريادة الأعمال التكنولوجية، قال أنتون عليخانوف، وزير الصناعة والتجارة المعين حديثا، إن عمله يركز كثيرا على تطوير حلول محلية للمواد الخام التي تخدم صناعة الإلكترونيات الدقيقة وتطوير الرقائق وأشباه الموصلات، وإنه شديد الإعجاب بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي التي تقودها بعض الشركات في البلاد. لكنه أبرز وجود عجز في المواهب في هذه الصناعة، وأشار إلى حاجة السوق إلى نحو 250 ألف متخصص إضافي في هذا الحقل.

 

كيف سيلبي العالم احتياجاته من الطاقة عندما يرغب الناس في الدول النامية في المستقبل التمتع بمستوى المعيشة السائد في دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية اليوم؟

 

هيثم الغيص، الأمين العام لمنظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك”

واستكشفت الجلسات التي ركزت على مستقبل روسيا صناعات جديدة مثل صناعة النبيذ، مشيرة إلى أن المناطق الجنوبية للبلاد تتمتع بمناخ مؤات لهذا النشاط، ولكن ثمة حاجة إلى تغيير في العقلية لتطوير ثقافة النبيذ في هذا الجزء من العالم.

“بريكس” وعالم متعدد الأقطاب

وشكل منتدى سانت بطرسبورغ الدولي منصة لروسيا لتسليط الضوء على التغير الذي يشهده العالم. فأبدى المتحدثون اهتماما كبيرا بالتوسع الأخير لمجموعة “بريكس”. وكانت مشاركة روسيا مع دول “بريكس” في نهاية سنة 2023، قبل توسع المجموعة، قد نمت بنسبة 27.8 في المئة مقارنة بالسنة السابقة، بزيادة قدرها 20.6 في المئة في الصادرات و38.4 في المئة في الواردات. وفي هذا الإطار قالت وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية في مصر هالة حلمي السعيد، أنه نظرا إلى العديد من الأزمات والصدمات التي شهدها العالم في السنوات السابقة فقد كان دور زيادة التجارة في المجموعة بالغ الأهمية، وشهد دور “بريكس” نموا متزايدا.

إقرأ أيضا: توسّعت “بريكس”… لكنها ليست فائقة القوة حتى الآن

وقالت: “تساهم كتلة “بريكس” بأكثر من 28 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتضم 42 في المئة من سكان العالم، وتتجاوز حصتها 20 في المئة من الصادرات العالمية”، ولفتت الى أن هناك تنوعا مهما داخل المجموعة، إذ تعد البرازيل اقتصادا زراعيا رئيسا، وتمتلك الهند والصين أسواق عمل وصناعة قوية، ولدى روسيا موارد طاقة، وما إلى ذلك، مما يمنح الكتلة ميزة تنافسية. ولهذه المجموعة أيضا دور حيوي في الأمن الغذائي، وهو الآن أولوية كبرى، إذ إن دول “بريكس” تنتج الآن أكثر من 50 في المئة من المنتجات الغذائية للعالم.

مستقبل النفط والغاز

ناقشت إحدى الجلسات مستقبل النفط والغاز وما إذا كان سيستمر الطلب المرتفع على الوقود الأحفوري بوصفه مصدرا للطاقة. فأبدى ممثلو القطاع تفاؤلا في توقعاتهم. وقال هيثم الغيص، الأمين العام لمنظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك): “إذا تحدثنا عن هذه السنة، نجد أن الطلب على النفط ينمو بنحو 2.2 مليون برميل يوميا، وهو نمو سنوي. وقد أعلن أرقام الطلب للربع الأول من سنة 2024، وهي بالفعل أعلى بمقدار 2.3 مليون برميل يوميا، على الرغم من أن هذا الربع هو الأسوأ في السنة عادة”. وأضاف أن الناس على المدى المتوسط إلى الطويل لا يأخذون في الحسبان غالبا كيف يؤثر استقرار الطاقة على النمو الاقتصادي، مشيرا إلى “القضية الحرجة لنقص الاستثمار الذي تواجهه الصناعة بسبب الدفع نحو أجندات ذات دوافع أيديولوجية وسياسية”.

إقرأ أيضا: “أسطول الظل” الروسي ساعد الكرملين في كسب الحرب

وقال إن التوقعات تشير إلى أن الاقتصاد العالمي سيتضاعف بين سنتي 2024 و2045، وسيزداد تعداد سكان العالم إلى 9.5 مليارات نسمة. “ولن تكون الزيادة في أوروبا، ولن تكون في أميركا الشمالية، بل ستكون في الدول النامية غير الأعضاء في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية”. وتساءل كيف سيلبي العالم احتياجاته من الطاقة عندما يرغب الناس في العالم النامي في المستقبل التمتع بمستوى المعيشة السائد في دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية اليوم؟

 

منتدى سانت بطرسبورغ الاقتصادي الدولي: لا تزال روسيا جهة فاعلة رئيسة في الاقتصاد العالمي

 

 

 وفي قضايا البيئة مثل الحفاظ على المياه والاقتصاد الدائري، ركزت نارومون بينيوسينوات، مستشارة رئيس الوزراء التايلاندي، على التمويل الأخضر وتجربة بلادها في هذا المجال. وقالت: “جاءت شركات عدة للاستثمار تعمل على تحويل النفايات الزراعية إلى منتجات ذي قيمة كبيرة”. وقالت مرددة صدى رسالة عبر عنها العديد من المتحدثين في مختلف الجلسات إن رسالة رئيس الوزراء التايلاندي إلى روسيا هي، “نحن منفتحون تماما على أن تعمل روسيا معنا”.

ينسجم ذلك في الواقع مع خطاب بوتين الافتتاحي في هذا الحدث الرئيس، الذي وضع المجهر مباشرة على مكانة روسيا في العالم اليوم: “نحن منفتحون على أوسع تعاون ممكن مع جميع الشركاء المهتمين، بما في ذلك الشركات الأجنبية والدول والشراكات التكاملية”.

 

المصدر : https://www.majalla.com/node/319171/%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF-%D9%88%D8%A3%D8%B9%D9%85%D8%A7%D9%84/%D8%AF%D8%A7%D9%81%D9%88%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A-%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D9%86%D8%A7-%D8%A8%D8%AE%D9%8A%D8%B1-%D9%8A%D9%86%D9%85%D9%88-%D9%88%D9%8A%D8%AA%D9%88%D8%B3%D8%B9-%D8%B4%D8%B1%D9%82%D8%A7

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M