اتفقت ردود الفعل الإسرائيلية في توصيفها للانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وعودة طالبان من جديد، على أنه سيترك آثاره الخطيرة على إسرائيل، صحيح أن أفغانستان بعيدة جداً عنها، لكن القرار الأمريكي بتقليص التدخل العسكري في الشرق الأوسط، والنتيجة “الوخيمة” في أفغانستان سينجم عنها الكثير من التغييرات على النظام الدولي والإقليمي الذي تعمل فيه إسرائيل.
تتمثل وجهة النظر الإسرائيلية في أن تفكك الوجود الأمريكي في المنطقة، وآخرها من أفغانستان، يمثل إشكالية لإسرائيل، التي ستواجه وحدها تحمل عبء التعامل مع الدول والقوى التي تهددها، بحسب تقدير الجنرال يعقوب عميدرور، رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي الأسبق.
يستند الإسرائيليون في هذه الفرضية على ادعاء بأن إسرائيل لم تقم ببناء قدرتها الهجومية بناء على شراكة أمريكية نشطة، رغم أن الولايات المتحدة تزودها بالوسائل القتالية والأسلحة، بما قد يسمح لها باستخدامها في ساحة المعركة، ومع ذلك فقد أصبحت إسرائيل الآن أكثر عزلة بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في تحمل عبء التعامل مع القوى العدوانية في الفضاء بشكل يومي، وهذا العبء الإضافي سيتطلب مقاربة إسرائيلية لبناء القوة، وقد يستدعي من إسرائيل بذل محاولات جدية لإقناع الولايات المتحدة بمساعدتها في هذا الجهد الإضافي، الذي ينبع في جزء كبير منه بسبب القرار الأمريكي لتقليص مشاركتها في المنطقة.
رغم تزايد الدعوات الإسرائيلية إثر الانسحاب الأمريكي من أفغانستان لتعزيز قوتها، واستخدامها قدر الإمكان لساعة المواجهة القادمة، لكن هذا الانسحاب قد يسفر في الوقت ذاته عن تعزيز موقف إسرائيل في عدد من المجالات، لعل أهمها أن تفهم دول المنطقة أن العلاقة المفتوحة معها ذات أهمية حقيقية لقدرتها على الدفاع عن نفسها، من خلال الاستخبارات والمساعدة الأمنية.
وقد أعاد مشهد الانسحاب الأمريكي من كابول ما شهدته سايغون الفيتنامية قبل عدة عقود، مما دفع بالإسرائيليين لوصف ذلك الانسحاب بـ “الهزيمة المأساوية” التي حاولت إدارة بايدن إخفاءها، رغم أنها ستلقي بظلال طويلة على مستقبل المنطقة، ومنها إسرائيل، التي تبدو مطالبة باستخلاص جملة من الدروس الدراماتيكية، وفقا لما ذكره الجنرال عيران ليرمان نائب رئيس معهد القدس للاستراتيجية والأمن.
عند الحديث عن تأثير ما شهدته أفغانستان على إسرائيل عقب الانسحاب الأمريكي، ورغم أن أفغانستان ليست هنا، وإسرائيل لها جيش قوي، لكن عندما تعلن الولايات المتحدة أنها تنفصل عن الشرق الأوسط، فهذا ليس جيداً لإسرائيل، لأنها ستكون مطالبة بضمان أمنها بعد هذه الخطوة التاريخية، وأن تحافظ على خياراتها العسكرية المستقلة، على أن تكون الملاذ الأخير، بعد استنفاد العقوبات والدبلوماسية، تجاه القوى والدول التي تعاديها في المنطقة.
في ذات السياق، تعتقد المحافل الإسرائيلية أنه بعد الانسحاب الأمريكي “المتسرع” من أفغانستان، تحتاج إدارة الرئيس جو بايدن لاستعادة الثقة بحلفائها في المنطقة، وعلى رأسهم إسرائيل، المطالبة بالتأكيد على قدرتها بالحفاظ على المصالح الأمريكية في المنطقة، والمساعدة بتحقيق أهدافها، في فرضية طرحها الجنرال عاموس يادلين الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العسكرية- أمان.
على الصعيد الإقليمي، تعتبر إسرائيل أن الخروج الأمريكي “المخزي” من أفغانستان، سيجعل إيران تتمتع بحرية أكبر في العمل، ولن تتردد في تعزيز العلاقات مع الصين، ذات المصالح في أفغانستان والخليج العربي، عقب إشعال أحداث أفغانستان للأضواء الحمراء في العديد من عواصمها الحليفة في المنطقة.
إقليمياً أيضاً، ترى إسرائيل أن الأمريكيين يحتاجون الآن لاستعادة مصداقيتهم كحلفاء موثوق بهم، ويصعب التوقع منهم ممارسة ضغوط كبيرة على “صديقتهم” إسرائيل، علاوة على ذلك، وبعكس الحلفاء الآخرين، لا تحتاج إسرائيل لقوات أمريكية للدفاع عنها، فضلا عن أهمية عدم نسيان قوة اللوبي اليهودي القوي في الولايات المتحدة، في الإبقاء على التحالف الأمريكي الإسرائيلي في ذروته رغم هذه الهزات، التي تتوجت بما وصفته أوساط إسرائيلية “الهروب” من كابول.
تعتقد أوساط صنع القرار الإسرائيلي، لاسيما أفرايم عنبار مؤسس معهد بيغن-السادات للأبحاث الاستراتيجية، أن انسحاب الأميركيين من معظم معاقلهم في الشرق الأوسط، وآخرها من أفغانستان، قد يدفع دول المنطقة للاقتراب من إسرائيل، وفي هذه الحالة يجب أن تشجع إدارة بايدن هذا الاتجاه بموجب الاتفاقات الإبراهيمية للتطبيع لتعزيز الاستقرار الإقليمي، رغم أن هذه الاتفاقات تُنسب إلى إدارة ترامب، وفي هذه الحالة تبدو إسرائيل مدعوة لإقناع واشنطن بأن بديل هذه الاتفاقيات هو اقتراب العرب من إيران، لذلك يبدو مرغوباً من إسرائيل أن تسعى عند حديثها عن الصورة العامة للشرق الأوسط بعد الانفصال الأمريكي التدريجي عنه أن تظهر نفسها للعرب “المعتدلين” بأنها حليف قادر على العمل بشكل مستقل.
إن التقييم الإسرائيلي للدور الأمريكي في المنطقة بعد الانسحابات الأخيرة المتكررة، وآخرها من أفغانستان، يرى أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على الاعتماد على تركيا أو الدول العربية لاستخدام أراضيها بشكل طارئ من قبل قواتها، في حين أن نظرة شاملة على المنطقة بعد تقليص التواجد الأمريكي منها تضع إسرائيل في وضع أفضل على خارطة مصالح واشنطن.
لقد أثار خروج الولايات المتحدة من أفغانستان، والاستيلاء السريع لحركة طالبان، مخاوف إسرائيلية بشأن سيناريو مماثل يحدث في الضفة الغربية المحتلة، على اعتبار أن الأحداث التي صاحبت الانسحاب الأمريكي من هناك، ساهمت في تشكيل حالة جديدة من الوعي على الساحة الدولية، باعتبار ما حصل تعبير عن ضعف أمريكي، وفي الوقت ذاته تشكيل سردي لقوة “الصبر” الاستراتيجي التي انتهجتها طالبان، وصلاحية صمود العناصر الجهادية، وتصميمها، وقد ثبت بالفعل أن هذه الرواية مصدر إلهام لحركة حماس في الساحة الفلسطينية، وفقا لما ذكرته عنات كورتس خبيرة الشئون الدولية في معهد دراسات الأمن القومي بجامعة تل أبيب.
وفي ظل هذه الخلفية يبدو السؤال الإسرائيلي مطروحا: هل ما حدث في أفغانستان يحمل سيناريو يتوقع حدوثه في الساحة الفلسطينية، خاصة إذا أخلت إسرائيل مناطق في الضفة الغربية كجزء من اتفاق مع الفلسطينيين، مع العلم أنه يمكن الافتراض أن ذلك الإخلاء، سيؤدي، على الأقل في المدى القريب، إلى عدم الاستقرار في الساحة الفلسطينية، وسيحث حماس بالتأكيد على محاولة توسيع نفوذها في أراضيها.
هنا يقارن الإسرائيليون بين الاختلاف في الانسحابين، الأمريكي من أفغانستان، والإسرائيلي من الضفة الغربية، في حال تم فعلاً، صحيح أن الأول تسبب بإحراج الدوائر الحكومية في الولايات المتحدة، لكن دون خروج مظاهرات في الساحة الأمريكية تؤيد الانسحاب أو تعارضه، أما في إسرائيل، فيمكن الافتراض أن الإخلاء المتوقع من الأراضي الفلسطينية، سيثير ضجة كبيرة في إسرائيل، ولذلك هناك حاجة لقدر كبير من التصميم السياسي على تنفيذ قرارات إخلاء الجيش والمستوطنين من الضفة الغربية.
تستخلص المحافل الأمنية والعسكرية الدروس الأمريكية من الانسحاب من أفغانستان في حالة اتخاذ قرار بالإخلاء من الضفة الغربية، أو أي من أجزائها، خشية تكرار لمشهد ذلك الانسحاب المتزامن مع انهيار مريع للقوات الأفغانية المقدرة بثلاثمائة ألف جندي خضعوا للتدريب والتأهيل مدة عشرين عاما، وهنا ترصد إسرائيل مدى صلاحية الاعتماد على قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية.
يسود افتراض إسرائيلي مفاده صعوبة تقدير أن السلطة الفلسطينية ستصمد في اليوم التالي للانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية، مما يدفع إسرائيل للادعاء بأن أحداث أفغانستان تعطي صلاحية لفرضيتها بأن أي ترتيبات تشمل الإخلاء في الضفة الغربية سيتم الحفاظ على حرية عمل الجيش الإسرائيلي فيها، إذا لزم الأمر، خشية سيطرة حماس عليها، كما سيطرت طالبان على كابول بسرعة لافتة.
.
رابط المصدر: