“دروز” الجولان في الحسابات الإسرائيلية.. أداة ضغط أم لتوسيع النفوذ؟

بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا في 8 ديسمبر 2024، توغلت القوات الإسرائيلية في الجنوب السوري، متجاوزة بذلك المنطقة العازلة الفاصلة ما بين الجولان المحتل وباقي الأراضي السورية، تحت ستار حماية الأقلية “الدرزية” من النظام السوري الجديد من ناحية، وحماية أمنها الحدودي من ناحية أخرى. وبالتزامن مع توسيع رقعة الاحتلال الإسرائيلي؛ قدمت إسرائيل المساعدات الإنسانية للدروز، بل وعملت على إطلاق برنامجًا تدريبيًا من شأنه أن يسمح لدروز سوريا بالعمل في البلدات الإسرائيلية في الجولان، فضلًا عن أنه، وللمرة الأولى منذ 50 عامًا، سمحت إسرائيل لوفد من رجال دين دروز سوريين بزيارة قبر “النبي شعيب” في بلدة جولس، بالقرب من طبريا في الجليل الأسفل في الداخل. وهو ما يثير تساؤلات حول الهدف من التحركات الإسرائيلية العسكرية والسياسية الأخيرة، في ظل وجود مؤشرات متزايدة على محاولات إسرائيل المتكررة لاستمالة واستقطاب دروز سوريا، وهو ما ستناقشه السطور القادمة.

تختلف علاقة دروز الجولان بإسرائيل عن علاقة دروز الداخل الإسرائيلي، حيث لا تتسم بنفس مستوى التوافق والاندماج، لكنها في الوقت ذاته لا تشهد توترات كبيرة في المرحلة الحالية. فقد مرت العلاقة بين إسرائيل والطائفة الدرزية بتقلبات تراوحت بين التوافق الحذر والتوتر، وغالبًا ما سعت تل أبيب إلى استمالتهم وتوظيفهم بما يخدم مصالحها الأمنية والسياسية.[1]

كما أنه منذ اعتراف إسرائيل بالدروز رسميًا في عام 1957 في مناطق مثل الجليل والكرمل في الداخل، انضموا للخدمة العسكرية ومُنحوا الجنسية الإسرائيلية. وذلك على عكس دروز سوريا، فمنذ احتلال الجولان في 1967 رفضوا الاندماج في إسرائيل والحصول على جنسيتها وفضلوا الاحتفاظ بالجنسية السورية. في المقابل قدمت إسرائيل العديد من الاستثناءات لهم، حيث ظلوا في مناطقهم بينما هُجّر معظم المواطنين السوريين من الجولان. ويظهر ذلك أيضًا من خلال الإحصائيات التي تعكس وجود أعداد كبيرة من الدروز في قرى مجدل شمس وبقعاتا ومسعدة، في محاولة لكسبهم، لكن بقي موقف الطائفة الدرزية غالبًا حذرًا. [2]

بعد يومين فقط من أحداث السابع من أكتوبر 2023، بدأت إسرائيل في الإشارة من خلال تصريحات مسؤوليها إلى النية في “تغير وجه الشرق الأوسط”. وظهر ذلك جليًا في خطاب لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ألقاه أمام الجنود المتخرجين من دورة ضباط القوات البرية في الجيش الإسرائيلي في 24 فبراير 2025، وبالحديث عن سوريا بشكل خاص أكد أن إسرائيل لن تسمح للجيش السوري الجديد أو المحور الذي أدى إلى سقوط الرئيس السابق بشار الأسد “بدخول المنطقة الواقعة جنوب دمشق”، كما تم الإشارة إلى بسط مظلة الحماية الإسرائيلية على الدروز في المنطقة السورية القريبة من الحدود، بدعوى أن الدروز في هذا المنطقة عانوا من عدم الاستقرار والتعرض للإرهاب المتكرر بما في ذلك الإشارة لمجزة السويداء عام 2018. [3]

وقد عُدت مثل هذه التصريحات مؤشرات قوية على أن وجهة التوسع الإسرائيلي تتجه نحو سوريا، وقد وجدت إسرائيل في سقوط نظام بشار الأسد فرصتها لبسط سيطرتها على الجنوب السوري، حيث سارعت إسرائيل إلى استغلال حالة الفراغ الأمني، والتحوّل المفاجئ في السلطة داخل سوريا لتحقيق استراتيجيتها المرتكزة على أربعة محاور بهدف تعزيز نفوذها وتوسيع المساحات التي تسيطر عليها خاصة المناطق المحيطة بالجولان السوري المحتل.

وتمثلت محاور الاستراتيجية الإسرائيلية عسكريًا وأمنيًا في: السيطرة على المنطقة العازلة بين الأراضي السورية وإسرائيل، والتوغل داخل الأراضي السورية خارج حدود المنطقة العازلة، وتعزيز وجودها العسكري عبر إنشاء قواعد ونقاط عسكرية في المناطق الجديدة التي سيطرت عليها، وفرض ما أسمته “حزامًا أمنيًا” يضمن عدم وجود تهديدات أمنية لإسرائيل، بما في ذلك أيضًا إنشاء 9 قواعد عسكرية، 7 منها تقع داخل المنطقة العازلة.

وبقراءة هذه التوغلات العسكرية الأخيرة، يمكن استنباط أن زيف ما تدعيه إسرائيل من أن السيطرة التي فرضتها على الأراضي السورية مؤقتة، بل أنها تنوي البقاء لمدد أطول، ويستدل على ذلك أيضًا من خلال تصريح لوزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس في زيارة له لجبل الشيخ في 11 مارس 2025، حيث تحدّث عن أن رؤية إسرائيل للمنطقة الأمنية التي تسعى إلى فرضها في سوريا مقسمة إلى شقين؛ الأول المنطقة العازلة التي سيطرت عليها إسرائيل منذ 8 ديسمبر والتي يقطنها 40 ألفًا والتي نشرت بها أغلبية القواعد العسكرية، والثاني؛ المنطقة الممتدة إلى مسافة 15 كيلومترًا داخل الأراضي السورية انطلاقًا من السياج الحدودي، وتمنع إسرائيل دخول أفراد من الجيش السوري إليها. فضلًا عن وجود منطقة أخرى ثالثة يطلق عليها “منطقة نفوذ” وتشير الصحف الإسرائيلية إلى أن هذه المنطقة تنوي إسرائيل إلى تحويلها لأمر واقع وستكون لها ترتيبات أمنية مختلفة، منها منع انتشار الجيش السوري.

بالتالي يمكن القول إن التحركات العسكرية السابقة جميعها لا تتضمن أهدافًا متعلقة بالدروز كما تدعي إسرائيل، بل هي بشكل واضح تهدف إلى إعادة تشكيل الخريطة الأمنية والسياسية للأراضي السورية بما يخدم مصالح تل أبيب، كما يعكس أيضًا استغلال إسرائيل عدم استقرار الوضع في سوريا في الوقت الحالي، ويحول المجتمع الدرزي من مكون مجتمعي إلى ورقة ضغط، مستخدمًا المساعدات الاقتصادية والتوظيف السياسي لكسب ولائهم. ويعتبر هذا التوجه لا ينفصل عن سياسية “الأحزمة الأمنية” التي تستخدمها إسرائيل، حيث تحاول استغلال فراغ أمنيًا داخلي لصالحها.

لدى إسرائيل تاريخ طويل في استخدام الأقليات لتحقيق مصالحها الأمنية والسياسية، مثلما دعمت استقلال إقليم كردستان العراق من قبل، وأيضًا إعلانها مرارًا وتكررًا دعمها إنشاء كيان درزي مستقل في سوريا، ويمكن الإشارة إلى دوافعها من خلال ما يلي:

تشكيل حاجز طبيعي بين إسرائيل ودمشق: ويستدل على ذلك من تصريح القيادي في حزب الليكود أيوب قرأ، الذي أقر بأن الدروز في جنوب سوريا يشكلون حاجزًا أمنيًا، كما أشار إلى أنه من ضمن الخيارات المتاحة أمام إسرائيل الضغط على جميع الدول المؤثرة على سوريا للحصول على حكم ذاتي يكون حليفًا لإسرائيل، لكنه يبقى تحت المظلات السورية. وبالتالي يمكن القول إن إسرائيل تخطط لإنشاء كيان درزي داخل سوريا، يشكل حاجزًا طبيعيًا يفصلها عن دمشق، ويفترض أن يكون هذا الكيان من أفراد يعملون لدى إسرائيل، مما يمنع أي جهة من التوجه نحو مستوطناتها في الجولان.[4]

تحقيق مخطط التجزئة الإقليمي: تدعم إسرائيل إنشاء كيان درزي في المنطقة، وهو ما يتوافق بالأساس مع مخططات التجزئة التي تعمل عليها، بما في ذلك استراتيجيتها العامة في تفتيت الدول المجاورة إلى كيانات صغيرة وضعيفة، ما يسهل السيطرة عليها ويفقدها القدرة على تشكيل تهديد مستقبلي.

تأمين حدودها الغربية من الإدارة الجديدة ومن الجماعات المسلحة: على الرغم من أن إسرائيل لم تكن على وفاق مع نظام الأسد، إلا أن النظام الجديد في سوريا يشكل مهددًا أكبر بالنسبة لها، خاصة مع وجود غموض ودعم إقليمي ودولي وترحيب أممي به، مع وجود مخاوف إسرائيلية من تسلل جماعات إسلامية وجهادية إلى الجنوب السوري، وبالتالي تشكيل تهديد مباشر لها، وبالتالي من الممكن أن يشكل الدروز حاجزًا أمنيًا. [5]

احتواء المجتمع الدرزي واستمالته: سلطت صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية في تقرير لها الضوء على أن العديد من الشباب الدروز في المنطقة يعتبرون إسرائيل البلد الوحيد الذي يعرفونه، ويرون مستقبلهم فيها، وليس في سوريا، وبالتالي تسعى إسرائيل الآن إلى استغلال هذا الشعور، وتأمل في استخدام نجاح المجتمع الدرزي في إسرائيل لإقناع أقربائهم عبر الحدود في سوريا بأن جارهم يمثل قوة صديقة، خاصة في ظل الوضع غير المستقر في سوريا. .[6]

تدرك إسرائيل أن فكرة إنشاء كيان درزي مستقل، وإن بدت مطروحة لدى بعض الساسة الإسرائيليين، تواجه تحديات عملية، خاصة مع تفضيل معظم الدروز الحفاظ على علاقتهم بسوريا ضمن إطار لا مركزي بدلًا من الانفصال الكامل، مع الأخذ في الاعتبار أيضًا أنه وأن كان هنا بعض الدروز يدعمون التعاون بشكل أوسع مع إسرائيل، إلا أن الأغلبية لا تزال تفضل تسوية مع دمشق. وهناك انقسامات كبيرة داخل المجتمع الدرزي حتى على المستوى القيادي فيما يتعلق بالموقف من إسرائيل والموقف من التعامل مع الإدارة السورية الجديدة. وفي حال استمر الشرخ داخل المجتمع الدرزي، فقد تستخدم تل أبيب هذا الانقسام لصالحها، لكن في حال اتحدت القيادة الدرزية حول موقف واضح، فقد يحد ذلك من قدرة إسرائيل على استغلال الطائفة كأداة استراتيجية.

ومن ثم يمكن القول إن التحركات الإسرائيلية الحالية سواء العسكرية أو من خلال استمالة بعض القيادات الدرزية قد تكون مقدمة لتدخل أوسع دون احتلال فعلي، حيث ومن المرجح أن تستمر إسرائيل في سياساتها القائمة على خلق مناطق نفوذ بشكل غير رسمي، حيث يكون لها تأثير أمنى وسياسي دون تحمل تكاليف إدارية، وهو نمط يسمح لها بفرض سياسات الأمر الواقع مع تقليل المخاطر التي تقع عليها بشكل مباشر، مع وجود احتماليات مرتفعة بوجود ردود فعل إقليمية رافضة. لكن وبالنظر إلى السياسية الإسرائيلية في قطاع غزة وفي الضفة الغربية، ومن قبل في الجنوب اللبناني، يبدو أن احتمالية استجابة إسرائيل لمثل هذه الضغوط الدولية والإقليمية ضئيل للغاية.

ويمكن القول أيضًا إن هناك عدة عوامل قد تؤثر في حدود هذا التوسع، أبرزها موقف الدروز أنفسهم، حيث إن انقسامهم الداخلي قد يخدم المصالح الإسرائيلية، في حين أن اتحادهم قد يحد من قدرتها على استغلالهم. إضافة إلى ذلك، فإن موقف الإدارة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع سيكون عاملًا رئيسًا، فهل ستسعى إلى استعادة السيطرة على الجنوب بالقوة، أم ستعتمد سياسة الاحتواء. كما لا يمكن إغفال موقف الإدارة الأمريكية؛ إذ إن دعم واشنطن لمشروع كيان درزي من عدمه قد يكون عاملًا حاسمًا في رسم حدود التوسع الإسرائيلي في الجنوب السوري.

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M