د. محمد مسلم الحسيني
كورونا الجديد ” كوفيد19″، بينما سجلت أولى الإصابات في العراق لدى طالب إيراني يدرس في مدينة النجف، قابله إصابة واحدة لدى بلجيكي عاد الى بلجيكا من مدينة “ووهان” الصينية في نفس الشهر. إنتقلت العدوى بشكل ملحوظ للعراق من خلال إحتكاك العراقيين مع بؤر الوباء أثناء زيارتهم لإيران، وإنتقلت العدوى الى بلجيكا من خلال زيارة السواح البلجيكيين الى بؤر الوباء في إيطاليا خلال عطلة الـ “كرنفال” حيث وصل عدد المصابين في البلدين في بداية شهر آذار الى أقل من عشر إصابات.
في نفس الوقت كان في العراق أزمة سياسية ورئيس وزراء مؤقت، وكانت بلجيكا أيضا في أزمة سياسية ورئيس وزراء مؤقت يدير شؤون البلاد في ظل مجريات الوباء!. أوجه التشابه هذه بين الحالتين يسترعي الإنتباه لمناقشة النتائج الحاصلة في عدد الإصابات وعدد الوفيات في كل من هذين البلدين وتقييم الدواعي والأسباب. دون شك أسباب الإختلاف في النتائج تعتمد على الوضع العام والخاص لكل من البلدين سواء كان على الصعيد الإقتصادي أو الصحي أو السياسي أو الإداري أو البيئي، حيث عليها تعتمد الوسائل والإجراءات المتخذة للتصدي لهذا الوباء في كل منهما. الغرض من هذه الدراسة البسيطة هو معرفة مواقع القوة ومواقع الضعف في الموجودات وفي الإجراءات التي أدت وتؤدي الى إختلاف في حصول النتائج.
رغم التقارب الزمني في حصول الإصابات وظروفها في كلا البلدين غير أن هناك تباينات قد حصلت في غضون أيام قليلة في النتائج من حيث عدد الإصابات وما يقابلها من عدد الوفيات. في الثاني من شهر آذار الجاري كان العدد الكلي للإصابات المؤكدة في كل منهما لا يتجاوز العشر إصابات، ومنذ ذلك الحين حتى 12/03/2020م حصلت قفزات في عدد الإصابات، حيث صرح المسؤولون بالشأن الصحي في كلا البلدين بما يلي: عدد الإصابات الكلي في العراق هو “78” إصابة مؤكدة يقابلها “8” حالات وفاة…. بينما في الجانب البلجيكي “399” حالة إصابة و”3″ حالات وفاة. من هنا نستنتج مبدئيّا الى أن سرعة إنتشار المرض في بلجيكا هي أكثر منه في العراق بمقدار “15” ضعفا خلال فترة عشرة أيام! آخذين بنظر الإعتبار أن عدد سكان بلجيكا يبلغ حوالي “11.6” مليون نسمة وعدد سكان العراق حوالي “37.5” مليون نسمة.
هذا التباين الهائل في سرعة إنتشار الوباء بين البلدين قد تفسره الأمور التالية فرادا أو مجتمعة: أن عدد الإصابات المعلنة في العراق قد لا يوازي الحقيقة بسبب ضعف وسائل التحري والكشف عن الوباء كنقص المختبرات المؤهلة للفحص وهذه مشكلة حاصلة في أكثر الدول تقدما كأمريكا وإيطاليا وفرنسا بل وحتى في بلجيكا نفسها، فكيف الحال بالعراق! أو أن المصابين لا يراجعون المراكز الصحية عند ظهور أعراض إصابتهم خصوصا حينما تكون إصاباتهم خفيفة فيحسبون أن مرضهم مجرد زكام بسيط أو أنفلونزا عادية حيث تتشابه الأعراض بين الوباء الجديد والإنفلونزا الى حد كبير، أو أن البعض يخشى الإفصاح عن حالته الصحية تجنبا للحجر الصحي والعزل وهكذا فأن السلطات الصحية العراقية قد تفتقد للمعرفة الحقيقية بعدد الإصابات أو ربما لا تمتلك الشفافية في ذلك!
لو سلّمنا جدلا بأن عدد الإصابات المعلن في العراق حقيقيا أو يقارب الحقيقة، فلابد من البحث عن أسباب أخرى أدّت الى هذا التباين في سرعة إنتشار الوباء. لو بحثنا في الإجراءات الإحترازية لكل بلد ضد هذا الوباء لوجدنا أن العراق تفاعل بشكل مبكر مع الحالة فاتخذ إجراءات ردعيّة ضد المرض لم تتخذها بلجيكا حتى ساعة كتابة هذا التقرير، والتي تتضمن غلق الحدود بوجه الدول الموبوءة مثل الصين وإيران وكوريا الجنوبية وتايلند وسنغافورة وإيطاليا وغيرها، حيث لم تفعل بلجيكا هذا الإجراء إلاّ مع الصين فقط!.
من جهة أخرى علق العراق الدوام في المدارس والجامعات وأغلق بعض الأماكن العامة كالمقاهي ودور السينما ومنع أو على الأقل نصح بعدم التجمع في أماكن العبادة والأضرحة وغيرها من الأماكن المزدحمة، بينما لم تقم بلجيكا بأي إجراء كهذا خلال هذه الفترة!. دون شك كل هذه الأسباب مجتمعة وبالخصوص عدم وجود أرقام حقيقيه للإصابات في العراق من جهة وتماهل البلجيك في مجابهة الوباء منذ البداية من جهة أخرى، قد يفسّر التباين الكبير الحاصل في سرعة إنتشار الوباء بين البلدين.
هناك أيضا من يفسّر تباطؤ سرعة عدوى الإصابة في العراق بسبب وجود ظروف غير مؤاتية لعيش الفايروس الجديد فيه، حيث إرتفاع درجات الحرارة من جهة وكثافة حالة التلوث في الهواء من جهة أخرى، إذ أبدت بعض التقارير البحثية الأولية تأثر هذا الفايروس الجديد بإرتفاع درجات الحرارة. أمام هذا التصوّر هناك حجج مفندة له وأهمها: أن درجات الحرارة في العراق لا تزال معتدلة ولم تصل الى درجات حراره عالية في الوقت الحاضر، كما أن دولة الكويت الجارة للعراق تكون فيها معدلات درجات الحرارة أكثر من معدلات درجات الحرارة في كثير من مناطق العراق وخصوصا الشمالية منها، ورغم هذا فإن عدد الإصابات في الكويت تماثل عدد إصابات العراق رغم الفارق الكبير في عدد نفوس البلدين. أمّا ما يخص التلوث الكائن في الجو فإن درجة التلوث في الهواء في المدن الإيرانية بشكل عام تبلغ ذروتها، إذ حصلت إيران على موقع “12” بين الدول الأكثر تلوثا في العالم والصين تراوح بين الدول العشر الأكثر تلوثا في العالم، ورغم هذا تعتبر الصين مسقط رأس فايروس كورونا الجديد وإيران حاضنته. هذه المعطيات تجعلنا نبحث عن أسباب أخرى أكيدة التأثير على هذه النتائج دون أن ننفي أثر الحرارة والتلوث في التأثير على الفايروس الجديد حتى نجد الدليل الأكيد لذلك.
الإختلاف النسبي في عدد الوفيات في كلا البلدين يستدعي التوقف والتحليل أيضا. نسبة عدد الوفيات عند المصابين بهذا الوباء في العراق تصل الى أكثر من 10 في المئة، أي أكبر من ضعف النسبة التي حددتها الأبحاث في المركز الصيني للبحوث في الأمراض الوبائية والمعدية والتي لا تتجاوز 4 بالمئة. بينما حصلت الوفاة عند المصابين البلجيك بنسبة أقل من واحد بالمئة، أي أن نسبة الوفيات في العراق بعد الإصابة تزيد على عشرة أضعاف الحالة في بلجيكا.
التفسير هنا يكمن بالتحليلات التالية جمعا أو فرادا أيضا وهي: المستوى العلاجي لمضاعفات المرض في بلجيكا أرقى مما عليه الحالة في العراق من حيث العناية والتقنية وتوفر الأجهزة والأدوية الفعالة اللازمة، وهذا ما يجعل معالجة المضاعفات الحاصلة عن المرض ممكنة في مستشفيات بلجيكا مقارنة بمستشفيات العراق.
أو أن الحالة الصحية الجسدية والنفسية عند البلجيك أقوى من الحالة الصحية الجسدية والنفسية عند العراقيين وهذا يعني أن مناعة البلجيك ضد الفايروس أقوى من مناعة العراقيين له، والمناعة هي الخط الأول في الدفاع عن الجسم ضد هذا العدو الماحق!. أما الإحتمال الآخر والذي يرجعنا للمربع الأول الا وهو أن حالات الإصابة الحقيقية في العراق أكبر بكثير من المعلن عنها، وهكذا فأن عدد الوفيات المحصية تتناسب مع العدد الحقيقي “المجهول” للإصابات وليس مع المعلن منها.
ملخص الإستنتاج من هذه الدراسة المبسطة، هو إن إنخفاض أعداد الإصابة في وباء ما وفي بلد ما نسبيّا، قد يعني وجود خلل إحصائي محسوس أو غير محسوس، متعمد أو غير متعمد، يفضي بنتائج وأرقام لا تمثل الواقع. أو قد يعني أيضا أن البلد المقصود يتقيّد بشكل مثالي بمعايير مكافحة الوباءات والسيطرة عليها فيفوق غيره بخفض عدد الإصابات فيه. كما يتبين أيضا أنه من خلال قراءة معدّل نسبة الوفيات في وباء ما، قد نستطيع معرفة العدد الحقيقي الكلي للإصابات من جهة، ومعرفة مستوى العناية الطبية التي يتلقاها مرضى الوباء من جهة أخرى.
رابط المصدر: