صبحي غندور
هي “الأزمة الأوكرانية” من حيث الشكل لكنها ضمناً هي صرخة فلاديمير بوتين الثانية ضد الهيمنة الأميركية بعد صرخته الأولى في مؤتمر ميونيخ في العام 2007. ففي ذلك العام كان “المحافظون الجدد” يحكمون أميركا ويحاولون بناء امبراطورية عسكرية أميركية على عموم العالم بعد غزوهم لأفغانستان والعراق وتوظيف شعار “الحرب على الإرهاب” لصالح الهيمنة الأمنية الأميركية على مختلف بقاع الأرض. موقف بوتين آنذاك أكّد رفض روسيا للقطبية الدولية الواحدة وللانفراد الأميركي بتقرير مصير العالم، ممّا اعْتبِر حينها نقطة تحوّل في سياسة موسكو ما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.
ومنذ ذلك التاريخ، تنظر روسيا إلى السياسة الأميركية على أنّها مصدر خطر مباشر على مصالحها الأمنية، وحذّرت موسكو واشنطن مراراً من نشر منظومة “الدرع الصاروخي” في عددٍ من الدول الأوروبية باعتبارها تهديداً للأمن القومي الروسي. كذلك، أدركت موسكو أنّ الوجود العسكري في منطقة الخليج العربي وتركيا وفي أفغانستان وجمهوريات آسيوية إسلامية، هو بمثابة تطويق شامل للأمن الروسي يتكامل مع امتداد حلف الناتو في أوروبا الشرقية.
صحيح أنّ الأزمة الأوكرانية الحالية هي امتداد لما حصل في العام 2014 من انقلاب سياسي وعسكري في كييف، وما تبعه من تدخل عسكري روسي وسيطرة على شبه جزيرة القرم، لكنّ ما نشهده في الأسابيع الماضية من تصعيد كبير هو صراع الآن على الخطوط الحمراء الروسية والأميركية في القارة الأوروبية، وهو أيضاً شبيه إلى حد كبير مما حدث في فترة “الحرب الباردة” بين المعسكرين الشرقي والغربي عقب الحرب العالمية الثانية وانتهى في توقيع إتفاقية يالطا التي وضعت خطوطاً حمراء لكل طرف وجرى احترامها فعلاً إلى حين سقوط الإتحاد السوفياتي.
وهذا ما اتوقع مثيلاً له بأن يحدث الآن في اللقاء المرتقب بين وزيري الخارجية الأميركي بلينكن والروسي لافروف في نهاية هذا الأسبوع بحيث تنتهي الأزمة المشتعلة الآن بين موسكو وواشنطن بالإتفاق على بيان مشترك يراعي “الخطوط الحمراء” لكل منهما في مجال الأمن الأوروبي ودور حلف الناتو فيه.
وربما يتزامن ذلك أيضاً مع إعلان واشنطن وطهران عن عودتهما للإتفاق الدولي بشأن الملف النووي الإيراني بحيث يأتي يوم الثلاثاء الأول من شهر مارس، وهو موعد خطاب الرئيس الأميركي عن “حال الإتحاد”، والرئيس بيدن قد حقق انجازات هامة في السياسة الخارجية الأميركية تُعوّض له حجم الخسارة السياسية بعد عملية الإنسحاب من أفغانستان وماهو عليه من تدني في نسبة التأييد الشعبي الأميركي له، إضافة طبعاً إلى استثمار التقدم الذي يحصل على صعيد ما قامت به إدارته في مواجهة جائحة كورونا.
الرئيس بيدن يحتاج كثيراً لمثل هذه “الإنجازات السياسية” في سياسته الخارجية قبل اشتعال الحملات الأنتخابية النصفية المقررة هذا العام والتي يمكن ان تسفر عن فوز “الحزب الجمهوري” في مجلسي النواب والشيوخ إذا استمر ضعف التأييد الشعبي الأميركي لبيدن ولحزبه الديمقراطي. أيضاً، الولايات المتحدة بحاجة الآن لتفاهمات مع موسكو وطهران بشأن عدة أزمات قائمة في منطقة “الشرق الأوسط” ومعنية واشنطن بها سياسياً وأمنياً وعسكرياً، كما هناك مصلحة كبيرة أميركية في عدم قيام تكتل دولي مناهض لها يجمع ما بين الصين وروسيا وإيران، فتكون التفاهمات الآن مع موسكو وطهران مدخلاً لتعزيز الضغوطات على الصين في المستقبل.
إنّ السياسة الروسية “البوتينية” لم تكن في السنوات الماضية عودةً إلى أجواء الحرب الباردة، بل من خلال السير بخطًى ثابتة، ولو بطيئة، لاستعادة بعض مواقع النفوذ التي فقدتها موسكو عقب سقوط الاتحاد السوفييتي. فها هي موسكو غير الشيوعية قد عادت إلى منطقة “الشرق الأوسط” وهي دولة كبرى الآن قادرة على المنح والمنع معاً.
إنّ العالم يشهد مؤخراً هبوطاً متدرّجاً لدور القطب الأميركي الأعظم مقابل تصاعدٍ ملحوظ لدور روسيا والصين، وما حدث ويحدث من توتّر وخلافات، خاصة بين واشنطن وموسكو، ليس بغيمة عابرة تصفو بعدها العلاقات ما بين البلدين. لكن أيضاً، ما نشهده من أزمات بين البلدين ليس بحربٍ باردة جديدة بين قطبين دوليين. فأبرز سمات “الحرب الباردة” التي سادت بين موسكو وواشنطن خلال النصف الثاني من القرن العشرين كانت قائمةً على مفاهيم إيديولوجية فرزت العالم بين معسكرين: شيوعي شرقي، ورأسمالي غربي، وهذا الأمر غائبٌ الآن عن الخلافات الروسية/الأميركية.
كذلك، فإنّ “الحرب الباردة” قامت على تهديدات باستخدام السلاح النووي بين الطرفين (كما حدث في أزمة صواريخ كوبا بمطلع الستينات) وعلى حروب ساخنة مدمّرة في دول العالم الثالث في سياق التنافس على مواقع النفوذ، إضافة إلى تقسيم أوروبا أمنياً وسياسياً بين المعسكرين، وهي حالات بعيدة كلّها الآن عن واقع الأزمات الراهنة بين موسكو وواشنطن. فأولويّات روسيا الآن هي مصالحها المباشرة وأمنها الداخلي وأمن حدودها المباشرة في أوروبا وإصرارها على مواجهة أيّة محاولة لعزلها أو لتطويقها سياسياً وأمنياً، كما تحاول واشنطن أن تفعل من خلال توسيع عضوية حلف الناتو وعبر نشر الصواريخ في دول مجاورة لروسيا.
لكنّ رغم التباين والخلافات القائمة حالياً بين موسكو وواشنطن، فإنّ الطرفين يحرصان على إبقاء الصراع بينهما مضبوطاً بسقفٍ محدد، خاصّةً في ظلّ الضغط الأوروبي العامل في هذا الاتجاه. فأوروبا هي بيضة الميزان الآن في العلاقات الروسية/الأميركية. وهناك عدّة دول أوروبية (غربية وشرقية) لا تجد لها مصلحةً في تصاعد التوتّر بين موسكو وواشنطن، ولا تريد أن تكون في حال الاضطرار للاختيار بين هذا الطرف أو ذاك. فروسيا الآن هي مصدر هام للطاقة في أوروبا، وهناك مصالح تجارية واقتصادية كبيرة تنمو بين الاتحاد الروسي والاتحاد الأوروبي. وهذا الموقف الأوروبي هو عنصر مهم الآن في ضبط العلاقات الروسية/الأميركية.
إنّ روسيا، بغضّ النظر عن نظام الحكم فيها، لا يمكن لها أن تكون منعزلةً أو محصورةً فقط في حدودها. هكذا كانت روسيا القيصرية وروسيا الشيوعية، وهكذا هي الآن روسيا “البوتينيّة”.
طبعاً هناك مصلحة لكل دول العالم بتصحيح الخلل الحاصل في ميزان العلاقات الدولية، وبالعودة إلى مرجعية أممية متوازنة في التعامل مع الأزمات والصراعات الجارية في أكثر من مكان، وإذا أحسن الروس والصينيون توظيف هذه المرحلة، فإنّ ذلك قد ينعكس إيجاباً على كل الأزمات الدولية، وفي مقدّمتها الآن أزمات منطقة “الشرق الأوسط” التي تشمل ملفات مترابطة بتداعياتها وأطرافها.
لكن سيكون من الحماقة تكرار الأخطاء العربية التي حصلت على مدى أكثر من قرنٍ من الزمن، بالمراهنة دائماً على طرف خارجي (إقليمي أو دولي) في تحقيق المصالح العربية بأبعادها الوطنية والقومية. فالمصالح الوطنية والقومية العربية تتطلّب أولاً الاعتماد على الذات العربية وتحسين واقع الحال العربي في أجزائه الوطنية وفي كلّيته العربية.
.
رابط المصدر: