دعنا نبدأ المقال بسؤالٍ بسيط للغاية: هل يستطيع أي مبلغ من المال (100 جنيه مثلاً) اليوم، شراء ما كان يمكنه شراءه قبل سنتين؟ بالطبع لا! فقد ارتفعت تكلفة المعيشة وارتفع معها سعر كل شيء تقريبًا.
هذا الارتفاع العام والمستمر في مستوى الأسعار يطلق عليه الاقتصاديون اسما يكرهه الجميع؛التضخم.
فما هو التضخم؟ ما هي أسبابه؟ وكيف يقيسه الاقتصاديون؟
كيف يقيس الاقتصاديون التضخم؟
يُعرَّف التضخم بأنه ارتفاعٌ عام ومستمر في مستوى الأسعار، وليس ضروريًا أن ترتفع كل الأسعار بل من الممكن أن تنخفض بعضها حتى. لكن الاستثناء يؤكد القاعدة ولا ينفيها، فإذا ارتفعت 95% من الأسعار فأقل ما قد يشغل بال الناس هو بضع سلع انخفضت أسعارها.
إذن، ما أفضل طريقة لقياس ارتفاع المستوى العام للأسعار؟
هذه الأيام، وفي كل دول العالم، تقيس البنوك المركزية التضخم باستخدام مقياس يسمى: مؤشر أسعار المستهلك. وهي طريقة بسيطة جدًا من ثلاث مراحل:
أولًا: تختار مجموعة من السلع والخدمات الأساسية والضرورية لأغلب المستهلكين، نسمي هذه المجموعة بـ «سلة سلع السوق».
ولأن الناس ينفقون جزءًا أكبر في شراء الأغذية فمن الطبيعي أن تكون نسبتها في السلة أكبر من نسبة الملابس. وهكذا يتم اختيار مجموعة من السلع والخدمات بنسب مختلفة.[1]
مثال بسيط من دولة عربية (مصر) يُظهِر لنا أنواع السلع ونسبها في السلة التي يتم استخدامها في تحديد مؤشر أسعار المستهلك.
الجدول أ: الأوزان النسبية للسلع المكونة لمؤشر أسعار المستهلك في مصر.
ثانيًا: نحدد سعر كل سلعة من السلع ثم نحدد قيمة المؤشر بطرق إحصائية معينة.
ثالثًا: يكون معدل التضخم هو معدل تغير مؤشر أسعار المستهلك. فلو كانت قيمة المؤشر سنة 2016 هي 200 لتنتقل في سنة 2017 إلى 210 فإن نسبة التضخم هي:
معدل التضخم = (مؤشر أسعار المستهلك 2017 – مؤشر أسعار المستهلك 2016) / مؤشر أسعار المستهلك 2016 = (210 – 200) / 200 = 0.05 = 5%
طريقة بسيطة، أليس كذلك؟[2]
وبعد أن عرفت كيفية حساب معدل التضخم؛ حان الوقت كي تلم بأسبابه.
ما هي أسباب التضخم؟
السبب الأول: اختلالات العرض والطلب
لنتفق في البداية على مبدأين بسيطين:
- المبدأ الأول: أنه كلما زاد الطلب على سلعة (زادت الكمية التي يطلب المستهلكون شراءها) زاد سعرها.
فقبيل شهر رمضان يزداد الإقبال على شراء التمر لكونه جزءًا أساسيًا من وجبة الإفطار، مما يؤدي إلى ارتفاع سعره. نسمي هذا المبدأ بــ «قانون الطلب».
- المبدأ الثاني: فيدل على أنه كلما انخفض عرض سلعة في السوق (انخفضت الكمية التي يعرضها البائعون للبيع) زاد سعرها.
ففي مواسم الجفاف ترتفع أسعار الخضر والفواكه؛ لأن الكمية المعروضة منها انخفضت. نسمي هذا المبدأ بـ «قانون العرض».
إذا انتقلنا من النظرة الجزئية للاقتصاد (التي تعتبره مجموعة من الأفراد والشركات) إلى نظرة كلية أكثر شمولًا تعتبره وحدة متكاملة، فيمكننا أن نعتبر العرض الكلي يعبر عن وفرة السلع والخدمات التي يعرضها الأفراد والمؤسسات للبيع في الاقتصاد ككل. وإلى الطلب الكلي كتعبير عن كمية السلع والخدمات التي يُقبِلُ الأفراد والمؤسسات على شرائها.
هذا الانتقال البسيط الذي قمنا به من الجزئي إلى الكلي عبر العرض والطلب يمكننا أن نكرره بالمرور من سعر سلعة واحدة إلى مستوى الأسعار في الاقتصاد ككل.[3]
فارتفاع الطلب الكلي يؤدي إلى ارتفاع مستوى الأسعار، وانخفاض العرض الكلي يؤدي إلى ارتفاعه أيضا، كيف ذلك إذن؟
يرتفع الطلب الكلي بطريقتين:
- طريقة طبيعية عبر نمو اقتصادي يؤدي إلى شيء من الزيادة في متوسط دخل الأفراد وربح الشركات ليزداد الاستهلاك.
- طريقة مفتعلة عبر سياسة اقتصادية توسعية تهدف إلى تنشيط الاقتصاد عبر زيادة الإنفاق العام وتقليل الضرائب ليزيد الدخل المتاح والربح الصافي للشركات مما يؤدي إلى زيادة معدل الاستهلاك، الأمر الذي يرافقه زيادة في الطلب العام.
- أما العرض العام فينخفض بطريقة طبيعية جرَّاء أزمة اقتصادية أو موسم جفاف في حال كان الاقتصاد يعتمد على الزراعة بشكل كبير.
كيفما كانت الطريقة التي يزداد بها طلب الناس على السلع والخدمات في الاقتصاد، فإن زيادة الطلب بشكل واسع في الاقتصاد إذا لم تواكبها زيادة موازية في العرض ستؤدي إلى زيادة الأسعار وبالتالي إلى التضخم (الأمر نفسه يحدث إذا انخفض العرض الإجمالي دون أن يواكبه انخفاضٍ موازٍ في الطلب). فلكي تبقى الأسعار على حالها يجب على العرض والطلب أن يتحركا في نفس الاتجاه (ارتفاعًا أو انخفاضًا) فإذا ارتفع أحدهما دون الآخر، يختل توازن الاقتصاد وينعكس هذا الاختلال على الأسعار.
مع أنه لاختلالات العرض والطلب آثار مهمة على معدلات التضخم فإنها لا تعطينا الصورة الكاملة عن مسببات التضخم، حيث إنها تخفي مسببًا قد يكون هو الأهم، فما هو هذا المسبب يا ترى؟[4]
السبب الثاني: اختلال عرض وطلب من نوع آخر – التضخم النقدي
للعرض والطلب على السلع والخدمات أثر كبير على معدل التضخم، لكن هناك عرضا وطلبا من نوع آخر يؤثران بشكل كبير جدًا على مستوى الأسعار في الاقتصاد؛ ألا وهو العرض والطلب على النقود..!
نعم، فالنقود كأي سلعة أخرى لها عرض وعليها طلب! لكن كي نفهم الأمر بشكل أفضل؛ علينا أن نفهم دور النقود في الاقتصاد أولًا.
الرواية التي اتفق عليها أغلب الاقتصاديون هي أن النقود ظهرت كأول مرة لحل المشاكل التي نتجت عن طريقة التبادل التي يفترض أن الناس كانوا يستخدمونها قبل ظهور النقود. وقد أطلق الاقتصاديون على هذه الطريقة اسم «المقايضة».
ترتكز هذه الطريقة ببساطة على مبادلة الناس ما يملكون بما يحتاجون، فالمزارع إن احتاج إلى اللحم فإنه قد يبدل جزءًا من محصوله مقابل بعض الأغنام التي يرعاها راعي الغنم، لكن نتج عن هذه الطريقة عيوب كثيرة كضرورة احتياج راعي الغنم إلى بعض المحصول من المزارع أيضًا، إضافة إلى صعوبة تحديد قيمة التبادلات، فكم كيلوغرامًا من المحصول يجب أن يكون ثمنًا لكل رأس من الماشية؟[5]
هذه المشاكل وغيرها أدت إلى ظهور أنواع متعددة من النقود بدأت باستخدام بعض السلع كوسيط للتبادل (كأن نستخدم الملح أو التمر لشراء كل شيء) ثم ظهرت النقود المعدنية المصنوعة من الذهب والفضة ثم انتهى الأمر لما نعرفه اليوم من استخدام النقود الورقية والإلكترونية في تعاملاتنا اليومية.
الأمر الذي يجمع بين أنواع النقود منذ القدم هو أن وظيفتها الأساسية هي مساعدتنا على إتمام تبادلاتنا التجارية. لذا فكمية النقود الموجودة في الاقتصاد مهمة جدًا، فلا يجب أن تكون أقل من اللازم لحاجتنا الشديدة إليها، ولا يجب أن تكون أكثر من اللازم لأن هذا يُشكِّل خطرًا كبيرًا على الاقتصاد، لماذا؟
لنتخيل أن دولة نشأت وبداخلها موارد اقتصادية من سلعٍ وخدماتٍ ومبانٍ ومصانع ومنتجاتٍ وموارد طبيعية ولها عملة وطنية تسمى بالـ «كورب» ولنفترض أننا قمنا بتقييم ثروات هذه الدولة لنجد أنها تساوي مجتمعة مليون «كورب».
في صبيحة أحد الأيام، استيقظ حاكم الدولة وقرر أن يجعل الناس أكثر سعادة، فقام بطبع مليون كورب جديدة ووزعها على الجميع بالتساوي! وذلك كي يستطيع المواطنون شراء المزيد من السلع، هل هذا قرار صائب؟
لقد أصبح في جيوب الناس نقودًا أكثر مما قد يؤدي إلى زيادة كبيرة في الطلب على السلع والخدمات. لكن هل تغير شيء في كمية السلع والخدمات الموجودة في الاقتصاد؟ بالطبع لا! فالحاكم اختار الطريق الأسهل: ماكينة طبع النقود!
النتيجة لهذا القرار ستكون ارتفاعًا كبيرًا في الطلب على السلع دون أي تغير في الكمية المتوفرة منها فما الذي سيحدث؟ بالطبع! لقد ذكرنا هذا للتو، فارتفاع الطلب (دون ارتفاعٍ موازٍ في العرض) سيؤدي بالتأكيد إلى ارتفاع الأسعار! هنا أفسد الحاكم من حيث أراد الإصلاح، فطبع النقود دون ارتفاعٍ موازٍ في الإنتاج سيؤدي لأكبر سبب في مسح الابتسامة من على وجوه الجميع: التضخم.[6]
ويمكننا تلخيص أسباب التضخم في الرسم التالي:
الشكل أ: شكل توضيحي لمختلف أسباب التضخم.
خاتمة
تعرفنا في هذا المقال إلى التضخم، طريقة قياسه عبر مؤشر أسعار المستهلك ثم انتقلنا بعد ذلك إلى ذكر أسبابه وشرحها. لنختم بذلك كل ما نحتاج معرفته في البداية حول هذه الظاهرة الاقتصادية التي يخشاها الجميع.
لكن أخيرًا، يبقى التضخم هو مجرد عَرَض لأمراض اقتصادية شتى. فالأسعار بالنسبة للاقتصاد كدرجة الحرارة لجسم الإنسان؛ أي يجب أن تكون في مستواها الطبيعي، فانخفاض درجة الحرارة وارتفاعها بشكل كبير يمثلان ناقوس خطر وإشارة إلى أن هناك شيئًا غير طبيعي في جسم الإنسان. فكيف يعالج الطبيب هذا العَرَض؟ يبحث عن سبب ارتفاع الحرارة ليعالج المشكلة من الجذور، ولا يكتفي بوصف خافضات الحرارة للمريض.
الأمر مماثل بالنسبة للأسعار. فارتفاعها يعني أن هناك اختلالًا في الحالة الاقتصادية للدولة والعلاج الحقيقي لارتفاع الأسعار يجب أن يهدف إلى إنهاء أسبابها لا أن يلجأ إلى المسكنات والمهدئات بواسطة سياسة نقدية قد تفاقم الأمر أكثر كما حدث في أكثر من دولة.
- Taylor.T, et al, (2014),”Principles of Macroeconomics”.
- Manki, G, (2009), ” Macroeconomics”.
- Antonioni, P, and Flynn S.M, (2011) ” Economics for dummies”.
- أحمد حسن معالي (2016)، “التضخم: بلاء الغلاء”، ألف باء اقتصاد.
- أحمد حسن معالي (2016)، “أسباب التضخم: عوامل الخراب”، ألف باء اقتصاد.
- أحمد جلال، عبير الشناوي، (2004) “أسباب التباين بين أسعار المستهلكين وأسعار الجملة في مصر في الآونة الأخيرة”، المركز المصري للدراسات الاقتصادية.
رابط المصدر:
https://www.ida2at.com/your-guide-to-understand-inflation-definition-causes-and-measurement/