«دبلوماسية الجوار» وعودة الجدل حول صُنْع سياسة إيران الخارجية

محمود البازي

 

تُعدّ المصالحة السعودية-الإيرانية الحدث الأبرز في منطقة الشرق الأوسط منذ بداية ما يسمى ثورات الربيع العربي. وتأتي أهمية هذا الحدث من كون القطيعة الدبلوماسية بين الفاعلين الإقليميين الوازنين، تؤثر بشكل مباشر، وعلى نطاقٍ واسع، في علاقات دول المنطقة على مستوى السلم والحرب والدخول في معادلة الصراع الصفرية، وتُسهِم في رفع مستوى سباق التسلح، كما تعمل على ترجيح البعد الأمني على التنمية الاقتصادية. ولكلا البلدين أسبابه الخاصة في الانخراط في عملية المصالحة، خصوصاً إيران التي تُعاني من انسداد في مفاوضاتها مع الغرب، وأزمة اقتصادية متفاقمة، وحركة احتجاجية مستمرة، كما أن للوسيط الصيني دوافعه الاقتصادية والجيوسياسية أيضاً.

 

مجلس الأمن القومي مُقابل وزارة الخارجية

لم يتوقف قطار الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شخماني عند المحطة الصينية، بل اتجه بعدها نحو الإمارات والعراق. وفي سياق موازٍ تجري مفاوضات مع كل من البحرين ومصر لإعادة العلاقات مع طهران. هذه التحركات المكوكية لشمخاني دفعت بعض المراقبين إلى التساؤل عن غياب وزارة الخارجية الإيرانية عن هذه العملية، وفي نطاقٍ أوسع دفعت إلى التساؤل حول مَنْ يرسُم السياسات الخارجية في إيران اليوم؟

 

ومع أن هذه التساؤلات دفعت أمير عبداللهيان، وزير الخارجية الإيراني، إلى نفي وجود خلافات بين مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية، مؤكداً التنسيق المستمر بينهما، إلا أنّه يُمكِن طرح مجموعة من الأسباب تقف وراء نقل ملف المصالحة الإقليمية إلى المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، بعضها يتعلق بالمسارات العامة لرسم السياسات الخارجية الإيرانية ومواطن صنع القرار، وبعضها الآخر يتعلق بتغير محتمل في عملية التفاوض حول المصالحة مع دول الجوار، والتفاوض حول الملف النووي الإيراني.

 

يمكن القول بدايةً إن عملية نقل ملفات التفاوض من وزارة الخارجية إلى المجلس الأعلى للأمن القومي وبالعكس، تُعد أمراً عادياً في إيران، وله سوابق تاريخية. فبالتزامن مع استقالة علي لاريجاني من الأمانة العامة لمجلس الأمن القومي في عام 2007، تولى سعيد جليلي الأمانة العامة وأصبح كبير المفاوضين في الملف النووي الإيراني. وخلال ست سنوات لم يحقق الأخير أيّ تقدمٍ يُذكَر على صعيد حل المعضلة النووية، بل على العكس أصدر مجلس الأمن ثلاثة قرارات إدانة ساهمت في تعقيد الملف النووي ونقله إلى مظلة الفصل السابع لمجلس الأمن، وهنا وافق المرشد الأعلى علي خامنئي على طلب علي أكبر صالحي وزير الخارجية في عهد أحمدي نجاد على البدء بمفاوضات سرية مع الولايات المتحدة في عُمان، وبالتالي جرى نَقْل ملف التفاوض من المجلس الأعلى للأمن القومي إلى وزارة الخارجية.

 

بيد أن عملية نقل ملف التفاوض مع دول الجوار إلى المجلس الأعلى للأمن القومي لا ينفي التنسيق مع وزارة الخارجية، خصوصاً أنّ أرضية المصالحة مع السعودية تم تنسيقها عبر ثلاث شخصيات في وزارة الخارجية الإيرانية، هم: علي رضا عنايتي السفير الأسبق لإيران في الكويت، ورضا زبيب المطلع على ملف العلاقات الصينية-الإيرانية، وعلي أصغر خاجي نائب وزير الخارجية السابق جواد ظريف.

 

تفعيل “دبلوماسية الجوار”

لقد جاءت حكومة إبراهيم رئيسي بشعار “دبلوماسية الجوار”، ولكن الفريق التفاوضي لم يُحقق تقدماً في هذا الملف. فالمفاوضات مع السعودية، التي استضافتها بغداد ومسقط، على مدار أكثر من عامين، لم تصل إلى نتيجة، وهو ما حدا القائد الأعلى علي خامنئي، بحسب رويترز، إلى التدخُّل مرة أخرى، وطلب تسريع عملية التفاوض للوصول إلى اختراق.

 

إن عملية رسم السياسات الخارجية في إيران عملية معقدة للغاية تأتي نتيجة تنسيق مباشر بين ما يسمى “بيت القائد”، وبين كلٍّ من “فيلق القدس”، الذراع الخارجية للحرس الثوري، والمجلس الأعلى للأمن القومي، ووزارة الخارجية الإيرانية، ثم المؤسسات التشريعية مثل لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان الإيراني، ومجمع تشخيص مصلحة النظام، بنسبة أقل. ويُمارس خامنئي دور المراقب لعملية صنع السياسات الخارجية، وهو يمنح الحكومات المتعاقبة هامشاً كبيراً لإدارة السياسات الخارجية، إلا أنه يتدخل عند الضرورات. وهذا ما عبرّ عنه خامنئي صراحةً عندما خاطب وزير الخارجية السابق جواد ظريف بشكل غير مباشر، قائلاً إنّ وزارة الخارجية هي مُنفِّذ للسياسات التي ترسمها القيادات العليا. وقد ظهر هذا الخلاف بعد تسريب مقطع صوتي للوزير ظريف يتحدث فيه عن السياسة الخارجية القائمة على ثنائية “الميدان والدبلوماسية”، وكيف أن الدبلوماسية كانت ضحية في بعض الأوقات لساحة المعركة.

 

من جهة أخرى، يُعدّ نقل ملف “دبلوماسية الجوار” إلى المجلس الأعلى للأمن القومي رسالة إلى دول الجوار مفادها أنّ النظام هو مَنْ يتعهَّد بالوفاء بالتزاماته في المصالحات الإقليمية وليس الحكومة. وقد فعلت إيران الشيء نفسه عندما أرسلت علي لاريجاني (وليس جواد ظريف وزير الخارجية آنذاك) إلى كلٍّ من روسيا والصين لتوقيع اتفاقيات طويلة الأجل تمتد إلى 25 عاماً.

 

دلالة اختيار شمخاني

صُنَّاع القرار في إيران لم يُهملوا الصفات الشخصية والجذور العربية لعلي شمخاني عند اختيارهم له لقيادة المفاوضات مع دول الجوار؛ فشمخاني من مواليد مدينة الأهواز ذات الغالبية العربية، وهو ينحدر من القبائل العربية هناك، ولغته الأم هي العربية. بالإضافة إلى ذلك، يحمل شمخاني شهادة الدكتوراه في الاستراتيجية العسكرية من قبل جامعة الدفاع الوطني. كما شغل مناصب أمنية عالية المستوى قبل تسلُّمه أمانة المجلس الأعلى للأمن القومي؛ فقد تولى قيادة القوى البحرية، ثم تولى منصب وزير الدفاع في حكومة محمد خاتمي، وبعدها تولى الأمانة العامة للمجلس الأعلى للأمن القومي في عهد روحاني، وأبقاه رئيسي في منصبه إلى الآن. اختيار شمخاني لهذه المهمة يأتي نتيجة إلمامه باستراتيجية إيران الهادفة إلى إخلاء منطقة الشرق الأوسط من القوات الأمريكية أولاً، ومن ثم التعامل مع التهديدات الأمنية الإسرائيلية في المنطقة.

 

أما من جهة الملف النووي الإيراني، فالواضح أن المفاوضات بشكلها السابق قد وصلت إلى طريق مسدود، ويبدو أنّ نقل قيادة المفاوضات مع الدول الإقليمية إلى المجلس الأعلى للأمن القومي هو مقدمة لتغيُّر في المقاربة الإيرانية لعملية التفاوض مع تركيبة 5+1.

 

خلاصة واستنتاجات

يُشير نقل ملف المفاوضات إلى المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني إلى جديّة إيران في “دبلوماسية الجوار” التي طرحتها حكومة إبراهيم رئيسي، وتأتي هذه الخطوة في سياق حل الأزمات المعقدة على مستوى السياسة الخارجية الإيرانية والمعضلات الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها البلاد، وقد تكون مقدمة لتغيُّر استراتيجي في منطقة الشرق الأوسط، لكن علينا أن ننظر إلى هذه المقاربات الجديدة بعين الحذر لأن استمرارية النجاح في هذه الملفات الشائكة يحتاج إلى عملية حوار مستمرة، وبشكل منتظم، تشرف عليها وتوجهها القيادات العليا في البلدان المعنيَّة.

 

.

رابط المصدر:

https://epc.ae/ar/details/brief/diblumasiat-aljewar-wa-awdat-aljadal-hawl-sune-siasat-iran-alkharijia

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M