أصدرت الولايات المتحدة والعراق بيانًا مشتركًا يوم 27 سبتمبر 2024 أعلنتا فيه الاتفاق على إنهاء المهمة العسكرية للتحالف الدولي في العراق خلال الـ 12 شهرًا المقبلة، وفي موعد لا يتجاوز نهاية سبتمبر 2025، والانتقال إلى شراكات أمنية ثنائية بشكل يدعم القوات العراقية ويحافظ على الضغط على داعش. على أن تستمر المهمة العسكرية للتحالف العاملة في سوريا حتى سبتمبر 2026. وهو الاتفاق الذي جاء بعد نحو تسعة أشهر من المشاورات بين الطرفين، وبعدما تم تأجيل الإعلان عن إنهاء مهمة التحالف في منتصف أغسطس الماضي.
ويأتي هذا الاتفاق في سياق سياسي وعسكري مضطرب، حيث تستمر الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وتستمر أنشطة تنظيم داعش على الحدود العراقية السورية، واستهداف القوات الأمريكية في العراق وسوريا، وخروج الرئيس الأمريكي “جو بايدن” من السباق الرئاسي، وهو ما يدفعنا للتساؤل حول دلالات موافقة الولايات المتحدة على انسحاب قوات التحالف الدولي من بغداد بعد 10 سنوات.
دلالات عدة
مصداقية الخطوة الأمريكية: يتزامن الاتفاق العراقي-الأمريكي على انسحاب قوات التحالف الدولي من العراق مع موعد اقتراب الانتخابات الأمريكية، مما يدفعنا للتساؤل حول مصداقية واشنطن، خاصة وأن المباحثات بين العراق والولايات المتحدة تعد جزءًا من جهود إدارة “بايدن” لإعادة النظر حول الالتزامات الأمريكية طويلة الأمد في الخارج قبل مغادرته البيت الأبيض في يناير المقبل؛ لأنه تقليديًا يتم الاعتماد على تقليص الوجود الأمريكي في الخارج كورقة انتخابية، مع تطلع العديد من الناخبين الأمريكيين لهذا الهدف والتركيز على القضايا الداخلية بشكل أكبر.
وطوال الفترة الماضية أكدت الولايات المتحدة رغبتها في البقاء في العراق للتأكد من عدم عودة “تنظيم الدولة الإسلامية”، لا سيما أن القوات العراقية غير مستعدة بشكل كاف لمكافحة تهديد “داعش”. بالإضافة إلى ذلك، أكد رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني والرئيس الأمريكي جو بايدن خلال زيارة الأول إلى واشنطن في أبريل 2024 أنهما سيناقشان كيفية الانتقال بطريقة منظمة إلى “شراكات أمنية ثنائية دائمة”، وفقًا للدستور العراقي واتفاقية الإطار الاستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة، التي تحتم على الأخيرة حماية النظام الديمقراطي والسياسي في العراق، وهو ما قد يؤدي في نهاية الأمر إلى بقاء بعض القوات الأمريكية في البلاد.
مصالح أمريكية: إن الحفاظ على الوجود العسكري الأمريكي في العراق من شأنه أن يدعم الأهداف الأمنية الأمريكية في المنطقة، حيث محاصرة إيران عسكريًا وسياسيًا، لأن انسحاب القوات الأمريكية قد يعني تمدد النفوذ الإيراني، وهو ما تتخوف منه واشنطن لا سيما أن العراق يعتمد على إيران كمصدر للطاقة، وأن طهران لديها ميلشيات موالية لها منتشرة في بغداد وتقوض إرادة الحكومة العراقية، هذا إلى جانب رغبة الولايات المتحدة في تقويض التمدد الإيراني في المنطقة كأحد استحقاقات عودة واشنطن إلى مفاوضات الاتفاق النووي مع طهران.
علاوة على ذلك، يشكل موقع العراق المجاور منطقة استراتيجية مهمة للولايات المتحدة، حيث تربط بغداد ما بين دول الخليج وتركيا وتتشارك في الحدود مع إيران وسوريا، مما يحد من امتداد روسيا والصين في منطقة الشرق الأوسط من ناحية، ويؤمن الجبهة الشرقية لإسرائيل من ناحية أخرى؛ ففي أبريل الماضي، أسقطت واشنطن العدد الأكبر من الطائرات المسيرة والصواريخ القادمة من طهران تجاه إسرائيل إبان الرد الإيراني على قصف إسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق. هذا بالإضافة إلى أنه من غير المتوقع أن تكف الميلشيات العراقية الموالية لإيران عن استهداف إسرائيل طالما لم يتم التوصل اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة والوصول إلى حالة من الاستقرار المستدام هناك، وهو ما يتطلب دعمًا وتنسيقًا من قبل القوات الأمريكية في العراق. ولهذا كله يمكن النظر إلى إرجاء إنهاء المهمة العسكرية للتحالف في سوريا إلى سبتمبر 2026 وليس بالتزامن مع إنهاء مهمة التحالف في العراق.
تعزيز موقف الحكومة العراقية: أثارت الضربات الأمريكية على أهداف إيرانية في العراق وسوريا في فبراير الماضي رد فعل قوي في العراق، فقد وصفت الحكومة العراقية العمليات الأمريكية بأنها “عمل عدواني ضد سيادة العراق وتُعرض الأمن والاستقرار في العراق للخطر”، ووصف رئيس الوزراء العراقي عناصر الحشد الشعبي بأنهم شهداء، كما زار رجال الميليشيات الجرحى في المستشفى، وأعلن الحداد لمدة ثلاثة أيام.
وفي الوقت نفسه، قال الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية اللواء “يحيى رسول” أن الهجمات الأمريكية “سترغم الحكومة العراقية على إنهاء مهمة التحالف الدولي الذي يهدد بجر العراق إلى دائرة الصراع”، وهو ما حدث بالفعل، حيث حيث قال السوداني إن العراق طالب من الولايات المتحدة إنهاء مهمة التحالف الدولي في بغداد، كما أوضح لاحقًا “إن القوات الأمريكية أصبحت عامل جذب لعدم الاستقرار، إذ يجري استهدافها على نحو متكرر وعادة ما ترد بهجمات دون تنسيق مع الحكومة العراقية”.
وبناء على ما تقدم، من المرجح أن يمثل الاتفاق على انسحاب قوات التحالف الدولي فوزًا سياسيًا لرئيس الوزراء العراقي، لأنه من ناحية يبين نجاح “السوداني” في إنهاء مهمة التحالف عقب10 سنوات، ومن ناحية أخرى يوازن بين موقف العراق كحليف لكل من الولايات المتحدة وإيران.
الفصائل العراقية: يعد إنهاء وجود القوات الأجنبية في العراق ومنها القوات الأمريكية وقوات التحالف الدولي هدفًا أساسيًا من أهداف الفصائل المسلحة في العراق وأذرعها السياسية، بما أفضى إلى استصدار قرار من مجلس النواب العراقي في 5 يناير 2020 بإنهاء الوجود الأجنبي في العراق وإلزام الحكومة بإلغاء طلب المساعدة من التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش. ولذلك كثفت الفصائل العراقية ضرباتها ضد المصالح الأمريكية في العراق خلال السنوات الماضية، وخاصة على هامش الحرب الإسرائيلية على غزة.
وسبق وأن أدى القصف المتكرر لقاعدة “بلد الجوية”، التي تقع في شمال بغداد ويعمل بها موظفون من شركة “مارتن لوكهيد”، المتخصصة في صيانة الطائرات والمتعاقدة مع الحكومة العراقية لتدريب الكوادر المحلية ولتهيئة الطائرات لتنفيذ الطلعات الجوية، إلى إجبار الشركة على مغادرة البلاد في عام 2021، مما ترك مصير الطائرات العراقية مجهولًا، حيث تعطلت أغلب الطلعات الجوية، لا سيما أن بغداد كانت تعتمد عليها في قصف “داعش” في المناطق النائية والجبلية.
وبناء على ذلك، من المرجح أن تراقب الفصائل العراقية المسلحة هذا الاتفاق وتنفيذه عن كثب، لا سيّما وأنه يمثل في حد ذاته تحقيقًا لأحد أهم أهدافهم ويسهم في توسيع نفوذهم في العراق إلى حد كبير. ومن غير المستبعد أن تستأنف هذه الفصائل ضرباتها التي تستهدف المصالح الأجنبية في العراق للضغط بشكل أكبر لإنهاء الوجود الأجنبي بالبلاد.
تأثيرات محتملة على جهود مكافحة الإرهاب: قال رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، في 17 سبتمبر الجاري، إنه “لم يعد هناك حاجة لوجود القوات الأمريكية في العراق، بعدما نجحت في هزيمة تنظيم “داعش” وإن بلاده لديها القدرة على التعامل مع العناصر المتبقية من التنظيم الإرهابي”. بيد أن عدد العمليات العسكرية المشتركة وصلت إلى أكثر من 137 عملية، وهذا العدد من العمليات دليل على أن العراق لا يزال بحاجة إلى الدعم العسكري الأمريكي. وجرت آخر عملية مشتركة في 15 أغسطس الماضي، وأدت إلى مقتل15 عنصرًا في التنظيم للحد من قدرته على تنفيذ هجمات ضد مدنيين في العراق وكذلك ضد المواطنين الأمريكيين والحلفاء في كل أنحاء المنطقة.
وقد أوضح ذلك أن المشاركة الأمريكية دورها مهم جدًا في دعم العراق لمواجهة خطر “تنظيم الدولة الإسلامية”، لا سيما أن القيادة المركزية الأمريكية “سنتكوم” أعلنت عبر منصة “إكس” في يوليو الماضي، “في الفترة من يناير إلى يونيو 2024، تبنى تنظيم “داعش” 153 هجومًا في العراق وسوريا، وبهذا المعدل، فإن “داعش” في طريقه إلى الوصول الى ضعف العدد الإجمالي للهجمات التي أعلن مسؤوليته عنها في عام 2023، وتشير الزيادة في الهجمات إلى أن التنظيم يحاول إعادة تشكيل نفسه بعد عدة سنوات من انخفاض قدراته.”
ختامًا، اتفقت الحكومة العراقية والإدارة الأمريكية على انسحاب قوات التحالف الدولي من العراق في سبتمبر 2025، وخلال هذه الفترة قد تتغير الظروف الميدانية لا سيما مع تزايد حِدة الاستقطاب الذي تشهده المنطقة ومع إعادة تموضع “داعش” في المنطقة، الأمر الذي قد يدفع قوات التحالف الدولي إلى إعادة جدولة الانسحاب من بغداد.
وفي حال انسحاب قوات التحالف من العراق، قد يحدث مزيد من الانقسامات داخل العراق، خاصةً مع تخوف الأكراد العراقيين على وجه الخصوص من أن يؤدي الانسحاب إلى تعاظم نفوذ الفصائل المسلحة الموالية لإيران وهو ما يؤدي إلى تداعيات سلبية على إقليم كردستان ويضعف موقفه في القضايا الخلافية مع بغداد. هذا إلى جانب احتمالية استغلال حالة الفراغ الأمني من قِبل “داعش”، حيث توسيع التنظيم لنشاطاته، مع وجود مؤشرات على عدم كفاءة استخدام القدرات العسكرية للدولة العراقية في مكافحة الإرهاب بالشكل الأمثل.