كانت سوريا أرضا خصبة لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية لدراسة “حزب الله” جيدا، وجمع أكبر كمّ من المعلومات عنه، عندما نشر “حزب الله” قواته لدعم الرئيس بشار الأسد ضد الانتفاضة عام 2012، فقد كانت فرصة ذهبية لأجهزة المخابرات الإسرائيلية لاختراق التنظيم.
فعناصر “حزب الله” تتمركز في مناطق محددة، يمكن رصدها بدقة، وتتبع واعتراض الاتصالات والأنشطة السيبرانية كافة، كذلك التصوير عالي الدقة لكل العناصر، سواء أثناء الإعاشة أو القتال أو المناسبات الاجتماعية (أفراح، عزاء، وتشييع موتى).
وقد تمكنت إسرائيل بالفعل من الحصول على كم ضخم من البيانات عن المنتسبين من أعلى القيادات إلى أحدث المقاتلين، بما في ذلك صورهم، وأرقام هواتفهم، وكذلك معلومات عن أفراد أسرهم وأقاربهم، كما ساهم تتبع النشاط على مواقع التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت، في رسم شبكات العلاقات والتفاعلات، مع استغلال خاصية تحديد المحل في رسم خريطة التحرك، والانتقال داخل حدود الدولة أو خارجها، وإذا تم تغيير شريحة الهاتف، يمكن التعرف من خلال الرقم المسلسل للهاتف، وإذا غير الهاتف والرقم يمكن تحديث البيانات من خلال تتبع بصمة الصوت عند الاتصال بالأسرة أو زملاء آخرين، ومثل هذه البيانات تتخطى مصطلح “قواعد البيانات”، إلى ما يسمى “مستودعات البيانات”، وبمعالجتها وتحليلها تنتج “قاعدة معلومات”، وبالتنقيب فيها عن العلاقات والنماذج المُخبأة تنتج “قاعدة معرفة”.
رجل يسير في أحد الشوارع المهجورة بسبب القصف الإسرائيلي المكثف للضاحية الجنوبية في بيروت، 4 أكتوبر 2024
إحدى المهام الرئيسة التي نفذتها الاستخبارات الإسرائيلية في سوريا، هي تنفيذ المؤامرات التي تؤدي إلى أن يقاتل أعداء إسرائيل بعضهم بعضا، دون تورط إسرائيلي أو تكلفة، وهذه البيئة الاستراتيجية، تكونت في الأزمة السورية، بنشوب صراع بين معسكر النظام السوري مدعوما بـ”حزب الله” الشيعي، في مواجهة تنظيمات متطرفة غير شيعية، وطرف ثالث يعارض النظام ضد المعسكرين، فأصبحت هناك فرصة لزرع عملاء في المعسكرات الثلاثة وتجنيدهم.
لقد توسع “حزب الله” في ضم عدد كبير من المنتسبين بطريقة المرتزقة، دون عملية فرز أمني مناسب، كذلك فإن العمل في دولة أخرى، وفي بيئة غير نظامية، أفقد قيادة “الحزب” إمكانية المراقبة، والحفاظ على الانضباط، إلى جانب معسكر التنظيمات التكفيرية والمتطرفة، والتي من السهل تجنيد وزرع عملاء عن طريقها.
لا يمكن إنجاز عمليات الاغتيال الأخيرة لعناصر “حزب الله” إلا بتكوين سلسلة من العمليات الاستخباراتية وتراكم معلوماتي على مدى فترة زمنية طويلة
وتلعب أجهزة الاستخبارات دورا مهمًا وحاسما في استراتيجية الحرب، من خلال ثلاثة أنشطة رئيسة، النشاط البحثي، النشاط الوقائي، والنشاط التعرضي.
أما النشاط البحثي فهو يهدف إلى جمع أكبر كم من المعلومات المطلوبة عن الجانب الآخر، عن طريق كافة الوسائل المتاحة بشريا وإلكترونيا وسيبرانيا وبصريا، لكن نظرا لتعدد المصادر وغزارة المعلومات، يصبح التحدي الأهم إيجاد آلية سريعة للتحقق والتحليل وترجمة المعنى، والخروج بتقارير وبلاغات، وبناء على هذه التقارير، يمكن الوقاية من تهديدات الجانب الآخر، ودعم الخطط والقرارات من خلال فهم منطق الأعداء وخططهم فهما عميقا، كذلك القيام بالعمليات التعرضية كالاغتيالات والهجمات، واستهداف مراكز ثقل الجانب الآخر، سواء بعمليات سرية في حرب الظل، أو عمل عسكري باستخدام القوات.
الاستعداد الاستخباراتي لسنوات طويلة
إن سلسلة النجاحات الإسرائيلية الأخيرة ضد “حزب الله”، هي نتاج معلومات استخباراتية دقيقة حول “حزب الله”، تلك القدرات التي تجلت خلال الأسابيع القليلة الماضية، والتي أدت لتنفيذ ضربات ناجحة، أسفرت عن قتل وإصابة عدد كبير من عناصر “الحزب” في لبنان، فقد أسفرت هذه الضربات الناجحة عن القضاء على صفوف من قيادة “حزب الله”، وعلى رأسهم حسن نصرالله، والتدمير المنهجي لترسانته من الصواريخ والقذائف والطائرات دون طيار.
وهذه القدرات ليست جديدة، فلم تبدأ من سوريا فحسب، بل كان نتيجة سنوات من جمع المعلومات الاستخباراتية، وتجنيد العملاء، فهي نتاج عمل تراكمي، بدأ في أعقاب حرب لبنان الثانية عام 2006، حيث أعادت إسرائيل ضبط استراتيجيتها الاستخباراتية تجاه “حزب الله” الذي أصبح ينظر إليه باعتباره أحد أقوى الجماعات شبه العسكرية في العالم، وأهم حليف لإيران، واعتباره أيضا يمثل تهديدا أكثر خطورة من “حماس” قبل وبعد “طوفان الأقصى”.
إن قاعدة البيانات والمعرفة، التي تم تكوينها أثناء الصراع السوري تحديدا، يتم تحديثها بشكل تراكمي، كذلك يتم تطوير شبكة العملاء داخل “الحزب” وخارجه، وهو الأمر الذي جعل الاستخبارات الإسرائيلية قادرة باستمرار على تحديد مواقع كبار قادة “حزب الله” وتحديد أماكن تخزين الأسلحة الرئيسة، ومتى يتم التخطيط للهجمات.
ففي حادثة تفجير أجهزة الاستدعاء وأجهزة الاتصال اللاسلكي الأخيرة “بيجر”، نجح “الموساد” في التسلل إلى سلاسل التوريد الخاصة بـ”حزب الله” وتعرف إلى نوع الفحوصات الأمنية التي يتم إجراؤها على المعدات الجديدة، كما علم بوجود اتجاه لفحص الأجهزة فعجل بتوقيت التفجير.
لقد ترافقت عملية إعادة الاستراتيجية مع تطورات تكنولوجية، واستخدام “وسائل التواصل الاجتماعي” وهو ما زاد من قدرات جمع المعلومات وتحليلها، من خلال وسائل “الحرب الإلكترونية” و”السيبرانية” و”الاستطلاع البصري” كتطور “أنظمة الأقمار الصناعية” و”الطائرات المسيرة دون طيار”، والقدرات على اختراق “الهواتف المحمولة”، وتحويلها إلى أجهزة تنصت من خلال برامج متطورة، كذلك تطور برمجيات وتطبيقات “الذكاء الاصطناعي”، والأهم هو تطوير “الموساد” لأجهزة حواسب فائقة السرعة لمعالجة البيانات، ولكن هذا التطور لا يغني عن المخابرات البشرية عن طريق تجنيد العملاء والجواسيس.
نسيج استخباراتي هجين
هذا التطور أدى إلى اعتماد إسرائيل “نسيجا استخباراتيا هجينا”، من أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والجيش، ذات الهياكل والمهام المختلفة، ولكنها متداخلة عند تنفيذ المهام.
وتشمل هذه الأجهزة “معهد الاستخبارات والعمليات الخاصة” (الموساد)، والذي يشبه “المخابرات المركزية الأميركية” (CIA)، والذي يتعامل مع العمليات والشؤون الخارجية، و”مديرية الاستخبارات العسكرية” (أمان)، والمكلفة بالشؤون العسكرية وهي تشبه “مخابرات الدفاع الأميركية” (DIA)، بالإضافة إلى “جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك)”، المكلف بالجبهة الداخلية والنشاط الوقائي، ومكافحة الأنشطة الاستخبارية لـ”حزب الله” داخل العمق الاستراتيجي، والذي انحصر دوره ضد “حزب الله” في الحصول على معلومات عن طريق الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، والذين لهم علاقة بـ”حزب الله” لكن الدور الأكبر في النشاط البحثي والتعرضي ضد “حزب الله”، كان لأ”الموساد” بالتعاون مع “أمان”.
تلعب أجهزة الاستخبارات دورا مهماً وحاسما في استراتيجية الحرب، من خلال ثلاثة أنشطة رئيسة، النشاط البحثي، والنشاط الوقائي، والنشاط التعرضي
تتكون (أمان) من 3 وحدات رئيسة: الوحدة “8200” والوحدة “9900” والوحدة “504”.
الوحدة “8200”: هي وحدة جمع وتحليل المعلومات الرئيسة، وهي وكالة استخبارات “الحرب الإلكترونية”، وتشبه “وكالة الأمن القومي الأميركية”، لديها أجهزة إلكترونية متطورة للتنصت على- واعتراض- “الهواتف المحمولة” وغيرها من الاتصالات الخاصة بالدول والتنظيمات المستهدفة، كذلك متابعة الإعلام والوسائل العلنية و”الفضاء السيبراني”، ولديها أطقم داخل أنساق القتال، لضمان جمع ونقل المعلومات عالية القيمة بسرعة إلى الجيش والقوات الجوية.
الوحدة “9900” هي وحدة جمع المعلومات الاستخباراتية البصرية، بما في ذلك البيانات الجغرافية من الأقمار الصناعية والطائرات، بالإضافة إلى رسم خرائط ثلاثية الأبعاد، وتفسير هذه المعلومات الاستخباراتية للقوات في ساحة المعركة، وكذلك لصانعي القرار، في الزمن الحقيقي، كذلك توفر هذه الوحدة “الخوارزميات” المبنية ببرمجيات الذكاء الاصطناعي، وبرامج الذكاء البصري، والذي يوفر خاصية التعرف على نماذج وأنماط للأماكن والأشخاص والمجاميع، وكشف الحالات الشاذة والمتغيرة، والتي يتم تحليلها لتوفير صورة استخباراتية محدثة، وكل المعلومات الاستخباراتية التي يتم جمعها حول هدف ما، تسمح للجيش الإسرائيلي بالتصرف بطريقة أكثر دقة، كما تتولى عملية التصوير العالية الدقة للأفراد، والوحدة مسلحة بطائرات استطلاع مسيرة، بالإضافة لإمكانية الحصول على صور من المنصات المدنية، ومسيرات الاستطلاع في الوحدات والتشكيلات الجوية والبرية.
طائرة “اباتشي” إسرائيلية تشن غارة على جنوب لبنان
الدور الذي نفذته الوحدة “504”، وتلقت عليه التكريم عام 2018، من جهة رئيس المخابرات العسكرية اللواء “تامير هايمان” لأنشطتها في (الساحة الشمالية) على مدى فترة (2013-2018)، والتي قال الجيش: “إنها منعت هجمات إرهابية، وحيدت التهديدات التي عرضت دولة إسرائيل للخطر” لم يتم الكشف عن الأنشطة المحددة للوحدة السرية للغاية في الساحة الشمالية (مصطلح الجيش للبنان وسوريا)، كذلك فإن الوحدة “504” تحصل من خلال بلاغات وتقارير عملاء الوحدة في دول أجنبية، وداخل الضفة الغربية وقطاع غزة، على معلومات استخباراتية يتم تحليلها داخل “مديرية المخابرات العسكرية”.
ومع الاستفادة من الصراع المحتدم فى العالم الافتراضي، والذي يسعى كل طرف لفضح الطرف الآخر، وكشف معلوماته على “شبكة المعلومات الدولية” أعطى ذلك الفرصة للوحدة “8200” في رسم خريطة كاملة للأدوار والمسؤوليات، وهرم القيادة داخل “حزب الله”، وتحديد من هم وتاريخ أفعالهم وخريطة تحركاتهم.
لقد وضع “الموساد” الأسس لعمليات اغتيال قيادات “حزب الله” والتنسيق مع أجهزة مخابرات دول صديقة كأميركا، أو عملاء في أجهزة دولة معادية كإيران، واستخدمت الاستخبارات العسكرية التكنولوجيا السيبرانية، وجمع المعلومات الاستخباراتية الإلكترونية، معظمها من قبل وحدة “8200”. وتم جمع معلومات استخباراتية بصرية يمكنها تحديد الإحداثيات والمواقع بدقة وبتقنية (الواقع المعزز) عن طريق الوحدة “9900”، وأخيراً، جمعت وحدة “504” معلومات من مصادر بشرية (عملاء). تم تقديم هذه المعلومات إلى القوات الجوية للتخطيط للضربة، وقامت “الوحدة 119” في سلاح الجو بتنفيذ الضربة. وبعد الهجمات، تم بذل جهد استخباراتي آخر لقياس نتائج الضربة، وتأكيد نتائجها، مما مكن الإعلام العسكري الإسرائيلي من إعلان خبر مقتل قادة عقب تنفيذ العملية مباشرة.
المعلومات الاستخباراتية التي تم تقديمها إلى سلاح الجو الإسرائيلي، فصلت العمق الدقيق للمخبأ والموقع الدقيق للغرفة، التي اجتمع فيها نصرالله وغيره من كبار القادة، ووفرت أيضا المعلومات الاستخباراتية للطيارين حساب الزوايا، التي يجب أن تصيبها القنابل والارتفاع الذي يجب إرسالها منه للوصول إلى الجزء الأيمن من القبو. لا يمكن إنجاز هذا إلا في سلسلة من العمليات الاستخباراتية، وتراكم معلوماتي على مدى فترة زمنية طويلة.