دوائر السيطرة.. أبعاد وآفاق اللقاء التركي – الإسرائيلي في أذربيجان

في نفس اليوم الذي شهد انطلاق مناورات “السلام” المشتركة بين الجيشين الإيراني والأرميني -التاسع من أبريل الجاري- عقدت كل من إسرائيل وتركيا مباحثات لافتة في توقيتها ومضمونها بل وحتى في موقع انعقادها -العاصمة الأذربيجانية- استهدفت بشكل أساسي “خفض التوتر العسكري” بين الجانبين في سوريا، بعد جولة عنيفة من القصف الجوي الإسرائيلي، الذي استهدف مواقع عسكرية سورية سابقة في المنطقة الشرقية، لاحت بوادر جدية حول وجود نوايا تركية للتمركز بها.

وبمعزل عن هذا التزامن اللافت، والذي يمس جانبًا مهمًا من جوانب العلاقة بين الدول الخمس السالف ذكرها، فيما يرتبط بالنفوذ في هذا النطاق الآسيوي المهم، إلا أن مستقبل الموقف الميداني المتشابك في سوريا بات مرتبطًا بشكل أساسي -من جملة ارتباطات أخرى يتشابك في إطارها العامل الأمريكي والروسي- بمخرجات هذه المباحثات التي يتوقع تكرارها خلال الفترة المقبلة. وبالتالي تحاول هذه المادة البحثية توضيح مضمون ما تباحث حوله كلا البلدين، ومدى إمكانية تطبيق ما تم الاتفاق عليه ميدانيًا في المستقبل القريب، وانعكاسات هذا التطبيق على مستقبل الوضع في سوريا خلال المرحلة المقبلة.

خلال مرحلة ما بعد عام 2014، كان الانخراط الميداني التركي في سوريا طاغيًا بالمقارنة بالتدخلات العسكرية الإسرائيلية، التي اقتصرت خلال هذه الفترة وصولًا إلى سقوط نظام بشار الأسد، على العمليات الجوية التي تستهدف موقع تمركز الفصائل السورية والإيرانية، خاصة في النطاق القريب من الجنوب السوري، ثم لاحقًا في المنطقة الشرقية، دون تنفيذ أية عمليات برية من المواقع الإسرائيلية في الجولان، عدا بعض عمليات القصف بالصواريخ المضادة للدروع بين الفينة والأخرى. بشكل عام، ارتكز النفوذ التركي في سوريا على انتشار عسكري واسع في المناطق الشمالية القريبة من الشريط الحدودي بين البلدين، بالأخص في مناطق عمليات غصن الزيتون ودرع الفرات ونبع السلام، بجانب نقاط المراقبة الخاصة بمناطق “خفض التصعيد”، التي نصت عليها اتفاقية “أستانا” أوائل عام 2017.

بداية الانخراط التركي الميداني في سوريا كانت في الثاني والعشرين من فبراير 2015، حين دخلت القوات التركية الأراضي السورية، ووصلت إلى قرية “قره قوزاق” شرقي مدينة حلب، ونقلت ضريح جد مؤسس الدولة العثمانية، سليمان شاه، إلى الأراضي التركية، ومن ثم إعادته بعد ذلك بفترة  للداخل السوري، وقد شاركت في هذه العملية نحو 50 دبابة ومئة آلية مدرعة، ومئات الجنود، وذلك لتأمين عملية نقل الضريح.

عقب ذلك، وتحديدًا في الرابع والعشرين من أغسطس 2016، بدأ الجيش التركي عملية عسكرية واسعة تحت اسم “درع الفرات”، استمرت حتى أواخر مارس من العام التالي، وقد نتج عن هذه العملية، السيطرة على مثلث تبلغ مساحته 1900 كيلو متر مربع، يمتد ما بين مدن جرابلس شرقًا، وأعزاز غربًا، والباب جنوبًا، بما في ذلك مدن دابق ومارع والراعي، ما أدى إلى قطع التواصل بين مدينتي عفرين ومنبج، وبالتالي شق منطقة السيطرة الأساسية للأكراد شمالي سوريا، وإفشال أية محاولة انفصالية من جانبهم، ودفعهم إلى الضفة الشرقية لنهر الفرات بشكل شبه كامل.

بعد انتهاء عملية “درع الفرات”، أنشأت وحدات الجيش التركي عدة نقاط للتمركز والمراقبة وأخرى لتدريب عناصر “الجيش السوري الحر”، وتركزت هذه النقاط في المنطقة التي سيطر عليها الجيش التركي ما بين مدينتي جرابلس وعفرين، وبلغ عددها نحو 22 نقطة عسكرية رئيسة. وظل هذا الوضع قائمًا إلى أن تم تعزيز هذا الوجود في يناير 2018 عبر إطلاق عملية “غصن الزيتون”، بهدف السيطرة على مدينة عفرين ذات الأغلبية الكردية، وهو ما تحقق بالفعل بحلول مارس من نفس العام، ومن ثم أنشأ الجيش التركي عددًا كبيرًا من النقاط العسكرية والمعسكرات في نطاق ريفي حلب الشمالي والشرقي، بلغ عددها 15 نقطة عسكرية.

المرحلة الثالثة للتدخل التركي في سوريا بدأت في أكتوبر عام 2019، حين دخلت وحدات تركية مؤللة إلى المناطق الشمالية لمحافظة إدلب السورية، وشرعت على مدار الأشهر اللاحقة وحتى الآن في إنشاء مجموعة من نقاط المراقبة، في ريف حلب الغربي، وريف إدلب الجنوبي، وريف حماة الشمالي، وريف اللاذقية الشرقي، وذلك بالاتفاق مع إيران وروسيا؛ لمراقبة ما يعرف بمناطق “خفض التصعيد”، بين المعارضة المسلحة والجيش السوري النظامي، ضمن تفاهمات اتفاق “أستانا”. وقد نتج عن هذه العملية إنشاء مزيد من نقاط المراقبة التابعة للجيش التركي، تركزت بشكل شبه كامل في محافظة إدلب، بجانب نقاط قليلة في أرياف حلب وحماة.

نتيجة لهذه العمليات السالفة الذكر، وكذا عملية “درع الربيع” في فبراير 2020، أصبح للقوات التركية اعتبارًا من عام 2021، نحو 130 نقطة عسكرية واستخباراتية أساسية في سوريا، تتوزع بشكل أساسي في المناطق الشرقية والجنوبية والغربية لمدينة إدلب، بجانب نقاط أخرى للمراقبة والرصد والاستخبارات في مناطق: الباب، والراعي، وأخترين، وعفرين، وجنديرس، وراجو وجرابلس، بالقطاع الأوسط من الحدود الشمالية السورية، شمال محافظتي الرقة والحسكة.

جاء سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر الماضي ليمثل نقطة تحول في المسار السوري ككل، أوجبت على كل الأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة في هذا المسار إعادة النظر في تموضعها الميداني والسياسي حيال التطورات التي تلت هذا السقوط. وقد كان للجانب الإسرائيلي في هذا التوجه قصب السبق، بالنظر إلى أن المؤسسة العسكرية في إسرائيل كانت تراقب عن كثب تطورات الموقف في سوريا خلال الشهور الستة الأخيرة، ولديها جملة من المخاوف حيال تهديدات من الممكن أن تشكلها الحالة السورية الجديدة، سواء من خلال “فوضى السلاح” التي قد تصاحب التغيرات الحالية على الساحة السورية، أو نشوء مجموعات وكيانات قد تلجأ إلى استهداف المواقع الإسرائيلية في الجولان، كوسيلة لإيجاد نقطة انطلاق لإعادة التواجد مرة أخرى على الساحة السورية.

لذا تمت إعادة التموضع الإسرائيلية في سوريا خلال الأشهر الثلاثة الماضية ضمن عدة أنساق أساسية، حيث ارتبط النسق الأول بالعمل بشكل آني ومستمر على إنهاء القدرات العسكرية السورية “النوعية” أو تلك التي قد تمثل ولو تهديدًا محدودًا على العمليات العسكرية الإسرائيلية في سوريا. وفي هذا الإطار، عمل سلاح الجو الإسرائيلي على استهداف المرافق البحرية في الساحل السوري، ومواقع الألوية والفرق السورية التي تتضمن مخازن للذخيرة ومستودعات للدبابات والعربات المدرعة، بجانب استهداف المطارات العسكرية الرئيسية.

النسق الثاني تضمن العمل على دعم العمليات البرية الإسرائيلية التي انطلقت في محاور أساسية بريف القنيطرة وريف درعا الغربي؛ بهدف أساسي يتمثل في خلق “منطقة عازلة” بين المواقع العسكرية الإسرائيلية في الجولان وقرى الجنوب السوري، وهي منطقة لا تستهدف فقط التدمير الشامل لأية مواقع او مراكز عسكرية سورية سابقة يمكن من خلالها شن هجمات على المواقع الإسرائيلية، بل أيضًا تحقيق عدة أهداف تكتيكية، منها إعطاء الوحدات الإسرائيلية في الجولان قدرة عملياتية سريعة وحاسمة لمنع أية محاولة مستقبلية لبناء قدرات عسكرية مضادة، سواء كانت هذه القدرات نظامية أو غير نظامية، بجانب تأمين الوصول للسدود والخزانات المائية في مناطق جبل الشيخ وريف القنيطرة ودرعا.

وقد كان هذا واضحًا خلال الأسابيع الأولى للعمليات البرية الإسرائيلية في سوريا، حيث وصلت القوات الإسرائيلية في أقصى توغل لها، إلى تماس مع عشرة مواقع مائية أساسية، تتنوع بين سدود وخزانات طبيعية وبحيرات، أهمها سد الوحدة الذي يقع على نهر اليرموك، مباشرة على خط الحدود بين سوريا والأردن، وكذلك سد “المنطرة”، في محافظة القنيطرة، والذي يُعد ثاني أكبر سدود سوريا.

النقطة الأبرز فيما يتعلق بـ “المنطقة العازلة” ترتبط بوجود هدف تكتيكي إسرائيلي من خلال فرض هذه المنطقة، بحيث تتضمن دائرتين أساسيتين: الأولى هي دائرة “التأثير والتواجد”، والتي يبعد قوسها عن الحدود الدولية بين سوريا وإسرائيل نحو خمسة عشر كيلو مترًا، وتضم حاليًا نقاطًا عسكرية إسرائيلية أساسية يبلغ عددها تسع نقاط، تبدأ شمالًا من نقطتين أساسيتين أعلى قمة جبل الشيخ، مرورًا بنقاط في بلدات حضر وجباتا الخشب والحميدية والقنيطرة ونطاق سد المنطرة وبلدة كودنة، وصولًا إلى تل أحمر، وثكنة الجزيرة في أقصى الجنوب في ريف درعا الغربي قرب قرية معرية.

الوجود الإسرائيلي الدائم في هذه الدائرة يرجى منه الإسهام في تغيير قواعد الاشتباك، بطريقةٍ تمنح الوحدات العسكرية الإسرائيلية مرونة أكبر في تنفيذ ضربات استباقية ضد أهداف عسكرية داخل سوريا، دون الحاجة إلى عمليات برية واسعة النطاق. ويُنظر إلى هذا النهج كجزء من استراتيجية الردع الإسرائيلي التي تهدف إلى تقليل المخاطر الأمنية على المدى الطويل. أما الدائرة الثانية فيمكن أن نطلق عليها دائرة “السيطرة النارية”، وتخضع هذه المنطقة لمراقبة استخباراتية واستطلاعية دائمة، للتأكد من عدم وجود أية تهديدات للمواقع العسكرية الإسرائيلية في الجولان، عبر تنفيذ عمليات توغل ومداهمة بشكل دوري.

النسق الثالث -والأهم- يرتبط باتباع تل أبيب سياسة ميدانية “هجينة”، تخلط فيها بين استخدام القوة “الخشنة” واستخدام أدوات الاستمالة والترغيب مع سكان القوى الجنوبية السورية، وهو نهج سبق واستخدمه الجيش الإسرائيلي في كافة المناطق العربية التي قام باحتلالها منذ عام 1948 وحتى الآن. ضمن هذا النسق حاولت القوات الإسرائيلية المتوغلة في القرى السورية الجنوبية تقديم مساعدات إنسانية وعينية للسكان السوريين، والتلويح بإمكانية تشغيل بعضهم في وظائف على الجانب الآخر من الحدود. وهو نهج ترافق مع عمليات تفتيش عنيفة ومتكررة للقرى المختلفة، وكذا منع المزارعين من الوصول لقراهم، وقيام الدوريات العسكرية الإسرائيلية بحجز قطعان الماشية الخاصة بهم، وتخريب مضخات المياه وأدوات الحصاد.

هذا الأسلوب لم يؤتِ ثماره بشكل عام في الجنوب السوري، بل أدى إلى نتائج عكسية، تكرست بشكل كبير من خلال الاشتباك الدامي الذي تم بين القوات الإسرائيلية واهالي قرية “كويا” بريف درعا الغربي أوائل الشهر الجاري، وهو ما يمكن اعتباره نقطة تحول كانت مؤشرًا أساسيًا على فشل التكتيك الإسرائيلي الحالي في الجنوب السوري، وأدت بالتبعية إلى تجميد المساعي الإسرائيلية الرامية لتوسيع دائرة نفوذها في سوريا أكثر نحو شرق البلاد. يضاف إلى ذلك نقطة أخرى ترتبط بفشل الرهان الإسرائيلي على ورقة “الدروز”، في ظل تمكن الإدارة السورية المؤقتة من التوصل معهم إلى صيغة توافقية بشأن ترتيبات الأمن في محافظة السويداء، وكذا عدم تجاوب دروز سوريا بشكل عام مع الخطوات الإسرائيلية حيالهم.

في هذا الصدد، ظهرت تباينات جدية في الداخل الإسرائيلي حيال توثيق الصلات مع دروز سوريا، والخطة التي سبق الإعلان عنها بشأن تشغيل الدروز السوريين في إسرائيل، ولم تخرج فعليًا إلى حيز التنفيذ، بسبب موقف قائد القيادة الشمالية، أوري جوردين، ووزير الداخلية، موشيه أربيل، اللذين عارضا هذا التوجه؛ خشية قيام الدروز القادمين من سوريا بالتجسس على الداخل الإسرائيلي. علمًا أن تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، خلال الفترة الماضية، حول قضايا حساسة تتعلق بسوريا، قد أثارت الكثير من الاعتراضات من قبل ضباط في الجيش الإسرائيلي، الذين يخشون من أن تؤدي هذه التصريحات إلى تصعيد لا ضرورة له مقابل الإدارة الجديدة في سوريا، وقد تشكل خطرًا على حياة الجنود الإسرائيليين في الجنوب السوري.

أنقرة من جانبها، عكفت خلال الأسابيع التي تلت سقوط الأسد على التركيز بشكل أساسي على ملف المواجهة مع قوات سوريا الديمقراطية، لكن شهد هذا الملف انفراجة سريعة مع بدء التواصل بين قيادة قسد والحكومة المركزية في دمشق، ما شكل في حد ذاته محفزًا لتركيا كي تعمل على توسيع دائرة الحضور الميداني في سوريا، لتشمل قواعد عسكرية جديدة وسط وشرق البلاد. وكان أول مؤشرات هذا التوجه ما أظهرته الصور الجوية أوائل الشهر الماضي من إنشاءات جديدة في القسمين الجنوبي والشرقي من قاعدة “منغ” الجوية جنوب مدينة أعزاز بريف حلب الشمالي، والتي اتضح أنها جزء من عمليات تنفذها تركيا لإعادة تهيئة هذه القاعدة لتصبح قاعدة للدفاع الجوي، وكذا تأهيل مهبطي المروحيات الموجود بها.

وعلى الرغم من أن موقع هذه القاعدة يقع عمليًا في نطاق منطقة النفوذ التركي في شمال سوريا فإن هذه الخطوة شكلت أول جرس إنذار لتل ابيب من احتمالية توسيع أنقرة دائرة نفوذها في اتجاه شرق سوريا، وسعيها لتطبيق نموذج قاعدة “الوطية” الجوية في غرب ليبيا، عبر تحويل القواعد الجوية السورية إلى قواعد مشتركة، تتسلح بطائرات مسيرة وأنظمة دفاع جوي تركية، وهو ما يصب في النهاية بخانة تعزيز الحضور العسكري التركي في سوريا، وقوامه القوات التركية المنتشرة مناطق الشمال والشمال الشرقي السوري.

مخاوف تل ابيب في هذا الإطار دفعتها أوائل الشهر الجاري إلى شن سلسلة من الغارات العنيفة على ثلاث قواعد جوية في الشرق السوري، هي قاعدة “التي فور” الجوية في ريف حمص الشرقي -وهي أكبر القواعد الجوية السورية-، ومطار تدمر العسكري، ومطار حماة العسكري. هذه الغارات كانت أعنف بمراحل من الغارات التي تعرضت لها القواعد الثلاث عقب سقوط نظام “الأسد”، وكان ملحوظًا أنها استهدفت بشكل مركز في المطارات الثلاث -خاصة في قاعدة التي فور- مدارج الإقلاع والمرافق اللوجيستية بجانب ما تبقى من حظائر للطائرات، وهو ما يمكن اعتباره بمثابة “خط أحمر” رسمته تل أبيب أمام أنقرة حيال أي توجه محتمل نحو الشرق السوري، في ظل توارد أنباء عن استطلاع ضباط أتراك لقاعدتي تدمر والتي فور أواخر مارس الماضي.

أولًا: الأهمية الاستراتيجية التي تمثلها القواعد الجوية السورية الموجودة في المنطقة الشرقية، خاصة قاعدة “التي فور”، التي تتسم بموقع استراتيجي هو الأهم في سوريا، حيث تبعد مسافات تتراوح بين 200 و300 كيلو متر عن كل من الحدود التركية، والجولان السوري، والحدود العراقية، ما يسمح لأية وسائط جوية أو خاصة بالدفاع الجوي بتشكيل تأثير مهم على أية تحركات معاكسة من هذه الاتجاهات. وبالتالي يمثل أي وجود تركي في هذه القاعدة معوقًا أساسيًا أمام أية محاولة من جانب تل أبيب لإحياء “ممر ديفيد” نحو شرق سوريا، وقد يمثل في مرحلة ما تهديدًا لحرية الحركة الجوية التي تحرص إسرائيل على ضمانها في سوريا.

ثانيًا: توسيع التواجد التركي في شرق سوريا قد يضمن لتركيا تموضعًا أكبر في المعادلة السورية الحالية على المستوى السياسي، بشكل يجعلها قادرة دون منازع على ملء الفراغ الذي خلفه التراجع الإيراني، وهو الوضع الذي قد يتعزز أكثر في ظل تراجع حظوظ إسرائيل في امتلاك “نفوذ سياسي” في سوريا، بعد أن فشلت في استمالة المكون الدرزي، ولم تتمكن من إيجاد قنوات للتواصل مع سكان الجنوب السوري، ناهيك عن عدم قدرتها في الوقت الحالي على خلق هامش للنفوذ في مناطق الأكراد شمال شرق سوريا، خاصة بعد الاتفاق الأخير بين الحكومة المركزية وقوات قسد.

مما سبق يمكن أن نستخلص أن إسرائيل قد وجهت “إنذارًا حازمًا” لتركيا بشأن خطواتها المتوقعة في شرق سوريا، وهو أحد سببين رئيسين وراء التواصل الأخير الذي تم بين الجانبين في أذربيجان، حيث بدا أن رد الفعل القوي من جانب إسرائيل بشأن التحركات التركية في اتجاه شرق سوريا قد لاقى صدى في الجانب التركي، لكن السبب الرئيسي الثاني -والأهم- لهذا التواصل هو العامل الأمريكي؛ فواشنطن من جانبها تتموضع في الملف السوري في زاوية أقرب للتموضع التركي منها إلى التموضع الإسرائيلي، فقد تعاونت مع أنقرة لإنجاز سلسلة الاتفاقات التي تمت بين حكومة دمشق وقوات سوريا الديموقراطية، سواء ما يرتبط بسد تشرين والمناطق التي تتواجد فيها قوات قسد غرب الفرات، او ملف الأحياء الكردية في مدينة حلب، او حتى مستقبل المناطق الكردية شرق الفرات.

كذلك تشير الوقائع الميدانية خلال الأيام الأخيرة إلى أن واشنطن كانت حازمة مع إسرائيل فيما يتعلق بالتحركات العسكرية في الجنوب السوري، لذا يلاحظ توقف تل أبيب عن خرق الأجواء السورية، وهو ما يؤشر إلى تحرك أمريكي لضبط السلوك الإسرائيلي في سوريا، في ظل تراجع النشاط الميداني الإسرائيلي خلال الأسبوع المنصرم، واقتصاره على توغلات محدودة جدًا، في أطراف تل الأحمر شرقي بلدة كودنة و في محيط تل الأحمر. وقد جاءت الأنباء التي ترجح بدء عملية انسحاب جزئي أمريكية من شرق سوريا منذ أواخر الشهر الماضي، عبر تنفيذ عمليات إخلاء جزئية للقواعد الأمريكية، خاصة من قاعدة حقل كونيكو النفطي في دير الزور، لترسل في المجمل رسالة إلى تل أبيب مفادها أن مبدأ  “نقل الأعباء” بات قيد التنفيذ ولو جزئيًا في سوريا.

بالتالي كانت العوامل السابقة، محفزة لتواصل أنقرة وتل ابيب بشأن مستقبل الوضع الميداني في سوريا، من زاوية أساسية مفادها أن كلا البلدين قد اختارا عدم التصادم في هذا الملف. أنقرة من جانبها، ترى ضرورة إغلاق “الثغرة الاستراتيجية” في شرق سوريا، والتي تهدد الحكومة المركزية في دمشق، في حين لا ترغب تل أبيب في زيادة النفوذ التركي في هذا الاتجاه الإستراتيجي، وهذا هو الإطار المتبادل التي دارت حوله مباحثات أذربيجان، والتي لم يعلن عن مخرجاتها، لكن تشير المعلومات المتوفرة إلى أن إسرائيل من جانبها أعلنت بشكل واضح أن إنشاء قواعد تركية في منطقة تدمر، يعتبر “خطًا أحمر وخرقًا للثقة”. من جانبها قالت وزارة الدفاع التركية إنها بناء على طلب من الحكومة السورية الجديدة، تجري حاليًا تقييمات لإنشاء “قاعدة تدريبية”، مشيرة إلى أن جميع الأنشطة التي نُفذت وستُنفذ لهذا الغرض، تُنفذ في إطار الاتفاق المبرم بين الدولتين، ودون استهداف “دولة ثالثة”.

إذن مما يتوفر من معلومات، يمكن القول إن توجهات كلا البلدين في الوقت الحالي، تدفع نحو إنشاء آلية تنسيق مشتركة بينهما، ما يجعل الخطوط الحمراء لكل منهما في سوريا واضحة للطرف الأخر، في ظل وجود اتفاق مبدئي على أن الاعتراض الإسرائيلي على الوجود العسكري التركي في سوريا يقتصر على رفض تمركز وسائط تركية جوية أو خاصة بالدفاع الجوي في شرق سوريا، دون أن يشمل هذا الاعتراض القواعد البرية، في حين حمل بيان وزارة الدفاع التركية في المقابل إشارة واضحة إلى “القواعد التدريبية”، وهي إشارة تحمل تطمينات لتل أبيب بأن القواعد التركية التي سيتم انشاؤها، لن تشكل تهديدًا لإسرائيل.

خلاصة القول، إنه بغض النظر عن ما إذا كان اجتماع أذربيجان قد كرس “دوائر سيطرة” متبادلة بين أنقرة وتل أبيب في سوريا أو أنه أسس لآلية تنسيق بين الجانبين، يمكن اعتبار أنه قد تم رسم “خطوطًا عريضة” للعلاقة بينهما فيما يرتبط بالوضع السوري، ستسهم واشنطن في المرحلة القادمة في تثبيتها، وإن كانت أنقرة في هذا الصدد تحظى بأفضلية، نظرًا لمستوى علاقاتها الحالية مع النظام الحاكم في دمشق، وتموضعها الكبير على الأرض، مقارنة بالوجود الإسرائيلي الذي بات مقتصرًا على الجانب الميداني، دون تحقيق أي نجاح على مستوى بسط النفوذ. لكن سيبقى معيار تطبيق هذه الخطوط العريضة رهنًا بكيفية إدارة كلا الجانبين لمبعث التناقض الأساسي بينهما في هذا الملف ألا وهو “استقرار النظام السوري”؛ فأنقرة من زاوية “المصالح الاستراتيجية”، تدفع نحو حل كافة المعضلات التي من الممكن أن تؤثر على هذا النظام، في حين من مصلحة إسرائيل أن تظل “النزعات الانفصالية” قائمة في جنوب وشرق سوريا.

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M