دخلت الأزمة الأوكرانية منعطفًا جديدًا على المستوى الاستراتيجي بإعلان كل من السويد وفنلندا عزمهما الانضمام إلى حلف الناتو، في خطوة ضاغطة يرى البعض أن الغرض الأساسي منها هو إرسال رسالة إلى موسكو، مفادها أن انضمام دول شرق أوروبا إلى حلف الناتو -والذي كان الحيلولة دون حدوثه بمثابة أحد أهم الأسباب التي سوقتها موسكو لتبرير عمليتها العسكرية في أوكرانيا- باتت احتماليته أكبر رغم الهجوم الروسي على أوكرانيا.
من ناحية أخرى، يمكن اعتبار هذه الخطوة بمثابة فخ غربي يتم نصبه لموسكو، من خلاله يتم استثمار التباطؤ المتزايد في وتيرة العمليات العسكرية الروسية في الجبهتين الشرقية والجنوبية في أوكرانيا، وحقيقة أن موسكو قد فشلت في تحقيق الأهداف الميدانية التي كانت تستهدفها في المرحلة الأولى من العمليات، ما اضطرها إلى تقليص هذه الأهداف وتعديلها لتصبح مقتصرة على السيطرة على كامل إقليم دونباس. هذا الفخ تحاول القوى الغربية من خلاله جر موسكو لردة فعل ميدانية مكلفة، قد تفاقم من التغيرات الدراماتيكية الحالية في الموقف العسكري الروسي في أوكرانيا، في ظل تدفق الأسلحة والمنظومات القتالية النوعية إلى كييف.
مدى جدية ستوكهولم وهلسنكي في مسألة الانضمام إلى حلف الناتو تبقى محل جدل كبير سواء داخل الأوساط السياسية داخل كلا البلدين أو حتى من منظور بعض دول حلف الناتو التي إما ترى في هذه الخطوة استفزازًا إضافيًا لموسكو “لا داعي له في هذه المرحلة”، أو تحاول أن تتخذ هذا الملف كوسيلة للحصول على مكاسب إضافية، وتسجيل نقاط سياسية أو عسكرية، كما في الحالة التركية مثلًا.
بغض النظر عن مسألة الجدية، تجب الإشارة إلى أن مسار الانضمام إلى حلف الناتو هو مسار طويل زمنيًا وإجرائيًا، حتى بالنسبة إلى دول أوروبية متقدمة مثل فنلندا والسويد، خاصة لو ترافق هذا المسار مع تلكؤ أو رفض لانضمامهما من جانب دولة واحدة أو عدة دول منضوية تحت راية الحلف، وهو ما يؤدي بالتبعية إلى إطالة هذا المسار أو حتى إنهائه تمامًا.
يضاف إلى هذا ضرورة استيفاء كلا البلدين لعشرات البنود المتعلقة بالجوانب السياسية والعسكرية والاقتصادية والقانونية والأمنية، والتي تؤهلهما للحصول على عضوية الحلف، منها مثلًا وجوب اتفاق دول الحلف كافة على دعوة كلا البلدين للدخول في مفاوضات الانضمام، ومن ثم يتم بعد ذلك المصادقة على بروتوكولات الانضمام، والتعديلات التي ستطرأ على معاهدة الحلف، من قبل جميع البرلمانات في الدول الأعضاء في الحلف، وهي الخطوة الأطول والأكثر تعقيدًا، ويعقبها توقيع ممثلي كافة الدول الأعضاء في الحلف على هذه البروتوكولات، علمًا أن انضمام جمهوريتي الجبل الأسود ومقدونيا لحلف الناتو استغرق أكثر من عام ونصف.
مسألة وجود دعم شعبي طاغي في كلا البلدين لانضمامهما لحلف الناتو تعد من المتطلبات الأساسية لتحقيق هذه الغاية، لكن توجد بعض المعوقات في هذا الإطار؛ فحسب استطلاع للرأي العام أجراه المجلس الاستشاري الفنلندي للمعلومات الدفاعية في ديسمبر 2021، أن 24% فقط من المستطلعة آراؤهم يؤيدون انضمام بلادهم إلى حلف الناتو، مقابل معارضة 51%. في حين، أظهر استطلاع مماثل للرأي تم إجراؤه في السويد عام 2020 أن 27% من المستطلعة آراؤهم يؤيدون انضمام السويد إلى الناتو، مقابل معارضة 32%.
وعلى الرغم من أن هذه النسب بالقطع اختلفت بعد بدء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، إلا أن الوضع السياسي في السويد وفنلندا يطرح أيضًا خلافات بشأن الانضمام إلى حلف الناتو، فمثلًا يؤيد البرلمان السويدي بشكل شبه كامل انضمام ستوكهولم إلى الحلف، في حين أبدى حزب العمال الديموقراطي الاشتراكي الحاكم في السويد بعض التردد في هذا الأمر، وأعلن أنه في حالة انضمام السويد لن يتم السماح بإنشاء قواعد عسكرية أجنبية، أو نشر أسلحة نووية.
الجانب العسكري في هذه المعادلة يبدو الأهم، بالنظر إلى التطورات الحالية في أوكرانيا، لذا يبدو من الضروري النظر إلى ما يمكن أن تقدمه فنلندا والسويد في هذا الإطار، خاصة أن متطلبات الانضمام لحلف الناتو تقتضي بعض التعديلات في الإنفاق الدفاعي للدول التي ترغب في الانضمام إليه، بجانب بنود أخرى يلزم تحقيقها كي تتوافق تلك الدول مع المادة الثالثة من معاهدة تأسيس حلف الناتو، والتي تلزم الدول الأعضاء بالحفاظ على قدراتهم العسكرية الفردية والجماعية، وتطويرها بشكل مستمر لمواكبة اي تهديد للحلف أو للدول المنضوية تحت لوائه. في هذه المادة سنتناول الإضافة العسكرية التي يمكن ان تضيفها فنلندا لحلف الناتو.
فنلندا… محاولات سابقة للهروب من “الضغط” الروسي
كانت فنلندا بشكل دائم عرضة للضغوط الروسية، خاصة في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية الفنلندية، وهو ما دفعها إلى البحث بشكل دائم عن ملاذات إقليمية للتعاون العسكري، خاصة مع دول البلطيق وشرق أوروبا مثل إستونيا والسويد ولاتفيا وبولندا، لكنها لم تنجح في هذا المسعى، ما اضطرها إلى توقيع اتفاقية مع الاتحاد السوفيتي عام 1932، تنص على عدم دخول كلا الطرفين في أي نزاع عسكري.
هذه المعاهدة لم تمنع خوض البلدين لاحقًا، مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، نزاع عسكري شديد الوطأة تمثل في حربين هما “حرب الشتاء” و”حرب الاستمرار”، اللتين خسرتهما فنلندا واضطرت في النهاية إلى التنازل عن أجزاء من أراضيها، تحت وطأة تبعات ما بعد الحرب العالمية الثانية، مثل إقليم “كاريليا” الذي أصبح فيما بعد، وتحديدًا في نوفمبر 1991، جمهورية ذات حكم ذاتي داخل الاتحاد الروسي.
رغم ميل ميزان المواجهة العسكرية التاريخي بين البلدين بشدة لصالح موسكو، إلا أن فنلندا مثلت نموذجًا عسكريًا نادرًا على إمكانية إلحاق قوة عسكرية متواضعة الإمكانيات خسائر فادحة بقوة عسكرية معادية متفوقة عددًا وعدة؛ فقد اتسم أداء الوحدات العسكرية الفنلندية خلال “حرب الشتاء” التي دارت بينها وبين الجيش الأحمر السوفيتي بين عامي 1939 و1940 وكذا “حرب الاستمرار” التي استمرت منذ عام 1941 وحتى سبتمبر 1944 بالفاعلية الشديدة.
وذلك خاصة في معركة “سوموسالمي”؛ فقد اتبعت الوحدات الفنلندية في هذه المعركة تكتيكًا يدعى “موتي”، يعتمد على عزل القوات المعادية في جيوب صغيرة تتم محاصرتها وسحقها، وهذا للمفارقة أحد التكتيكات الرئيسة التي اتبعتها القوات الروسية في أوكرانيا مؤخرًا. لهذا السبب ربما لم يكن مستغربًا أن تستدعي بعض الأوساط العسكرية الغربية الأداء الفنلندي في هذه الحرب للدلالة على إمكانية تحقيق كييف نصرًا تكتيكيًا على موسكو خلال المواجهة العسكرية الحالية.
ظلت هلسنكي عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية أسيرة نفوذ الكرملين؛ إذ تمكنت موسكو من إبقاء المواقف الفنلندية حيال الصراع بينها وبين واشنطن تحت السيطرة، خاصة وأن الأوساط الداخلية في فنلندا كانت تنظر إلى حالة “السكون” الفنلندية على أنها عامل مساعد في تحسين مجال المناورة الوطنية، من خلال استخدام سياسة الحياد الرسمي، لتجنب الاضطرار إلى اتخاذ مواقف دولية موالية لهذا الطرف أو ذاك، ما قد يوقعها في آتون صراعات القوى العظمى.
لهذا السبب ظلت فنلندا طيلة الحرب الباردة خارج حلف الناتو، واتسمت مساهمتها في المنظومة الدفاعية الأوروبية بالضآلة الشديدة طيلة هذه الفترة. وهذا يعزى بشكل خاص إلى بنود “معاهدة باريس” و”معاهدة الصداقة والتعاون والمساعدة المتبادلة”؛ فالأولى تم توقيعها عام 1947، ونصت على تقييد تسلح الجيش الفنلندي، وتنازل فنلندا عن معظم مناطق إقليم “كاريليا” جنوب شرق البلاد، وإقرارها بنزع سلاح بعض الجزر التابعة لها، وهو ما يمكن اعتباره بداية تكريس “الحالة الحيادية” لفنلندا، التي كرستها “معاهدة الصداقة والتعاون والمساعدة المتبادلة”، الموقعة عام 1948، وهي معاهدة لم تكرس فقط للهيمنة السوفيتية على فنلندا خلال العقود اللاحقة، بل أوجدت أيضًا مصطلحًا اصبح يشار به إلى حالة خضوع أي دولة صغيرة أو ضعيفة لجارتها القوية، وهو مصطلح “الفنلدة”.
أهم ما نصت عليه هذه المعاهدة كان إعطاء الحق لموسكو في التدخل العسكري المباشر في فنلندا في حالة دخول قوات حلف الناتو إلى أي أرض فنلندية، وهو ما رسم حدود العلاقة العسكرية بين الأطراف الثلاثة (حلف الناتو والاتحاد السوفيتي وفنلندا) حتى نهاية الحرب الباردة، ورسم كذلك شكل السياسة الداخلية والخارجية الفنلندية التي ظلت لعقود تتجنب أي استفزاز لموسكو، وأحجمت عن المشاركة في مبادرات ومشاريع أوروبية عديدة، على رأسها “مشروع مارشال” الاقتصادي لإعادة إعمار أوروبا. جدير بالذكر هنا، أن بعض طروحات الحل في أوكرانيا ترتكز على “الفنلدة” كنموذج من الممكن أن تتبعه كييف لإظهار حيادها، وإن كان تطبيق هذا النموذج في أوكرانيا تكتنفه تعقيدات عدة.
مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي
انهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه أوائل تسعينيات القرن الماضي، كان بمثابة فرصة لتحرر الدول المحيطة به -ومنها فنلندا- من سيطرة ونفوذ الكرملين، وهو ما بدا من خلال توقيع موسكو وهلسنكي أوائل عام 1992 معاهدة جديدة لتأطير العلاقات بينهما، تم من خلالها إلغاء كل ما نصت عليه معاهدة 1948.
لكن كان واضحًا بشكل كبير خلال السنوات اللاحقة حذر هلسنكي خلال محاولة الخروج من عباءة “الحياد”، والتي بدأت عام 1994 بتوقيعها على سلسلة من بروتوكولات التعاون العسكري مع حلف الناتو، ومنذ ذلك التوقيت اتسمت مسيرتها نحو التعاون العسكري والدفاعي مع الحلف بالبطء الشديد، ولم تبدأ في التفكير بشكل جدي في العمل على الإيفاء بمعايير الحلف الدفاعية إلا بداية من عام 2007 الذي شهد ظهور أصوات عديدة داخل المؤسسة العسكرية الفنلندية تطالب بتوسيع قاعدة التسلح وتطويرها، وهذا بدأ بشكل ضمني من خلال مشاركة القوات الفنلندية تحت لواء حلف الناتو في عدة عمليات عسكرية خارجية، خاصة في إقليم كوسوفو وأفغانستان والعراق ولبنان.
يمكن اعتبار ضم موسكو شبه جزيرة القرم عام 2014 حجز زاوية في التحول الفنلندي بشكل أكبر نحو حلف الناتو؛ إذ استشعرت هلسنكي التهديدات المستجدة على الوضع الجيوسياسي شرق أوروبا، وإن حافظت في نفس الوقت على تحركاتها الحذرة خشية استفزاز موسكو، فركزت جهودها على ثلاثة مسارات أساسية، هي: توقيع اتفاقيات للتعاون الدفاعي مع الدول الأوروبية، وزيادة كم التدريبات والمناورات العسكرية المشتركة مع دول حلف الناتو، والشروع في إجراءات إصلاحية تخص القوانين المنظمة للقوات المسلحة الفنلندية. جهود هلسنكي تقاطعت مع قناعة حلف الناتو بحاجته الماسة إلى التعاون مع فنلندا التي أصبحت رقمًا مهمًا في المعادلة الدفاعية للحلف في شمال أوروبا وفي نطاق بحر البلطيق والقطب الشمالي.
تحركت فنلندا منذ عام 2014 في المسارات الثلاث السالف ذكرها، وانضمت إلى العديد من الوحدات العسكرية متعددة الجنسيات، مثل “قوة الاستطلاع المشتركة” التي تقودها المملكة المتحدة، و”مبادرة التدخل الأوروبية” التي تقودها باريس، كذلك وقعت اتفاقيات ثنائية للشراكة والتعاون العسكري مع العديد من الدول، مثل السويد والنرويج وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة، بجانب توقيع اتفاقيات أخرى مع حلف الناتو، مثل اتفاقية الانضمام إلى برنامج “شراكة الفرصة المحسنة”، واتفاقيات خاصة بتبادل البيانات الجوية.
تضمنت هذه التحركات أيضًا تكثيف مشاركة القوات الفنلندية في مناورات حلف الناتو العسكرية مثل مناورات “ترايدنت جونكتشر” و”بالتوبس” والتدريبات السنوية لإدارة الأزمات، وكذا استضافة فنلندا لمجموعة أخرى من مناورات الحلف مثل مناورات “بولد كويست” الجوية، بجانب عدة تدريبات مشتركة منها التدريبات التي تمت مؤخرًا وشارك فيها أكثر من 3 آلاف جندي فنلندي إلى جانب مئات الجنود الأمريكيين والبريطانيين والإستونيين واللاتفيين، والتي تستهدف منها فنلندا اختبار توافقها مع الأنظمة العسكرية التسليحية والإدارية العاملة في حلف الناتو، ناهيك عن تنفيذ البحرية الفنلندية أواخر الشهر الماضي تدريبات بحرية شاركت فيها لاتفيا وإستونيا وهولندا تم فيها إعداد البحرية الفنلندية للمشاركة في قوات الرد التابعة للحلف.
القوة العسكرية الفنلندية وماهية الإضافة النوعية لحلف الناتو
بعد العرض السابق، لابد من التطرق إلى الوضع الداخلي للقوة العسكرية الفنلندية، ومواطن القوة الخاصة بها، والتي من الممكن أن نعدها بمثابة إضافة لحلف الناتو في حالة انضمام هلسنكي له. لعل إحدى أهم النقاط الإيجابية في الجيش الفنلندي هي القوة البشرية وآليات الخدمة العسكرية والتعبئة؛ فعلى الرغم من التصنيف المتأخر للجيش الفنلندي فيما يتعلق بالقوات العاملة، إلا أنه يعد من الجيوش الأوروبية القليلة التي لم تعمد إلى تخفيض قوتها العسكرية العاملة بشكل كبير في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وظل محافظًا على نظام للتجنيد الإجباري، رغم أنه اضطر عام 2013 -تحت ضغط الوضع الاقتصادي- إلى تخفيض عدد القوات النظامية من 350 ألف جندي إلى 230 ألف جندي فقط.
هذا التخفيض تم تعديله وتحديث كامل منظومة التجنيد أوائل عام 2017، حين أصدرت الحكومة الفنلندية بالاشتراك مع وزارة الدفاع تقريرًا حول الحالة الدفاعية للبلاد، وتوصيات خاصة بالاستراتيجية العسكرية للعشر سنوات المقبلة، تضمنت توصيات بزيادة عديد القوات النظامية الفنلندية، من 230 ألف إلى 280 ألف جندي، وإنشاء وحدات انتشار سريع من المجندين المدربين، لتقوم بسد الفجوات التي تحدث خلال الفترات التي لا تشهد تجنيدًا لمجندين جدد، وإتاحة إمكانية استدعاء ما يصل إلى 25 ألف جندي احتياط سنويًا للانخراط في التدريبات العسكرية دون إشعار سابق.
تضمنت هذه التوصيات أيضًا مد مدة الخدمة العسكرية الإلزامية لمجموعات محددة من الذكور المطلوبين للخدمة العسكرية لتصبح عامًا واحدًا بدلًا من ستة أشهر، على أن يتم استدعاؤهم بعد ذلك على مراحل لمزيد من التدريبات العسكرية على فترات متباعدة. هذه الاستراتيجية وفرت لهلسنكي القدرة على تدريب ما يقرب من 22 ألف جندي سنويًا.
اتخذت فنلندا عامي 2015 و2016 إجراءات إضافية لتسريع عملية التعبئة ورفع مستوى الاستعداد القتالي لقواتها البرية، وشملت هذه الإجراءات تحديث قاعدة البيانات الخاصة بجميع جنود الاحتياط المتاحين، والبالغ عددهم نحو 900 ألف جندي. وهي قوة احتياط تعد من أكبر القوى في أوروبا. فيعد حجم قوة الاحتياط، أحد نقاط القوة الأساسية للجيش الفنلندي، علمًا أن دولًا أخرى مثل النرويج رغم امتلاكها عدد سكان مماثل لفنلندا، إلا أن قواتها العاملة والاحتياطية مجتمعة لا تتجاوز 65 ألف جندي فقط، في حين تمتلك فنلندا حاليًا قوة عاملة تقدر بـ 12 ألف جندي، يمكن زيادتهم في حالة الحرب إلى 280 ألف جندي، يضاف إليهم 900 ألف جندي احتياطي يمكن حشدهم في حالة إعلان التعبئة العامة.
تكتيك التعبئة العامة الفنلندي يعتمد على عقيدة “الدفاع الشامل”، أي مشاركة جميع هياكل الدولة والمواطنين في المجهود الحربي، وقد كان حجم المخصصات المالية الخاصة بالإنفاق العسكري، خاصة في فترة ما بعد عام 2014، عائقًا أمام تنفيذ هذا التكتيك بشكل كامل، فقد بلغ حجم هذه المخصصات خلال السنوات الأخيرة نحو 2.8 مليار يورو، أي ما نسبته 1.3 بالمائة من الناتج المحلي القومي، لكن وضعت الحكومة الفنلندية عام 2017 خطة لزيادة هذه المخصصات إلى نحو 2 بالمائة من الناتج القومي، وهو ما تم فعليًا في أبريل الماضي، حين تم زيادة هذه المخصصات بأكثر من ملياري يورو، لتتجاوز سبعة مليارات يورو سنويًا، مقارنة بالموازنة الدفاعية للعام الحالي التي تقدر بخمسة مليارات يورو.
على مستوى التسليح، سنتطرق إلى نقاط القوة التي من الممكن أن تشكل إضافة لحلف الناتو، ويمكن في هذا الصدد القول إن وحدات المدفعية والمدفعية الصاروخية تعد من أهم نقاط قوة الجيش الفنلندي، نظرًا لأنها تعد من أكبر القوى المدفعية في أوروبا كلها، بعدد مدافع يتراوح بين 800 و1000 مدفع، تتضمن 650 مدفع هاوتزر وهاون مقطور، بجانب عدد من راجمات الصواريخ ومدافع الهاوتزر ذاتية الحركة، بما في ذلك نحو 40 مدفع كوري جنوبي من نوع “كي-9″، والذي يعد من أفضل انواع المدفعية ذاتية الحركة على مستوى العالم. تتميز وحدات المدفعية الفنلندية كذلك بامتلاكها مجموعة من الذخائر المتطورة، بما في ذلك قذائف “بونوس” السويدية الصنع المضادة للدبابات.
على مستوى القوة الجوية، تمتلك هلسنكي نحو 160 طائرة في سلاحها الجوي، لا تتضمن مروحيات قتالية، لكن تضم 55 طائرة مقاتلة من نوع “إف-18″؟ لكن نظرًا لتقادم هذه المقاتلات وقرب خروجها من الخدمة عام 2025، شرعت فنلندا منذ عام 2015 في البحث عن مقاتلات بديلة، وقد اختارت بالفعل في ديسمبر الماضي شراء 64 مقاتلة أمريكية من الجيل الخامس، من نوع “إف-35″، في صفقة تصل قيمتها إلى نحو 15 مليار دولار، ستشمل أيضًا التزود بذخائر جوية، وربما أعداد من النسخة الأحدث من مقاتلات “أف-18″، بما في ذلك نسخة الحرب الإلكترونية “أي أيه-18 جي”. دخول هذا العدد من المقاتلات الحديثة إلى سلاح الجو الفنلندي خلال السنوات القادمة سينقله نقلة كبيرة تجعله إضافة جيدة لحلف الناتو.
بحريًا، تتكون البحرية الفنلندية من قرابة 250 قطعة بحرية، لكن جوهر هذه القوة هو ثمانية زوارق صاروخية سريعة، وثمانية عشر سفينة لكسح الألغام. هذه القوة البحرية الصغيرة، ملائمة لطبيعة الساحل الفنلندي، وللمهام الأساسية المطلوبة منها، والتي تتلخص في عمليات المراقبة الساحلية وعمليات مكافحة الغواصات، وقد حدث عدة مرات وأن استخدمت الوحدات البحرية الفنلندية قذائف الأعماق لاستهداف ما يعتقد أنه غواصات روسية تتحرك قرب الساحل الفنلندي.
تفتقر هذه القوة للغواصات والفرقاطات الثقيلة سواء المخصصة لعمليات مكافحة الغواصات أو فرقاطات الدفاع الجوي، لكن توفر القوة الحالية القدرة لحلف الناتو كي يراقب عن كثب التحركات الروسية بين ميناء سان بطرسبرج وقاعدة أسطول بحر البلطيق في إقليم كالينجراد، وكذلك التحركات في مياه القطب الشمالي. وتنص خطة التسليح الفنلندية التي أعلنت عام 2019 وتستمر حتى عام 2031 على شراء فرقاطات ثقيلة.
يتوقع أن توقع فنلندا في القريب العاجل، مجموعة من العقود التسليحية الجديدة، فقد تم تخصيص نحو 1.74 مليار يورو لشراء منظومات جديدة مضادة للدبابات وأنظمة صاروخية متنوعة، بجانب أنظمة للدفاع الجوي وطائرات للمراقبة الحدودية، وقد بدأت فنلندا بالفعل في التواصل مع بعض الدول -مثل إسرائيل- لتحديث دفاعاتها الجوية، ناهيك عن دخولها في مباحثات للتعاون الدفاعي مع دول أخرى مثل المملكة المتحدة.
خلاصة القول، إن منبع أهمية فنلندا بالنسبة للناتو هو الموقع الجغرافي المهم، والذي يضم حدودًا مشتركة يبلغ طولها 1300 كيلو متر، وإطلالة على ممر بحري أساسي لروسيا، ومرتكزًا مهمًا من مرتكزات ساحة “القطب الشمالي” إحدى الساحات التي يتوقع تسخينها خلال السنوات المقبلة.
قوة الاحتياط الفنلندية، والقدرات الخاصة بسلاح المدفعية، والإضافات المستقبلية التي ستطرأ على سلاحي الجو والبحر؛ يجوز عدّها من القيم المضافة التي يمكن أن تفيد حلف الناتو، لكن يبقى وضع الجيش الفنلندي على المستوى التسليحي أقل بكثير مما يمكن أن نعده إضافة نوعية للحلف؛ في ظل افتقاره القدرات الصاروخية الباليستية، والفرقاطات المتخصصة، والغواصات الهجومية، والمروحيات القتالية، والأعداد الكافية من الدبابات. لذا إلى أن يتم ملء الفراغات الكبيرة في هذا التسليح، ستبقى الميزة الأساسية لفنلندا في معادلة حلف الناتو هي موقعها الجغرافي وأهميتها الجيوسياسية، فهل يكون الوضع نفسه بالنسبة للسويد؟ هذا ما سنعرفه في الجزء الثاني من هذا البحث.
مصادر
.
رابط المصدر: