مني قشطة
شهدت الآونة الأخيرة تصاعدًا لافتًا في حدة الأزمة بين روسيا من جانب، وأوكرانيا ومن خلفها الدول الغربية ودول حلف الناتو على وجه الخصوص من جانب آخر، وهو المسار الذي عبّر عنه تبني الطرفين للعديد من الإجراءات التصعيدية على المستويين الأمني والعسكري وبطبيعة الحال الدبلوماسي، وهي المؤشرات التي تصاعدت معها المخاوف من إمكانية اندلاع حرب بين الطرفين.
يحاول هذا التحليل تسليط الضوء على أبرز مؤشرات الأزمة بين الطرفين، ودوافع التصعيد بالنسبة لكل طرف، فضلًا عن محاولة الوقوف على السيناريوهات المتوقعة لمآلات الأزمة.
تحركات مُركّبة
تصاعدت حدة التوترات مجددًا حول الأزمة الأوكرانية بحلول نهاية عام 2021، وهي الأزمة التي تعود جذورها إلى سنوات مضت، بين موسكو من جانب، وكييف ومن خلفها دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) من جانب آخر. وبلغت هذه التوترات ذروتها مُؤخرًا عبر عدة تحركات، نستعرض أبرزها فيما يلي:
- حشود روسية على الحدود مع أوكرانيا: قامت روسيا بنقل أكثر من 100 ألف جندي مجهزين بالدبابات والمدافع والذخائر على طول الحدود مع أوكرانيا جنوبًا وشرقًا وشمالًا. وإلى جانب هذا العدد من القوات أظهرت بعض الصور الملتقطة بالأقمار الصناعية قيام موسكو بنقل المئات من الدبابات والدوافع والصواريخ من مناطق بعيدة مثل سيبيريا ونشرتها قرب حدود كييف تمهيدًا لغزو روسي محتمل لأوكرانيا، على غرار ما حدث في عام 2014، عندما شنت موسكو غزوًا عسكريا ضد كييف، أسفر عن ضمها شبه جزيرة القرم.
وفي السياق ذاته، أرسلت موسكو نحو 30 ألفًا من الجنود إلى بيلاروسيا، مدعومة بالقوات الخاصة، وعدد من الطائرات المقاتلة المتطورة، وصواريخ إسكندر الباليستية قصيرة المدى، وأنظمة الدفاع الجوي الصاروخي من طراز S-400، بالإضافة إلى عدد من المقاتلات المتطورة من طراز Su-35. ووفقًا لوزارة الدفاع الروسية ستبقى هذه القوات في البلاد حتى منتصف فبراير الجاري لإجراء مجموعة من التدريبات بالقرب من بريست (على الحدود البولندية)، وبارانوفيتشي (شمال شرق بريست)، وغرودنو (بالقرب من الحدود الليتوانية البولندية)، ومينسك.
- استجابة باردة للمطالب الأمنية الروسية: تقدمت روسيا في 17 ديسمبر الماضي بمسودتين إلى الولايات المتحدة الأمريكية والناتو حول مطالبها الأمنية، تضمنت المسودة الأولى المُقدمة إلى واشنطن تعهد الأخيرة بمنع امتداد الناتو شرقًا، وعدم انضمام دول من الجمهوريات السابقة للاتحاد السوفيتي إلى الحلف، بالإضافة إلى عدم إنشاء قواعد عسكرية في الجمهوريات السوفيتية السابقة غير المنتمية إلى الناتو ومنع استخدام البنى التحتية فيها لممارسة أي أنشطة عسكرية وعدم تطوير التعاون العسكري الثنائي معها. وبالنسبة لبنود مسودة الاتفاقية التي اقترحت روسيا على دول الناتو إبرامها، فقد تضمنت تعهد حلف الناتو بعدم التوسع من خلال انضمام أوكرانيا ودول أخرى إليه، إلى جانب امتناعه عن ممارسة أي أنشطة عسكرية في أراضي أوكرانيا وغيرها من دول أوروبا الشرقية وجنوب القوقاز وآسيا الوسطى.
جاء رد الولايات المتحدة والناتو على الوثيقتين سالفتي الذكر مُخيبًا لمطالب روسيا ومتجاهلًا لمخاوفها ومصالحها الأمنية؛ إذ رفضت واشنطن مطالب موسكو بعدم ضم أوكرانيا إلى الناتو. كما أعلن الأخير، على لسان الأمين العام للحلف “ينس ستولتنبيرج”، رفضه تلبية المطالب الروسية بعدم توسعة شرقًا، وهو ما أدى إلى تفاقم الأزمة، وتصاعد حدة التهديدات بين أطراف الخلاف.
- تعزيز الإمدادات العسكرية لأوكرانيا: تجسد التعاطي الأمريكي والغربي مع التهديد الروسي بغزو أوكرانيا في تقديم الدعم العسكري للأخيرة، من خلال تزويدها بالمعدات العسكرية الطارئة والأسلحة المتطورة، فضلًا عن تقديم مساعدات كبيرة تُقدر بحوالي 2.7 مليار دولار لتعزيز قدرات كييف الدفاعية منذ أن ضمت روسيا منطقة القرم عام 2014. إلى جانب التلويح باستخدام ورقة فرض العقوبات الاقتصادية على موسكو لتطويق تحركاتها الرامية إلى غزو كييف.
دوافع التصعيد
توجد جملة من الدوافع التي تقف خلف التصعيد من قبل الطرفين الروسي والغربي، وهي الدوافع التي يُمكن بيانها على النحو التالي:
أولًا- بالنسبة لروسيا: ترغب روسيا في فك الارتباط بين أوكرانيا والغرب، والحيلولة دون انضمام الأولى إلى حلف الناتو، لأن هذا الأمر إذا ما تحقق على أرض الواقع سيمثل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الروسي؛ إذ إن انضمام أوكرانيا إلى الناتو يعني في مضمونه وجود قوات الحلف على حدود “المسافة صفر” مع روسيا، ومن ثمّ مُحاصرتها عسكريًا وتحجيم قدراتها الدفاعية في مواجهة تهديدات الغرب الجوية والبرية والبحرية. فضلًا عن رغبة “بوتين” في الحصول على ضمانات أمنية مكتوبة” -عوضًا عن الوعود الشفهية- تكفل لروسيا حماية مجالها الحيوي من أية تهديدات مُحتملة من خلال الترهيب باستخدام القوة العسكرية وممارسة دبلوماسية المدافع.
وعلاوةً على ذلك، ينظر “بوتين” إلى أوكرانيا على أنها تدور في الفلك الاستراتيجي لموسكو تاريخيًا، ومن ثمّ يمكن تفسير التحركات العسكرية لروسيا على الحدود مع أوكرانيا في إطار سعي الكرملين إلى استعادة كييف التي ارتمت في أحضان الغرب منذ عام 2014 إلى الحظيرة الروسية، كترجمة لمساعي بوتين لإعادة ممارسة فرض النفوذ على الدول التي كانت في السابق جزءًا من الاتحاد السوفيتي.
ثانيًا- بالنسبة للولايات المتحدة والدول الغربية: تُبرر القوى الغربية دعمها لأوكرانيا في مواجهة روسيا انطلاقًا من دفاعها عن سياسة “الباب المفتوح” التي يتبعها الناتو، والتي تُقر بأحقية كل دولة -مُؤهلة- في اتخاذ قرار مستقل بشأن الانضمام أو عدم الانضمام إلى الحلف. لكن على الجانب الآخر توجد مجموعة أخرى من الدوافع الكامنة وراء الدعم الغربي لكييف، في القلب منها تخوف الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية من إقدام روسيا بالفعل على إشعال فتيل الحرب وغزو أوكرانيا، كما فعلت في عام 2014 عندما ضمت شبه جزيرة القرم في أعقاب الإطاحة بالرئيس الأوكراني الموالي للكرملين آنذاك، إلى جانب تخوف الدول الأوروبية من نقص إمدادات الغاز جراء التداعيات السلبية المحتملة في حالة فرض عقوبات على روسيا؛ إذ إن الأخيرة تؤمن ما يصل إلى 40 % من الغاز إلى الجغرافيا الأوروبية.
وفي السياق ذاته، تنظر القوى الغربية بعين شديدة الحذر لمساعي بوتين الطامحة في استعادة مجد أسلافه، ولذا تحاول تقويض النفوذ الروسي المتنامي سياسيًا وعسكريًا، من خلال تحزيم الكرملين بقوس من الصراعات والتوترات، من بينها محاولات ضم أوكرانيا وبعض الجمهوريات السوفيتية السابقة إلى قوات حلف الناتو، ومن ثمّ محاولة توريط روسيا التي ستنهض بطبيعة الحال للدفاع عن أمنها القومي ومحيطها الإقليمي، في تجاذبات سياسية وأمنية لا تُحمد عُقباها.
سيناريوهات محتملة
في ضوء المعطيات السابقة، يبدو أننا أمام ثلاثة سيناريوهات مُحتملة لمآلات الأزمة الأوكرانية، هي:
- السيناريو الأول- نشوب الحرب: يقوم هذا السيناريو على فرضية قيام روسيا بإشعال نيران الحرب وغزو أوكرانيا، إما بشكل جزئي للمناطق الانفصالية الشرقية أو بشكل موسع يتضمن غزو كييف بأكملها. ولكن رغم كون هذا السيناريو أحد السيناريوهات المطروحة إلا أن فرص تحققه ضئيلة، في ضوء عدم جاهزية أطراف النزاع لتكبد الكُلفة العالية، والتداعيات المدمرة حال تحقق سيناريو الحرب على أرض الواقع.
فموسكو -على سبيل المثال- غير قادرة على تكبد العقوبات الاقتصادية الجسيمة التي قد تفرض عليها من الغرب إذا قامت بغزو أوكرانيا. وعند النظر إلى الطرف الآخر للأزمة، نجد أن كييف غير قادرة على الدخول في حرب مع روسيا، وهذا الأمر يمكن إرجاعه إلى عدة أسباب: أولها، التفاوت الكبير في القدرات العسكرية بين كييف وموسكو. ثانيها، وجود جملة من الأزمات البنيوية داخل الدولة الأوكرانية تجعل من الصعوبة بمكان المجازفة بالدخول في مواجهة عسكرية مع دولة بحجم روسيا. ثالثها، الدعم الغربي الذي تعوّل عليه أوكرانيا لا يكفي لحمايتها في مواجهة التصعيد الروسي، وكافة المؤشرات تذهب إلى أن كييف في نهاية المطاف ستصبح الضحية الوحيدة في هذه الحرب.
- السيناريو الثاني- حلحلة الأزمة عبر المفاوضات: يفترض هذا السيناريو وصول الدول الأطراف في الأزمة إلى اتفاق للتهدئة عبر آلية المفاوضات؛ إذ من المتوقع أن تنخرط روسيا في المباحثات بالتوازي مع استمرار مناوراتها العسكرية على الحدود الأوكرانية كنوع من ممارسة الضغط أثناء التفاوض، بما يضمن خروجها من المفاوضات بأكبر قدر ممكن من المكاسب التي تضمن حماية مجالها الحيوي وأمنها القومي.
وتشير أكثر المؤشرات إلى أن هذا السيناريو هو الأقرب للحدوث في ضوء كونه الأقل من حيث التكلفة بالنسبة لكافة الأطراف المنخرطة في الأزمة. وفي هذا الصدد، يُمكن اعتبار إعلان واشنطن في 2 فبرابر الجاري عن استعدادها لمناقشة منح الكرملين طريقة للتحقق من عدم وجود صواريخ توماهوك في قواعد حلف شمال الأطلسي برومانيا وبولندا، مقابل استعداد روسيا لتبادل معلومات مماثلة بشأن صواريخ في قواعد روسية معينة، أحد المؤشرات التي تعكس رغبة الدول المنخرطة في الأزمة في التوجه نحو هذا السيناريو.
- السيناريو الثالث- استمرار الوضع على ما هو عليه: يفترض هذا السيناريو بقاء الوضع على ما هو عليه، بمعنى أن الدول المنخرطة في الأزمة سوف تستمر في تبني مسار تصعيدي، سواء على المستوى الأمني والعسكري، أو على المستوى الدبلوماسي، إلى حين دخول متغيرات جديدة على خط الأزمة تدفع باتجاه إما اندلاع الحرب أو إنهاء الأزمة ونزع فتيلها، مع الإشارة إلى أن بقاء الوضع كما هو عليه هو أمر خطير لأنه سيجعل خيار الحرب قائمًا.
وختامًا، يمكن القول إن المحدد الحاكم للوصول لأي من السيناريوهات السابقة سيكون مرتبطًا بمرونة الأطراف المنخرطة في الأزمة، ومدى تقبلها للدخول في مسار تفاوضي قد يترتب عليه تقديم بعض التنازلات من كافة الأطراف، كبديل للتكلفة الكبيرة لخيار التصعيد.
.
رابط المصدر: