أجرى رئيس الوزراء الإسباني “بيدرو سانشيز” زيارة مهمة إلى المملكة المغربية يوم 1 فبراير 2023 للمشاركة في اجتماع وزاري ثنائي؛ تكريسًا للشراكة الاستراتيجية بينهما. وجاءت الزيارة في ظل انفراجة دبلوماسية في العلاقات بين البلدين في مقابل تزايد التوتر بين مدريد والجزائر، ولعل هذه الزيارة تأتي في ضوء مساعي إسبانيا وكذلك الحال بالنسبة للمغرب في تصويب مسار العلاقات بين الجانبين، وكان رئيس الحكومة الإسبانية سبق وأن زار المغرب في الثامن من أبريل 2022.
هذا التقارب من شأنه أن يرسخ لمرحلة جديدة وفارقة في العلاقات الثنائية بين البلدين، ويرسم خارطة طريق للعلاقات السياسية والأمنية والاقتصادية، وبما يُعيد الهدوء مرة أخرى بين البلدين، خاصة وأن البلدين تجمعهما جملة من المصالح المتبادلة، عقب حالة تدهور على ضوء استضافة إسبانيا للأمين العام لجبهة البوليساريو “إبراهيم غالي” لدواعٍ إنسانية وتلقي العلاج والرعاية الصحية اللازمة على خلفية إصابته بفيروس كورونا في الثاني والعشرين من أبريل 2021.
دلالات وأهداف متباينة
تأتي زيارة رئيس وزراء إسبانيا في ضوء تفاقم الصراع الروسي الأوكراني وما أنتجه من تداعيات علي ملف الطاقة، الأمر الذي تطلب معه البحث عن الأسواق البديلة للغاز الروسي، وتجلى في دول شمال إفريقيا لبعدها الجغرافي المهم للدول الأوروبية، وهنا يمكن ملاحظة أن هناك محاور تُشكل في ضوء استراتيجية الاستقطاب الدولي داخل المغرب العربي.
ولعل تلك الزيارة تأتي في ضوء تفاقم الموقف الإسباني الجزائري، يقابله تقارب جزائري إيطاليا برزت معالمه في الزيارات المتبادلة بين رئيس وزراء إيطاليا السابق “ماريو دراجي” إلى الجزائر في الثامن عشر من يوليو 2022 ومن قبلها زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى إيطاليا في الخامس والعشرين من مايو 2022، ما يُمثل نهجًا جديدًا نحو سياسة تشكيل المحاور الجديدة التي برزت مؤخرًا في ضوء الأزمة الروسية الأوكرانية وما نتج عنها من تأزم ملف الطاقة عالميًا، الأمر الذي دفع إلى البحث عن شركات متعددة وسياسة محاور بديلة لتلك التقليدية التي اعتادت عليها الجزائر خلال الفترة الماضية.
وجاء التوتر الجزائري الإسباني على المستوى الدبلوماسي والسياسي وكذلك الاقتصادي على خلفية قرار الرئيس الجزائري “عبد المجيد تبون” تعليق اتفاقية الصداقة والجوار الموقعة مع مدريد عام 2002، وكذلك إيقاف الاستيراد والتصدير من وإلى إسبانيا. وهو ما دفع الجزائر إلى البحث عن شركاء كبديل استراتيجي وتجلى في إيطاليا من ناحية، مع تفاعل مرن مع روسيا، الأمر الذي حثّ إسبانيا على إعادة تقييم سياساتها تجاه المغرب مؤخرًا، والعمل على إعادة استئناف العلاقات الثنائية عقب حالة من التوتر؛ وذلك ضمانًا لها في معادلة الغاز المغاربي.
علاوة على ذلك الأمر؛ هناك رغبة متبادلة بين مدريد والرباط في تأمين الحدود المشتركة والتصدي للتهديدات المحتملة سواء أكانت على مستوى الإرهاب أو الهجرة غير الشرعية بالنسبة للأولى، خاصة بعدما تراجع تدفق المهاجرين غير النظاميين على إسبانيا بنسبة 25% في العام 2022 في ضوء استئناف التعاون الأمني بين البلدين في هذا المجال، والحفاظ على توازن وتعدد قاعدة شركائها عبر البحر المتوسط فيما يتعلق بالرباط، خاصة وأن هناك حالة من التوتر في العلاقات المغربية الفرنسية واتهام الطبقة السياسية والإعلامية بالمغرب لتحرك فرنسي لتبني البرلمان الأوروبي تقريرًا سلبيًا بشأن حقوق الإنسان في المغرب.
تقارب استراتيجي متسق
إن المتأمل لزيارة “سانشيز” إلى الرباط على رأس وفد مكون من12 وزيرًا والتوقيع على نحو 20 اتفاقية متعددة المجالات، يرى أن هناك خط تقارب يصل إلى مرحلة الشراكة الاستراتيجية بين البلدين يمكن إبراز مؤشراته في الآتي:
● دعم ملف حقوق الإنسان في الرباط: بالرغم من تبني البرلمان الأوروبي لقرار ينتقد فيه المغرب بشأن وضعية حقوق الإنسان في الرابع والعشرين من يناير 2023، وتصويت غالبية أعضاء البرلمان الأوروبي لصالح القرار، جاء الموقف الإسباني مغايرًا حيث اتسم موقف نواب الحزب الاشتراكي الإسباني بالبرلمان الأوروبي بالإيجابي وإعلان اعتراضهم الصريح على هذا التقرير.
● استراتيجية العمل الخارجي الإسباني: على مستوى آخر، فإن مؤشرات هذا التقارب الاستراتيجي برزت مضامينها فيما عكسته الاستراتيجية الإسبانية للعمل الخارجي (2021 -2024) الصادرة عن وزارة الخارجية مطلع عام 2021 والتي وضعت المغرب شريكًا لإسبانيا وأولوية في السياسة الخارجية لمدريد، وهو ما يتطلب انتهاج سياسات الحوار والتعاون بين الجانبين وتوسيعها لتشمل مجالات جديدة.
● التحول الاستراتيجي في ملف الصحراء: فقد ظهر نهج مغاير في تعاطي مدريد مع ملف الصحراء الغربية، برز في إعلان حكومة “بيدرو سانشيز” تأييدها لمبادرة الحكم الذاتي المغربية للصحراء وإطلاق تصريح يتضمن ”تعتبر المبادرة المغربية للحكم الذاتي، الأساس الأكثر جدية، واقعية ومصداقية لحل الخلاف حول الصحراء المغربية” وما تبعها من دعم مجلس النواب الإسباني لموقف الحكومة. ومن هذا فإن هناك حالة من الدعم الواسع داخل المؤسسات الدستورية الإسبانية والأحزاب السياسية الرئيسية للمقترح المغربي للحكم الذاتي.
● عودة وتفعيل اللجنة العليا المشتركة: والتي كانت قد توقفت في عام 2015 حيث انعقد حينها اجتماعها الأخير بمدريد، والعدول عن قرار الوقف للتفعيل والتنشيط مرة أخرى، بل وحققت تقدمًا غير مسبوق بالتوصل إلى مذكرة تفاهم استراتيجية شاملة مع إسبانيا تضمنت مجالات عمل متباينة.
وختامًا؛ تأتي زيارة رئيس الوزراء الإسباني للرباط في ظل سياق يتسم بالبراجماتية تحقيقًا للمصالح المتبادلة، ولعل أكثر الشواغل الإسبانية أهمية يكمن في ضمان الإمداد بالغاز مع تأمين حدودها الجنوبية من التهديدات النمطية (الهجرة غير الشرعية – ملف الإرهاب)، وجاءت على خلفية دعم مدريد لمبادرة الحكم الذاتي للصحراء الغربية. ولعل هذا النهج المستحدث يبرز ما باتت تُشكله الجزائر والمغرب من حلقات استقطاب أوروبي، وهو ما سيفاقم بصورة أو أخرى من حالة الاستقطاب الإقليمي، وسيؤثر بصورة غير مباشرة على استمرارية التصدع الجزائري المغربي.
.
رابط المصدر: