د. رامي عاشور
دكتور العلوم السياسية والأمن الدولي، زميل أكاديمية ناصر العسكرية العليا
مقدمة:
برزت أهمية شركات الأمن الخاصة من عملها ككيان مستقل ظاهريًّا عن مؤسسات الدولة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية بشكل غير مباشر، وكيان يتمتع بمرونة أكثر في تحقيق تلك الأهداف، وهو ما اتضح فيما بعد من نشاط هذه الشركات بشكل ملحوظ في إدارة العمليات الاستخباراتية والعسكرية في العديد من الأزمات والصراعات –ليس فقط في الحروب التقليدية-، ولكن أيضًا حروب الوكالة والحروب السيبرانية.
ترتيبًا على ما سبق؛ تتمثل أهم خدمات هذه الشركات في حماية الممتلكات والأفراد، خاصةً في مناطق الحروب، وكذلك الحصول على المعلومات من خلال التجسس والاستطلاع والمهام الاستخباراتية، بالإضافة إلى الاستطلاع الجوي إذا ما توفرت لها الإمكانيات الملائمة لتحقيق ذلك، لكن الأهم هو قيامها بتدريب عناصر حكومية، ومن ثَمَّ تطورت مهام تلك الشركات من دور تكميلي واستشاري إلى رسم وصياغة السياسة الخارجية لبعض الدول كعقل مُدبّر وذراع مُنفّذ.
في ظل ذلك، تأتي مجموعة فاغنر، كأحد أبرز تلك الشركات والتي تعمل لحساب الدولة الروسية بغرض تحقيق أهدافها الاستراتيجية في العديد من البلدان الإفريقية جنوب الصحراء.
ما هي شركة فاغنر؟
هي شركة عسكرية روسية خاصة، عبارة عن جماعة مرتزقة لها نشاط فعَّال جدًّا في كافة الصراعات المتدخلة روسيا فيها خاصة الصراع السوري والأوكراني، ولها نشاط في العديد من البلدان الإفريقية، وهى تعمل مع فصائل الصراع بالتوازي في وقتٍ واحد، كما في حالة جمهورية إفريقيا الوسطى، فقوات فاغنر موجودة مع كل من المتمردين والقوات الحكومية النظامية، بينما يكون معظم عملها في الأراضي التي يسيطر عليها المتمردون.
من جهة أخرى، تعمل شركة فاغنر على قمع أيّ محاولات للتحقيق في أنشطتها، غير أن كافة المعلومات المتاحة أكدت أنها جماعة تلعب دورًا مهمًّا بشكل متزايد لموسكو في الخارج وفي الداخل، وقد حققت الكثير من النجاحات العسكرية للدولة الروسية دون المخاطرة بفرد واحد من القوات الروسية النظامية (الجيش الروسي)(1).
تعود أصول شركة فاغنر إلى عام 2013م، عندما انخرطت باسم الفيلق السلافي في أعمال كارثية في سوريا بأمر من رجال أعمال روسيين مجهولين، ومن بعدها تم الإعلان عن اسم (فاغنر) كاسم يدل على وجود مجموعة مرتزقة مرتبطين ارتباطًا وثيقًا بوكالة الاستخبارات العسكرية الروسية، ولتلك الشركة أنشطة بارزة في كل من (ليبيا – جمهورية إفريقيا الوسطى – السودان – موزمبيق) تمامًا مثل النموذج السوري، وفي كل حالة من تلك الحالات يتشابه الموقف ويتشابه السيناريو؛ حيث يدعم الروس الزعيم المُحاصَر الذي يواجه تحديًا أمنيًّا في بلد استراتيجي جغرافيًّا يمتلك العديد من الثروات والموارد المعدنية أو الهيدروكربونية(2).
شركة فاغنر كأحد أدوات روسيا في تحقيق أهدافها في إفريقيا:
مع اقتصاد بحجم كوريا الجنوبية أو إسبانيا، ومنتجات متواضعة صناعيًّا خُصّصت لجذب السوق الإفريقية؛ تدير روسيا مستوًى متواضعًا من التجارة مع إفريقيا، يصل إلى حوالي 20 مليار دولار سنويًّا (حوالي عُشر معدل التجارة بين الصين وإفريقيا)، فضلًا عن عدم تقديمها لأيّ صدًى أيديولوجيّ أو تأثير اجتماعيّ أو ثقافيّ مقنع للكثيرين في إفريقيا.
على الرغم من ذلك، اكتسبت روسيا نفوذًا هائلاً في إفريقيا في السنوات الأخيرة؛ من خلال استغلال الأوراق التي تمتلكها واللعب بها جيدًا؛ حيث حققت روسيا أكبر قدر من النفوذ في كل من (ليبيا – جمهورية إفريقيا الوسطى – السودان – مدغشقر – موزمبيق – مالي)، باستخدامها الذكي أو (الخبيث) من وجهة نظر البعض، لمزيج من التدخلات غير المباشرة -عبر مجموعات المرتزقة- والتضليل لدعم القادة أو الوكلاء (رجال روسيا) المعزولين، فهذا هو الرمح المدبَّب لمجموعة من الارتباطات التي تهدف إلى تعزيز صورة روسية بشكل إيجابي يعمل على توفير منصَّة لتعزيز دبلوماسيتها القائمة على تجنيد النخبة في الدول الأخرى.
من هنا، تُقدِّم ليبيا نبذة صريحة عن كيفية متابعة روسيا لأهدافها الاستراتيجية في إفريقيا؛ من حيث توسيع النفوذ الجيوسياسي عن طريق المشاريع منخفضة التكلفة التي تحقّق مكاسب اقتصادية غير متوقعة لموسكو وشركاء الرئيس فلاديمير بوتين المقربين، والتي يصفها البعض بأنها انتهازية؛ حيث تعمل روسيا في اصطياد الفرص السياسية من خلال نشر قوات المرتزقة بسرعة عندما تظهر الأزمات، على غرار ما فعلته في سوريا، وهى بذلك تتحسب لزيادة -أو بالأحرى توسيع عرض- القوة الروسية بما في ذلك المواقع الاستراتيجية في شرق البحر الأبيض المتوسط وقناة السويس التي يمكن أن تؤثّر على نشر قوات الناتو في أوقات الأزمات(3).
من جهة أخرى، يرى فلاديمير بوتين أن إفريقيا تُعتبر وسيلة لموازنة النفوذ الغربي من خلال التكتيكات غير المتكافئة، وبالمثل أدركت روسيا تأثير الاستقطاب الذي أحدثته التدفقات الكبيرة للاجئين السوريين على السياسة الأوروبية، وبالتالي، فإن الحفاظ على يد التحكم التي تنظم تدفق اللاجئين من إفريقيا يوفّر لروسيا مزيدًا من النفوذ على أوروبا، بالإضافة إلى أن اهتمام روسيا بإفريقيا -خاصة بعد ضمّها لشبه جزيرة القرم ومغامراتها في شرق أوكرانيا -، يوفر أيضًا فرصة لتعزيز رؤية بوتين لنظام عالمي متعدد الأقطاب(4).
إن معظم القارة الإفريقية، بحكوماتها الضعيفة، ومواردها الطبيعية الوفيرة، وموروثاتها الاستعمارية، وقربها من أوروبا، وأربعة وخمسين صوتًا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، توفر لروسيا مسرحًا سهلاً وجذابًا حيث يمكنها تعزيز مصالحها بتكاليف مالية أو سياسية محدودة.
الطبيعية العسكرية لعمل شركة (فاغنر):
لعبت (فاغنر) دورًا محوريًّا في المعارك الكبرى المتورطة فيها القوات الروسية؛ حيث عملت جنبًا إلى جنب مع القوات العسكرية الروسية، فبعد محادثات بين روسيا والسودان بشأن التعاون الأمني أواخر عام 2017م، ظهر شريط فيديو يظهر متعاقدين روس وهم يُدرّبون ميليشيات محلية موالية للحكومة في البلاد، وبعد ذلك، في مارس 2018م، أصدر الكرملين بيانًا مفاده أن (170) “مستشارًا مدنيًّا ” (يُفهم على نطاق واسع أنه يعني قوات فاغنر) قد وصلوا إلى جمهورية إفريقيا الوسطى لتدريب القوات الحكومية، وفي نهاية يوليو 2017م، ظهر (500) مقاتل آخر مزعوم من (فاغنر) على الحدود بين السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى(6).
ربما لا تكون إفريقيا جنوب الصحراء وجهة أحلام المقاتلين الروس، ولكنَّ هناك حافزًا ماليًّا ضخمًا يعمل على جذبهم لذلك، فعلى الرغم من انخفاض متوسط راتب شركة ( فاغنر) العام الماضي بمقدار الثلث عن قيمته الأولية (240 ألف روبل شهريًّا، أو ما يقرب من 3550 دولارًا)، فإن المعدل الحالي البالغ 160 ألف روبل لا يزال يفوق بكثير الأجور النموذجية في كامل حدود الدولة الروسية.
من جهة ثالثة، تلعب الدوافع الأيديولوجية أيضًا دورًا كبيرًا في توظيف مقاتلي فاغنر؛ حيث أصبح المجتمع الروسي أكثر عسكرة في السنوات الأخيرة، مع مبادرات حكومية جديدة لأفواج الشباب والتلقين العقائدي منذ سن مبكرة، فالرئيس فلاديمير بوتين اعتمد نهجًا يرمى إلى تشجيع هذه القومية المتشددة، تحت ستار “التعبئة الوطنية”، ومن هنا فإن (فاغنر)، مع رواتبها العالية ووعودها بالمغامرة الأجنبية، تُمثّل فرصًا جذابة للعديد من الشباب الروسي؛ حيث صرح أحد قادتها مؤخرًا لمجنديهم “حتى لو كنت على بعد 10000 كيلومتر من المنزل، فأنت لا تزال تقاتل من أجل الوطن الأم”.
من هنا، تُجسّد قارة إفريقيا هذه الاستراتيجية (استراتيجية فاغنر)، فهي تسمح لروسيا بالدخول في بيئة أجنبية معادية إلى حدّ كبير بأقل قدر من المخاطر، بالتوازي مع استغلال الفرص السياسية والاقتصادية في نفس الوقت، فاستغلت شركة (فاغنر) هذه الفرص على أعلى مستوى، لدرجة أنها تتولى الأن مسؤولية الحراسة والأمن الشخصي لرئيس جمهورية إفريقيا الوسطى(7).
لقد أمضت روسيا معظم العقد الماضي، تبحث عن إعادة تأكيد نفسها عالميًّا، فبعد المداهمات الناجحة إلى حد كبير في الشرق الأوسط، تُمثّل إفريقيا الخطوة التالية الطبيعية لسياسة بوتين الخارجية، الذي استغل بذكاء شديد الفراغ الناتجين عن انسحاب مئات الجنود الأمريكيين من إفريقيا، والكراهية الشديدة المنتشرة في جميع أنحاء جمهورية إفريقيا الوسطى تجاه الفرنسيين (الوسطاء التقليديين في مستعمرتهم السابقة)، ليُثَبِّت أقدامه في إفريقيا الوسطى، بالإضافة إلى موارد الذهب والماس المربحة لروسيا هناك من خلال وسيطها (فاغنر).
وهناك أيضًا مؤشّرات على أن نموذج (فاغنر) يتم نسخه، ففي يوليو 2020م، ظهر الحديث عن شركة غير معروفة تسمى (باتريوت)، قِيل إنها على صلة جيدة بمسؤولين في وزارة الدفاع وتقدم رواتب أفضل من فاغنر، قد يصل إلى مليون روبل شهريًّا، وهو مبلغ لا يمكن تصوّره لأيّ شخص يعيش خارج مقر الرئاسة الروسية، لكن سيتضح فيما بعد بالضبط الدور الذي ستلعبه باتريوت أو فاغنر أو أي مقلدين آخرين في إفريقيا، وأي أماكن أخرى في المستقبل، ولكن من المؤكد أن الشركات العسكرية أو الأمنية الخاصة ستستمر وستبقى كأداة للسياسة الخارجية والداخلية الروسية(8).
خريطة انتشار شركة (فاغنر) في إفريقيا(9):
1-جمهورية إفريقيا الوسطى
أبرمت روسيا صفقة مع الرئيس المنتخب لجمهورية إفريقيا الوسطى، (فوستين أرشانج تواديرا) في عام 2018م، للمساعدة في درء تهديد من مسلحي سيليكا. وتم نشر ما يقدر بنحو 400 من جنود فاغنر في شمال جمهورية إفريقيا الوسطى.
وأصبح الروسي، (فاليري زاخاروف)، مستشار الأمن القومي لتواديرا، وتم بعد ذلك إقالة وزير الخارجية (شارل أرميل دوبان)؛ بسبب عدم موافقته على النفوذ الروسي غير المبرر.
وتشير بعض التقارير إلى أن (فاغنر) تفاوض في نفس الوقت على اتفاق لتقاسم الإيرادات مع المتمردين، وهي المسيطرة على مناجم الذهب والماس في الشمال بالأساس، تتفاوض شركة (فاغنر) من منطلق قوتها المشهود لها في جمهورية إفريقيا الوسطى، فقد شاركت في صدّ هجوم منفصل للمتمردين على مقاطعة (بانغي) بعد الانتخابات في ديسمبر 2020م، والتي أبقت (تواديرا) في السلطة، بدعم روسي نشط.
2-السودان
كانت روسيا داعمة للرئيس عمر البشير، وتمثلت أحد صور الدعم هذه في نشر قوات (فاغنر) لدعم الجيش السوداني مع الوصول إلى مناجم الذهب في غرب البلاد، وعندما واجه البشير احتجاجات على مستوى البلاد في عام 2019م، ورد أن مجموعة (فاغنر) نصحت البشير بقمع المحتجين بقسوة، لكن يبدو أن روسيا حافظت على نفوذها مع القادة العسكريين الذين أطاحوا بالبشير في نهاية المطاف، بما في ذلك الحفاظ على اتفاقيات التعدين التي تم التفاوض عليها مسبقًا.
3-موزمبيق
وردت تقارير عن انتشار مقاتلي (فاغنر) لمساعدة الحكومة الموزمبيقية على الاستجابة لتهديد الجماعات المسلحة سريعة الانتشار في الشمال، وليس من قبيل الصدفة أن المنطقة هي موطن لعملية تعدين الأحجار الكريمة بمليارات الدولارات واحتياطيات الغاز الوطني المسال.
4-مالي
في أعقاب انقلاب 18 أغسطس 2020م في مالي، نزل مؤيدو العمل العسكري المبتهجين إلى شوارع باماكو للاحتفال، والغريب أن بعض المحتفلين كانوا يُلوّحون بالأعلام الروسية، وكان العديد من الأشخاص الآخرين (يُقال: إنهم مقاتلي فاغنر في “زي مدني”) يحملون ملصقات متطابقة مطبوعة مسبقًا تحتفي بالتعاون المالي الروسي، وصورًا لفلاديمير بوتين، ورسائل تشكر روسيا على دعمها.
كان المشهد لافتًا للنظر في أن روسيا ليس لديها علاقات ثنائية أو ثقافية أو تاريخية قوية مع مالي، وعلى الرغم من أن المشاعر المؤيدة لروسيا تبدو متناقضة، إلا أنها كانت متَّسقة جدًّا مع خط الرسائل الذي بدأ في باماكو قبل عام بعد توقيع اتفاقية تعاون أمني غامضة بين مالي وروسيا(10).
التعاون الأمني الروسي الإفريقي:
وتتويجًا لذلك، تعمل روسيا على تعزيز انتشارها في إفريقيا بمبادرات رسمية على أعلى مستوى، من خلال حفاظها على سلسلة من المبادرات الأمنية والاقتصادية والثقافية التقليدية في إفريقيا، كان أبرزها قمة روسيا وإفريقيا في أكتوبر 2019م؛ حيث استضاف فلاديمير بوتين ثلاثة وأربعين رئيس دولة إفريقية في سوتشي، وخلال القمة، وعد بوتين بإعفاء الديون ومضاعفة التجارة مع إفريقيا على مدى السنوات الخمس المقبلة، كما حققت روسيا بعض مكاسب القوة الناعمة من خلال وعدها بتقديم ملايين الجرعات من لقاحات COVID-19 إلى الدول الإفريقية. على الرغم من هذه الحالات من التواصل البارز، لا يبدو أن المشاركات التقليدية هي المكان الذي تجني فيه موسكو أكبر فائدة جيوسياسية في إفريقيا، على الأقل على المدى القصير.
لم يأتِ ذلك التعاون من فراغ أو فجأة، بل روسيا تحضر له منذ سنوات، تحديدًا منذ استعادة مكانتها الدولية وضمها لجزيرة القرم؛ فقد وقَّعت ما يقرب من عشرين اتفاقية تعاون أمني في إفريقيا في السنوات الأخيرة، وهو توسُّع كبير من العلاقات الأمنية المحدودة التي حافظت عليها في القارة على مدار العقدين الماضيين(11).
يتمثل أحد الجوانب الملموسة لهذه الاتفاقيات في محاولة روسيا لتأمين منفذ وقاعدة لدعم العمليات البحرية في البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط؛ حيث تم إيلاء اهتمام خاص لموانئ بربرة (أرض الصومال)، مصوع وعصب (إريتريا)، بورتسودان (السودان).
ويشير هذا إلى وجود اهتمام بإبراز القوة على طول المواقع البحرية الاستراتيجية لمضيق باب المندب (جيبوتي- اليمن)، وقناة السويس، وشرق البحر الأبيض المتوسط، كما استكشفت روسيا إمكانية الوصول إلى الموانئ في جنوب إفريقيا مع موزمبيق وأجرت تدريبات بحرية مشتركة مع جنوب إفريقيا.
من جهة أخرى، تحتفظ روسيا ببرنامج تعليمي عسكري احترافي للأفراد العسكريين الأفارقة؛ حيث تقوم بتدريب ما يقرب من 500 من أفراد الخدمة الأفارقة سنويًّا، وبالرغم أن هذه البرامج محدودة العدد، فإنها توفر لروسيا منصة لنقل تفسيرها للعلاقات المدنية العسكرية داخل القارة، وكان رمز هذا التأثير المحتمل هو الرابط الذي نشرته الصحافة الروسية بأنَّ العديد من كبار الضباط المشاركين في انقلاب أغسطس 2020م في مالي قد عادوا مؤخرًا من التدريبات في روسيا، ففرص التعليم العسكري الاحترافي لروسيا تتيح الوصول المستمر إلى الضباط العسكريين الأفارقة من المستويات المتوسطة والعليا على مدار حياتهم المهنية(12).
تداعيات عمل شركة (فاغنر) في إفريقيا:
من الواضح أن عمل الشركات الأمنية أو العسكرية الخاصة آخِذٌ في الاستمرار، خاصة إذا ما كان ذلك الاستمرار هو نفسه أداة لتحقيق مصالح دولة وأهدافها خاصة إذا كانت هذه الدولة قوى كبرى ودولة من الطراز الأمني والعسكري الرفيع مثل روسيا الاتحادية التي أصبحت تبحث لها ليس عن موطئ قدم فقط، وإنما تعمل على بسط نفوذها الشامل على مقدّرات الدول الإفريقية بديلًا عن الاحتلال التقليدي (فرنسا – بريطانيا)، وهذا يتيح لي التأكيد على بأنه إذا كانت تلك الظروف غير المستقرة للعديد من الدول توفر فرصًا ضخمة لدول أخرى بحجم روسيا، فكيف تعمل روسيا على إنهاء حالة عدم الاستقرار في الدول الإفريقية، ومِن ثَمَّ تصبح روسيا مثل القوى الاستعمارية الأوروبية، ولكن بثوب جديد ظاهره الرحمة من سياسات الاستعمار التقليدي وباطنه تكرار نفس السياسات(13).
لكن بالنظر إلى أخطر دولة تنتشر بها شركة (فاغنر) –من وجهة نظري– وهي ليبيا؛ فإنه من الناحية الجغرافية الاستراتيجية، إذا أصبحت روسيا وسيطًا رئيسيًّا للسلطة في ليبيا مع تعزيز وجودها العسكري البحري والجوي غير المقيّد في شرق البحر الأبيض المتوسط، فإن روسيا تصبح في وضع أقوى لتهديد الحدود الجنوبية لأوروبا، وتعطيل التحركات البحرية لحلف الناتو في أوقات الأزمات؛ حيث تبعد مدينة سرت 700 ميل فقط عن روما، وترفع روسيا بالفعل مطالبتها باحتياطيات النفط والغاز غير المستغلة قبالة الساحل الليبي.
ترتيبًا على ذلك؛ أستطيع القول بأن اهتمام روسيا بتأمين الوصول إلى الموانئ في البحر الأحمر يُوسّع من قدرتها على أن تكون قوة مُعطِّلة للممر البحري والبحري على طول الساحل الشرقي لإفريقيا أيضًا؛ حيث سيتيح النفوذ الروسي في ليبيا ومنطقة الساحل لروسيا الوصول إلى النقاط الرئيسية للهجرة الإفريقية وطرق الاتجار بالبشر، وبالتالي فإن روسيا لديها القدرة على إثارة أزمات إنسانية وسياسية لأوروبا وهي تتحدَّى مجالات النفوذ الأوروبي التاريخي (الفرنسي في المقام الأول) في إفريقيا.
يُعتبر إضعاف الديمقراطية أيضًا من أهمّ التداعيات الاستراتيجية الأخرى للانخراط الروسي في إفريقيا؛ حيث تعمل روسيا على ضم القادة الأفارقة من خلال اتفاقيات غامضة غير مواتية للبلدان الإفريقية، وفي هذه العملية، يتم تهميش المشاركة الشعبية والوكالة الإفريقية بشكل عام، ممَّا يُعزّز الاستبداد، ويترتب على تدهور المعايير الديمقراطية انعكاسات مباشرة على الأمن والتنمية في إفريقيا، فجميع النزاعات في إفريقيا تقريبًا نشأت من الحكومات الاستبدادية، وبالتالي فإن المحاولات التي شهدتها القارة الإفريقية –على مدار السنوات السابقة- من الاستقرار والنموّ المستدام وسيادة القانون والسيطرة على الفساد والظروف المعيشية، سيتم دحرها جميعًا بفضل الجهود الروسية لدحر معايير الحكم الديمقراطي، وسيكون لها تأثيرات بعيدة المدى على الاستقرار والأمن في إفريقيا.
الخاتمة:
دفَع التراجع الجزئي الأمريكي عن دعم الدول الإفريقية، القوى العالمية الكبرى الأخرى المتنافسة معها، وخاصة روسيا، إلى السعي للعودة إلى عهدها السابق خلال فترة الاتحاد السوفييتي الذي كانت لروسيا اليد العليا في إفريقيا.
من هنا بدت الرغبة الروسية جامحة في ترسيخ موطئ قدم جديد في القمة الروسية الإفريقية التي عُقِدَتْ في مدينة سوتشي الروسية يومي 23 و24 أكتوبر 2019م، والتي تناولت تعزيز أواصر العلاقات الروسية الإفريقية في مختلف المجالات الاستراتيجية والسياسية والإفريقية والمجالات العسكرية، فمنذ وصول الرئيس فلاديمير بوتين إلى السلطة في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأت روسيا في تنفيذ استراتيجية متعددة المسارات لتحقيق مزيد من التوسُّع في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
ترتيبًا على ما سبق، كثَّفت روسيا من وجودها الرسمي (السياسي والدبلوماسي) وغير الرسمي (شركة فاغنر)؛ من خلال لعب دور الوسيط بين الأطراف المتصارعة في العديد من الدول الإفريقية، كما ساعدت في توفير الأسلحة والمعدات والتدريب العسكري اللازم لمكافحة التنظيمات الإرهابية المتطرفة في تلك الدول كجزء من عملها العالمي، بالإضافة إلى سعى روسيا إلى الاستفادة من الفرص الاقتصادية الواعدة في القارة الإفريقية من خلال توسيع نطاق عملها في التعدين واستكشاف الموارد المعدنية والهيدروكربونية.
(1) Neil Hauer,” Russia’s Favorite Mercenaries “
https://www.theatlantic.com/international/archive/2018/08/russian-mercenaries-wagner-africa/568435/
(2) Joseph Siegle, Russia’s Strategic Goals in Africa
https://africacenter.org/experts/joseph-siegle/russia-strategic-goals-africa/
(3) IDEM
(4) IDEM
(6) Neil Hauer,” Russia’s Favorite Mercenaries “
https://www.theatlantic.com/international/archive/2018/08/russian-mercenaries-wagner-africa/568435/
(7) idem
(8) Joseph Siegle, Russia’s Strategic Goals in Africa,op.cit
(9) R. Kim Cragin and Lachlan MacKenzie ,” Russia’s Escalating Use of Private Military Companies in Africa”,(Washington ; The Institute for National Strategic Studies , 2020 ) pp3-4.
(10) Alessandro Gagaridis, The Wagner Group: Intrigue, War, and Resource Extraction in Africa and Beyond, op.cit.
(11) IDEM
(12) Russian mercenaries accused of rights violations in Central African Republic
https://www.dw.com/en/russian-mercenaries-accused-of-rights-violations-in-central-african-republic/a-57201150
(13) Joseph Siegle, Russia’s Strategic Goals in Africa,op.cit
.
رابط المصدر: